شاهد الناس تسريبات متلفزة تمثل جزء من أجزاء مجزرة التراث العراقي الذي تعرض للنهب والحرق والتفجير، وذلك ضمن إطار حرب حرية العراق التي تروج لها إذاعة نحو الحرية التي تمولها المخابرات الأميركية.
وأصاب الناس الهلع عندما سمعوا نبأ سرقات وتدمير 170 ألف قطعة أثرية في المتحف الوطني العراقي ببغداد، والحقيقة أن المأساة طالت أكثر من نصف مليون قطعة أثرية منقوشة أو منحوتة أو مخطوطة، ويوجد في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا أكثر من مليون قطعة أثرية قبل هذه الحرب الفظيعة.
ومن المعلومات التي تسربت ما نقلته خدمة وكالة قدس برس التي قالت: اتهم شاهد عيان عراقي القوات الأميركية والبريطانية بنهب المتحف الوطني، وتنظيم عمليات حرق واسعة لمكتبات عراقية كبرى، وتنظيم عمليات النهب والسلب، التي عرفتها معظم المدن العراقية، مؤكدا في الوقت ذاته أن بعض المدن العراقية مازالت غير خاضعة للسيطرة الأميركية والبريطانية، وأن الأميركان يقومون فيها بين حين وآخر بعمليات إنزال لإظهار وجودهم فيها .
وقال الشاهد العراقي، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، لدواع أمنية، في تصريحات خاصة لوكالة قدس برس إن عملية نهب المتحف الوطني العراقي تمت على أيدي القوات الأميركية، وإن الكثير من الدبابات خرجت محملة بالكثير من الكنوز التراثية الثمينة، ثم أطلقت يد الغوغاء لاحقا، لتأتي على ما تبقى من كنوز العراق وآثاره، التي ترجع إلى آلاف السنين.
وشدد المصدر على أن القوات الأميركية كانت تعمد إلى فتح أبواب المؤسسات والمراكز والجامعات والوزارات العراقية، أمام الغوغاء وجماعات السلب، ثم تراقب ما يحدث، لضمان أكبر تخريب ممكن لتلك المؤسسات، متهما القوات الأميركية، بالوقوف وراء حرق مكتبة الأوقاف في العاصمة بغداد، التي أتلفت فيها آلاف المخطوطات التي لا تقدر بثمن.
وقال المصدر: هاجمت قوات أميركية غالبية مرافق الدولة، من مصارف ووزارات، وفتحتها أمام اللصوص ليعيثوا فيها فسادا، وتم تدمير أرشيف الدولة ومكتباتها الوطنية، وحتى المتحف العراقي لم يسلم من السرقة والنهب . ونقل المصدر عن شهود عيان أن دبابات أميركية حملت كنوز هذا المتحف، وتركت الفتات للسراق واللصوص .
وقدر المصدر عدد القطع المسروقة بـ 17 ألف قطعة لا تقدر بثمن، تروي قصة حضارة العراق منذ فجر التاريخ ، مشيرا إلى أن الخراب والحرائق طالت مكتبة الأوقاف في بغداد، وفيها النوادر من المخطوطات الإسلامية، التي أحرقت بالكامل .
بين تمثال بوذا وتراث العراق
وبما أن منظمة اليونسكو مسئولة عن حماية التراث الإنساني فقد تحركت بعد فوات الأوان ببرود لا يشبه حماسها الذي هز العالم عندما فجرت طالبان تمثال بوذا في باميان، ومن أجل حماية ما يمكن من تراث العراق جمعت اليونسكو ثلاثين خبيرا لبحث خسائر التراث العراقي، ونسب إلى اليونسكو انها ستستضيف في مقرها بباريس اجتماعا لثلاثين خبيرا لإجراء تقييم أولي لحال التراث الثقافي في العراق، وإعداد خطة عمل طارئة لحمايته. وأضافت ان العراق يوصف عادة بأنه مهد الحضارات كما أن عمر تراثه يعود إلى آلاف السنين.
ودعا مدير عام اليونسكو كويشيرو ماتسورا من جديد إلى اتخاذ إجراءات فورية لحماية ومراقبة المؤسسات الثقافية العراقية التي تندرج المكتبات ودوائر المحفوظات والسجلات من ضمنها. وكان ماتسورا قد طلب قبل أيام من سلطات الاحتلال الأميركية والبريطانية اتخاذ تدابير فورية لحماية ومراقبة المواقع الأثرية العراقية والمؤسسات الثقافية، وذلك عقب تعرض متحف الآثار الوطني في بغداد للنهب.
وقد أكد ماتسورا في رسالتين وجههما إلى السلطات الأميركية والبريطانية في الحادي عشر من أبريل/نيسان 2003 الحاجة إلى الحفاظ على المجموعات الأثرية العراقية الغنية التي تعد إحدى أهم المجموعات من نوعها في العالم. وشدد على ضرورة تقديم الحماية العسكرية لمتاحف الآثار في بغداد والموصل والبصرة ومنع التصدير غير القانوني للقطع التراثية العراقية.
وأجرى ماتسورا اتصالات مع كل من حكومات البلدان المجاورة للعراق والشرطة الدولية ومسئولي الجمارك الدوليين طالبا منهم العمل على ضمان احترام اتفاقية اليونسكو لحظر ومنع الاستيراد والتصدير والنقل غير القانوني للأملاك التراثية لسنة ،1970 لكن بريطانيا والولايات المتحدة ليستا من الدول الموقعة عليها، ولذلك فإنهما غير ملزمتين بتطبيق ما نصت عليه الاتفاقية المذكورة.
وطلب ماتسورا آنذاك من سائر الأطراف المعنية بالآثار، ومنها المنظمة الدولية للشرطة الجنائية الإنتربول ومنظمة الجمارك العالمية والاتحاد الكونفدرالي لجمعيات المتعاملين بالفنون والآثار ومجلس المتاحف الدولي والمجلس الدولي للمعالم والمواقع الأثرية، أن تضم جهودها إلى جهود اليونسكو كي تمنع بيع الآثار العراقية.
ولكن خبراء الآثار الذين اجتمعوا في اليونسكو لم يتمكنوا من حماية التراث العراقي، ورجحوا أن تكون عمليات سرقة الآثار العراقية المهمة قد جرت على أيدي عصابات كانت تعلم - على ما يبدو - بسيناريوهات الحرب، وذلك بعد أن تبينت - لخبراء الأمم المتحدة - الأضرار التي لحقت بالمتاحف العراقية، وتبين أن مفاتيح خاصة بالأقبية وقاطعات زجاج قد استخدمت لانتزاع القطع الأثرية، وهذا ما يشير الى مشاركة لصوص محترفين في السرقات، وليست العملية عفوية كما احلولى لبعض وسائل الإعلام تقديمها على أنها من عمل الناقمين العراقيين.
ولكن المعلومات الصحافية أفادت أن قطع الآثار العراقية المنهوبة وصلت إلى مطار هيثرو في لندن، وتم تداول صور بالبريد الإلكتروني تبرز صور اللصوص من الجيش الأميركي وهم يخلعون صفائح الذهب والفضة من جدران القصور والمتاحف العراقية المحتلة.
]بيرل احد المتورطين !
كما تسربت أنباء عن تورط بيرل بسرقة آثار العراق، ولكن فرنسا رفضت التعليق على اتهامات لبيرل بسرقة آثار العراق، ونأت الخارجية الفرنسية بنفسها عن تقارير عن تورط ريتشارد بيرل الملقب بأمير الظلام ومستشار البنتاغون في سرقة آثار العراق، إذ ضبطت باريس خمسمئة قطعة أثرية مهربة من بغداد. وقال الناطق باسم الخارجية الفرنسية برنار فاليرو في تصريح لمراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط في باريس، انه لا يستطيع التعليق على هذا الموضوع لأنه ليس لديه أية معلومات عنه. وكانت أنباء ترددت في اجتماع حماية التراث العراقي في اليونسكو بباريس عن احتمالات تورط بيرل مع عصابات الجريمة المنظمة الدولية التي توجه إليها الاتهامات بتنظيم سرقة الآثار العراقية تحت غطاء الغوغاء الذين ظهروا على شاشات التلفزيونات وهم ينهبون هذه الآثار. ومن المعلوم أن أمير الظلام الأميركي من أشهر المحرضين على هذه الحرب العدوانية، وهو من مشاهير صهاينة البيت الأبيض، ويبدو أنه قرر سرقة آثار العراق بالتآمر مع إخوانه في تل أبيب لطمس هوية الحضارات التي ازدهرت في بلاد ما بين النهرين.
ونظرا لما تعرضت له مكتبات العراق من مآس فإننا سنلقي الضوء عليها، وغايتنا تنبيه ذوي السلطة إلى هذا الخطر العالمي الذي ساء الحضارة الإنسانية، وألحق بها الأذى جراء العبث بمكتبات العراق، التي لم تكن الأولى من حيث التدمير، وربما لن تكون الأخيرة في ظل تفاقم الجهل، وجشع تجار المخطوطات المرتبطين بعصابات عالمية مؤدلجة تطمح إلى طمس حضارات منطقة الشرق الأوسط، والإبقاء على ما يخص اليهود فقط لا غير، وذلك من أجل تكريس دعوى أرض الميعاد، والنبوءات التوراتية التي تدعمها كنيسة المسيحيين الصهاينة في أميركا وغيرها من دول التحالف الذي يدعم التوجهات الصهيونية وقيام إسرائيل الكبرى.
موطن الابجدية المسمارية
يعلم الأصدقاء والأعداء أن مكتبات بلاد الشام وبلاد الرافدين عريقة جدا، ولا غرابة في ذلك بالنسبة إلى موطن الأبجديات المسمارية، وما تلاها من أبجديات متنوعة انتشرت في بقية مناطق العالم الذي مازالت فيه أمم من دون أبجديات، ولكنها تستعير أبجديات مناطق أخرى أخذت أسس أبجدياتها من مهد الأبجديات في بلاد الشام والرافدين.
وعندما نتحدث عن المكتبات فإننا لا نقتصر على الكتب المتداولة في زماننا، وإنما نقصد كل ما كتبه الناس بغض النظر عن الأدوات سواء أكانت من الورق أو الجلود الرقوق أو الحجارة أو المعدن أو الأخشاب أو الفخار، أو جدران الكهوف، ولذلك نرى أننا اطلعنا على جزء من المكتبات الإنسانية، ومازال باطن الأرض يختزن الكثير من المكتبات وأسرارها التي تميط اللثام عن حضارات إنسانية مجهولة، سادت ثم بادت وغرقت في التاريخ المجهول.
ومن يتتبع أخبار المكتبات القديمة يجد أنها متنوعة، فمنها ما هو خاص بالأشخاص، وما هو عام للجمهور، وبعضها ديني خصص للمعابد والأديرة والمساجد والمدارس، والآخر دنيوي تناول العلوم والمعارف بشكل عام، وبعضها حكومي له علاقة بالسجلات الرسمية والدواوين، والآخر شعبي تكون في الأسواق، وهذا واضح لمن يتتبع أنباء الكتب والمكتبات. ويلعب تقدم الزمن دورا مهما في تقديم المعلومات الخاصة بالمكتبات، فكلما تقدم الزمن تقل المعلومات، وكلما كان الزمن متأخرا تتوافر لنا معلومات أوفر تسهم في إلقاء الأضواء على المكتبات من حيث أنواعها ومحتوياتها.
إن الحديث المفصل عن مكتبات العراق يتطلب مجلدات، ولكن هذا لا يمنع من عرض موجز يسلط الضوء على هول الكارثة. وقد كتب الباحث العراقي الراحل كوركيس عواد كتابا تحت عنوان خزائن الكتب القديمة في العراق، منذ أقدم العصور حتى سنة 1000 للهجرة ونشرت الطبعة الثانية من الكتاب دار الرائد العربي في بيروت سنة 1986م، وهذا يعني أن الكتاب لم يشمل مكتبات العراق خلال الأربعة قرون الماضية، وقد جاء في الكتاب عرض لمسيرة الاستكشافات في خزانة نفر التي تعرف في المصادر الإفرنجية باسم Nippur وهي مدينة دائرية قامت على ضفاف نهر شط النيل المتفرع عن نهر الفرات، وهي تبعد عن بابل مسافة 130 كلم باتجاه الجنوب.
ويستفاد من المعلومات المتوافرة أن أول من بدأ التنقيب في موقع مدينة نفر العام 1889 هو الآثاري الأميركي بيترس، ومعه بعض المنقبين الأميركان أمثال: هلبرخت H. D. Hilprecht وهربر R. F. Harper ودينلي J. Dyneley وبرنس J. D. Prince وهينس J. H. Haynes وقد اكتشفوا حينذاك أكثر من ألفي لوح من الألواح الطينية المكتوبة. وكتب بيترس بحثا وصف فيه ألواح تلك المكتبة، ونشره سنة 1905 م Peters J. P. The Nippur Library. JAOS, XXVI، ،1905 PP: 145-146 .
وفي السنة الثانية للتنقيب اكتشف بيترس وهينس ثمانية آلاف لوح، ثم عاودا التنقيب مع فريق أميركي كبير من سنة 1893م حتى شهر فبراير/ شباط سنة 1896 م، فاكتشفوا ما يربو على 20 ألف لوح.
وفي العام 1898 عين هلبرخت مديرا للتنقيبات في نفر، وعاود هينس عمله، واستطاع المنقبون اكتشاف خزانة كتب معبد أنليل التي تضم 23 ألف لوح يعود تاريخها إلى الفترة الواقعة ما بين سنة 2700 و سنة 2800 قبل الميلاد، وبذلك غنمت جامعة بنسلفانيا الأميركية ما يزيد على خمسين ألف لوح من ألواح العراق، وعددا كبيرا من قطع الآثار المتنوعة التي تلقي الأضواء على تاريخ بلاد ما بين النهرين، وتفند الكثير من الدعوات التوراتية التي يروج لها الصهاينة.
ويستفاد من المعلومات التي نشرت عن مكتبة نفر أن تلك المكتبة قد ضمت وثائق طينية تتضمن كل ما كان يدرس من موضوعات في مدارس تلك العصور القديمة، وتتضمن مؤلفات متكاملة ومصادر ومراجع، ولوحات لها دلالات دينية كالتسبيح والأدعية والصلوات والتعاويذ والأساطير، كما تضم وسائل إيضاح مدرسية، وعلوم الرياضيات والفلك والتنجيم والطب والتاريخ واللغة، والسجلات الحكومية التي تتضمن جداول بأسماء الملوك والحكام وما عاصروه من حوادث تاريخية بحسب تسلسل السنوات.
ولعل أبرز ما تضمنته تلك الألواح جدول الضرب، وجداول الألفاظ اللغوية المترادفة، والأسماء الجغرافية العامة وما فيها من أسماء المدن والسهول والجبال والأنهار، وأسماء الجماد والنبات والحيوان، وأسماء الصناعات التي كانت شائعة، وإيضاح طرق التصنيع بشكل منهجي مدرسي.
ومكتبة نفر ليست الوحيدة التي نهبها الأميركان وغيرهم من دعاة الحضارة الغربية، فقد كانت في العراق مكتبات أخرى تعرضت للسلب والنهب تحت حماية القوات الغازية، أو بواسطة عصابات التهريب الرسمية والشعبية، وكلها تخدم في النهاية الخطط الصهيونية تنفيذا لمؤامرة كبرى تلغي تاريخ المنطقة الواقعة ما بين نهر الفرات ونهر النيل.
اخراس الصوت المعارض للتوراة
ويعود تاريخ خزائن الكتب العراقية والسورية والمصرية القديمة إلى ما قبل موسى ع ، وإلى ما قبل التوراة. وبعض الخزائن يعاصر زمن التوراة، وتقدم الألواح الطينية والفخارية والحجرية معلومات تتعارض مع التوراة المتداولة حاليا، وقد تناقضها ما يسبب حرجا للأصوليين اليهود الذي دأبوا على إتلاف كل ما يعارض توراتهم من كتابات قديمة. ولذلك سيطروا على المتاحف ووظفوها لخدمتهم، كما سيطروا على الدراسات اللغوية، وتجارة العاديات الأنتيك ومؤسسات المزاد الخاصة بها، وبذلوا الأموال الطائلة من أجل السيطرة على صناعة المناهج المدرسية في العالم بشكل يخدم أهدافهم تحت مسمى تطوير المناهج المدرسية، وزودوا عصابات المؤلفين بوثائق تاريخية ولوحات تخدم أهدافهم المزعومة، وحجبوا عنهم الوثائق التاريخية التي تعارض الدعوى الأصولية اليهودية الصهيونية.
ومازالت آلاف المكتبات القديمة تحت أنقاض التلول في العراق ومصر والشام، وفي العراق تم اكتشاف المكتبات الآتية التي تسمى خزائن، ويعود تاريخها إلى فترة ما قبل الميلاد: نفر، دريهم، نينوى، مدينة أدب، سبار، الجمجمة، كيش، تلو، الوركاء، تل حرمل، آشور، نوزي، المدائن - قطيسفون، وغيرها من الخزائن الأقل شهرة.
ومن خزائن مكتبات العراق في فترة ما بعد ميلاد عيسى ع ، خزانة مرقد حزقيال، وخزائن كتب الأديرة أو الديارات وهي : دير متى، ودير ميخائيل، ودير مار بهنام، ودير يونس - دير يونان، ودير بيت عابي، ودير الربان هرمزد، ودير باقوفا، والدير الأعلى.
إن عيون الأصوليين اليهود شاخصة نحو محتويات هذه الخزائن العراقية، وغيرها من خزائن بلاد العرب والمسلمين، وتضاف إلى الخزائن القديمة خزائن الكتب الإسلامية المخطوطة التي تطورت في العراق الذي ضم مكتبات الخلفاء العباسيين، وأشهرها: مكتبة المنصور، ودار الحكمة التي رعاها هارون الرشيد وابنه الأمين ثم المأمون، وخزانة المعتضد، وخزائن: المكتفي، والراضي بالله، والقائم بأمر الله، والمقتدي بالله، والناصر لدين الله، والمستنصر بالله المعروفة بالمستنصرية، والمستعصم بالله، ودار المسناة البغدادية. وتضاف إلى خزائن الخلفاء مكتبات الملوك والسلاطين والوزراء والعلماء، وخزائن المكتبات العامة والخاصة، وأوقاف المساجد والتكايا والزوايا والرباطات، والمدارس وخاصة المدارس النظامية الشافعية التي انتشرت في رحاب العالم الإسلامي.
المغول احرقوا والاميركان سرقوا
وقد تعرضت الكتب لآفات كثيرة نذكر منها الإحراق بالنار، والإغراق بالماء، والوأد بالتراب، والغسيل والمسح، وقد شهدت على إغراق الكتب مأساة سقوط بغداد سنة 656هـ/ 1258م ، وما فعله جيش هولاكو الوثني، وتجلت مأساة حرق كتب مكتبات الأندلس في ساحة غرناطة سنة 1492م على أيدي أنصار الكاثوليكي فرديناندو وإيزابيلا. كما تجلت مأساة مخطوطات يوغسلافيا السابقة بحرق أكثر من خمسة آلاف مخطوطة نادرة في مركز الاستشراق في سراييفو بنيران المدفعية الصربية الرومية الأرثوذوكسية أثناء الحرب التي أعقبت انهيار الاتحاد اليوغسلافي في العقد الأخير من القرن العشرين. وهكذا تعدد الأعداء وتوحدت أهدافهم في النيل من التراث العربي والإسلامي في أكثر من مكان، وأكثر من زمان.
والجديد في مآسي مكتبات التراث ما تعرضت له مكتبات العراق في ظل الاحتلال الأنجلو - أميركي من نهب وسلب وإتلاف. وقد لفت انتباه المهتمين بالتراث تحويل حركة سير القوات الأميركية نحو مدينة الكفل العراقية بشكل خاص، وكان بإمكانها الوصول إلى بغداد بطريق أقرب من طريق الكفل، وتلك الحركة تدل على أن سبب ذلك التوجه هو سرقة مخطوطة التلمود القديمة التي كانت في مكتبة الكفل، ولا يستبعد وجود لصوص آثار صهاينة مع القوات الغازية، وهم أصحاب خبرة في محتويات مكتبات العراق القديمة والحديثة.
لقد أسفر الغزو الأنجلو - أميركي عن مآس عراقية وعربية وعالمية شملت الأرواح والأبدان، واستهدفت التراث بشكل عام، وتراث المسلمين بشكل خاص. وساهم في نجاح هذه المؤامرة غباء مثقفي النظام العراقي الذين جمعوا الكثير من التراث في العاصمة بغداد ما سهل إبادته لاحقا على أيدي المعتدين. والدليل على ذلك دار صدام للمخطوطات التي جمعت فيها آلاف المخطوطات من نواحي العراق كافة خلال السنوات الماضية ثم سرق منها ما سرق، وحرق ما حرق، ولذلك فإننا ننبه بقية الدول العربية إلى الخطر الذي يتهدد تراثها المجموع، والذي لم يصور، ولا توجد منه نسخ متعددة، ونأمل أن تعاد المخطوطات إلى المكتبات الأصلية الموزعة في المحافظات والمناطق لعلها تسلم إذا ما حصل غزو خارجي أو وقعت فتنة داخلية، راجين أن يبقى تراثنا برعاية العلماء، لا تحت تصرف اللصوص والعملاء.
ملاحظة : نشر هذا البحث أيضا في جريدة الوسط في مملكة البحرين
د . محمود السيد الدغيم
باحث أكاديمي سوري جامعة لندن
كلية الدراسات الشرقية والإفريقية
SOAS