ألا فاسقني خمراً و قل لي هي الخمرُ
و لا تسقني سرّاً إذا أمكنَ الجهرُ
فما الغـُـبـنُ إلاّ أن تراني صاحياً
و ما الـغـُنـمُ إلاّ أن يُتعتعني السُكرُ
فـبُـحْ باسم من تهوى و دعني من الكُنى
فلا خـيـر فـي اللـذّاتِ من دونها سترُ
رغم مجون أبي نواس و فسقه الشهير ، فإنك لا تملك و أنت تقرأه إلاّ أن تقرّ بعبقريّته في تصوير الحياة زمن الخلافة العباسية بكل تفاصيلها ، ففي شعره رصد حيّ و دقيق لحقبة من الزمن انصهرت فيها شتـّى الأعراق و اللغات و الأديان ، فنهل منها النواسي حتى ثمل ، و خرجت في شعره لوحات ناطقة بصخب الحياة كما عاشها ..
و من التجنّي أن يُوصف صاحب هذه الحياة العابثة اللاهية بأنه أحد غـُلاة الشعوبيين ، لمجرد أنه أبغض عيش العرب و فضـّل عليهم الفرس ..
ليستْ لذهلٍ و لا شيبانها وطناً
لكنها لبني الأحرارِ أوطانُ
أرضٌ تبنـّى بها كسرى دساكرهُ
فما بها من بني الرعناءِ انسانُ
و ما بها من هشيم العرب عرفجةٌ
و ما بها من غذاء العرب حُطبانُ
و بنو الأحرار هنا هم الفرس ، و لكَ أن تحزر من كان بنو الرعناء
فقد وجد النواسي - و الحق معه - أن بلاد العرب قاحلة من البهجة ، عامرة بالجدب ، يسكنها بشرٌ أجلاف لا علم لهم برقة العيش و دعته ، فنصح بأن لا يؤخذ اللهو عنهم :
و لا تأخذ عن الأعرابِ لهواً
و لا عيشاً فعيشهمُ جديبُ
ذرْ الألبانَ يشربها أناسٌ
رقيقُ العيشِ عندهمُ غريبُ
إذا رابَ الحليبُ فـبُـل عليهِ
و لا تحرجْ فما في ذاكَ حوبُ
فأطيبَ منه صافيةٌ شمولٌ
يطوفُ بكأسها ساقٍ أديبُ
و تهمة الشعوبية هذه تهمة باطلة ، لأن النواسي و إن كان فضّل الفرس على العرب و أعلى من شأنهم فذلك لأنه وجد في أسلوب عيشهم ما راق له من عبثٍ و صخب يألفهما من كان مثله ، فما كان الحماس العرقي ليحتلّ مكاناً في اهتمامات أبي نواس الغارق حتى أذنيه في اللهو و القصف .
فحماسات العربان و مفاخرهم المعتادة ، لم يقم لها النواسي وزناً و لا اعتباراً ، بل أشبعها تحقيراً و تسفيهاً لاذعين :
إذا مـا تـمـيـمـيٌّ أتـاكَ مُـفـاخــراً
فقل : عُـدَّ عن ذا ، كيفَ أكلكَ للضّبِّ ؟
تـُـفـاخرُ أبناءَ الملوكِ ســفــاهــةً
و بـَـوْلُـكَ يجري فوق ساقكَ و الكعبِ
و هو حين شُغف بالخمر و صرف جـُلّ وقته في شربها ملاحقاً الغلمان في أحياء بغداد ، فإنه لم يكن بدعةً في عصره ..
فتلك حقبة شهدت استقراراً سياسياً و انفتاحاً اجتماعياًَ و نهضة فكرية أنعشت جوانب الحياة ، مما جعل الترف يسري في أوصال الامبراطورية العربية ، فانطلق الناس يعبّون من خيرات ذلك النعيم ، منغمسين فيه ، مستفيدين من " التعددية " التي طبعت عصرهم ..
لذا فإن الانصراف إلى الملذات لم يكن حكراً على الشعراء ، و إنما شمل جميع الطبقات ، أشرافاً و رعاع .. من القصور الباذخة إلى الأكواخ الحقيرة ..
و طالما كان الوضع كذلك ، فإن النواسي لم يجهد في اخفاء ما كان عليه ، بل اصطبح و اغتبق على رؤوس الأشهاد ، و أعلن أنه سيلازم خمرته ما عاش ، و حجته في ذلك أن الناس على دين ملوكهم
فما زادني اللاّحونَ إلاّ لجاجةً
عليها لأني ما حييتُ رفيقها
أأرفضها و الله لم يرفض اسمها
و هذا أمير المؤمنين صديقها
هي الشمسُ إلاّ أن للشمسِ وقدةً
و قهوتنا في كل حُسنٍ تفوقها
و من أجمل ما يُقرأ في الخمريّات ، هو ذلك الجدال الظريف بين أبي نواس و باعة الخمور ، إمّا على السعر أو الكمية ، و أيضاً طريقته القصصية البارعة في إدارة الحوار شعراً ..
وا بأبـي ألـثـغ لاجـجـتـهُ ** فقال في غنجٍ و اخناثِ
لمّا رأي مني خلافي له : ** كم لقي الناثُ من الناثِ
نـازعـتهُ صهباءَ كرخيّةً ** قد حُلبتُ من خمر حرّاثِ
أو ينقل تفاصيل عملية البيع و الشراء :
لمّا وردناها نـُلمُّ بشيخها
علجٌ يُحدّثُ عن مصانعِ عادِ
قلنا : " السلام عليكَ " فقال : "
عليكم مني سلامُ تحيةٍ و ودادِ ..
ما رُمتمُ ؟ " قلنا " المُدام " ، فقال :
" قد وفـّقتم يا اخوتي لرشادِ
عندي مُدامٌ قد تقادم عهدها
عُصرتْ ، و لم يشعر بها أجدادي
فأكيلُ ؟ " ، قلنا : " بعد خُبرٍ إننا
لا نشتري سمكاً ببطنِ الوادي
جئنا بها " ، فأتى بكأسٍ أشرقتْ
منها الدجى و أضاءَ كـل سوادِ
و من المؤكد أن أفحش ما جاء به أبو نواس هو غزله بالمذكّر الذي ما كان إلاّ معبراً عن الإباحية في عصره ، فلا تعجب إن وجدته يُـعـرّض بأعلى سلطة دينية في البلاد ، و يجعلها قريناً يُجارى و متقدّماً تـُـتبع خطواته :
أنا الماجدُ اللوطيُّ ديني واحدُ
و إني من كسب المعاصي لراغبُ
أدينُ بدين الشيخِ يحيى ابن أكثمٍ **
و إني لمن يهوى الزنا لمُجانبُ
لكن ، فأنت و إن جعلك النواسي تحنق عليه بسبب " غـُلاميّاته " ، فلا يمكنك أن تنفي أنه صاغها بأسلوب هازل و ظريف يحملك على الابتسام ، فاقرأ و ابتسم و دعني مما سوى ذلك :
ما استكمل اللذّاتِ إلاّ فتى ،،، يشربُ و المُردُ نداماهُ
هــذا يــفــدّيـهِ و هــذا إذا ،،، ناولهُ القهوة حـيـّـــاهُ
و كلّما اشتاق إلـى قـٌـبـلـةٍ ،،، من واحدٍ ألثمهُ فـــاهُ
سُـقـيـا لدهرٍ كنتُ فيهِ لهم ،،، معاشراً ما كان أحلاهُ
نشربها صِرفاً و لم نقترع ،،، و شرطنا من نام "...."
بل و يقصّ عليك كيف أنه اضطر لإظهار التقوى و النسك " للظفر " بغلامٍ أمرد كان من " روّاد المساجد " ، فأخذ النواسي يغدو كلّ يوم مسبّحاً (( بسمتْ أبي ذرٍ و قلبِ أبي جهلِ ))
و أخشعُ في نفسي و أخفضُ ناظري
و سجّادتي في الوجه كالدرهمِ المطلي
و آمرُ المعروفِ لا من تقيّةٍ
و كيف و قولي لا يصدّقه فعلي
و محبرتي رأسُ الرياءِ و دفتري
و نعلاي في كفـّي من آلة الختلِ
أذُّمُّ فقيهاً ليس رأيي بفقههِ
و لكن لربّ المُرد مجتمع الشملِ
فكم أمرد قد قال والدهُ لهُ
عليك بهذا فإنهُ من أولي الفضلِ
يفرُّ به من أن يُصاحب شاطراً
كم فرّ من حرّ الجراج إلى القتلِ
و أخيراً
ينبغي القول ، أنه كان لا بد لروح ذلك العصر من نفوس تتمثـّل فيها و مواهب تسجل مظاهر المرح و المجون التي كانت السمة الأبرز في حياة أولئك الأقوام ، و أبو نواس واحدٌ ممن استجابت نفوسهم لدواعي الحسّ التي أتيحت لهم في تلك الظروف ، لكنه تفوّق على غيره ، فبرع في تصوير الجانب العابث اللاهي من النفس الإنسانية ، مستفيداً من " ممارساته " لهذا اللهو الذي أوغل فيهِ بعنف ، ناقلاً صورة خالدة و حية و صادقة للحياة العباسية لن تجدها إلاّ في شعره ..
و هنا بالتحديد تكمن القيمة الحقيقية لشعر أبي نواس كـ " مصوّر حاذق " ، برع في مهنته ، و امتلك " عيناً ثالثة " سجّل بها لقطات قيّمة لمن أراد التعرف على تفاصيل الحياة اليومية لبغداد ذاك الزمان ، و ليس من فلسفة توّهم البعض أنه يملكها ، فلخـّـص ذلك ببيتين :
لا الصولجانُ و لا الميدانُ يعجبني
و لا أحنُّ إلى صوتِ البواشيقِ
لكنّما العيشُ في اللذّات متكئاً
و في السماعِ و في مجّ الأباريقِ
---
** يحيى بن أكثم : قاضي قضاة المأمون ، كان واسع العلم بالفقه ، غزير الأدب ، تمتع بنفوذ واسع في بلاطه ، فلا يبرم الوزراء شيئاً دون الرجوع إليه . عُرف إلى جانب ذلك بميله إلى الصبيان