نواصل هذه المختارات من مذكرات السفير الأمريكي السابق إدوارد دجرجيان «خطر وفرصة: رحلة سفير أمريكي في الشرق الأوسط»:
(6) حوار المُختَلِفِيْن
بوضوح، لا يوجد ضمانات أن الحوار مع الإسلاميين سوف يؤدي في الواقع إلى فهم أكبر وحلول للمشاكل والاختلافات بيننا، ولا نستطيع افتراض أن دوافع أولئك الذين نستطيع عمل حوار معهم ستكون دائماً ذات فائدة. مثالان يخطران على بالي: حسن الترابي وراشد الغنوشي.
(7) الترابي يزور الخارجية الأمريكية.. «سراً»
في بداية التسعينيات عندما كنت مساعداً لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، زارني حسن الترابي في مكتبي وهو زعيم سياسي سوداني بارز كان في بداية حياته السياسية عضواً في حركة الإخوان المسلمين ثم انشق عنها لكونها جامدة ومتخلفة فكريا بالنسبة إليه. عندما زارني الترابي في مكتبي في واشنطن، كان يرتدي بدلة فاخرة من ثلاث قطع وكان يتصرف بطريقة لا تختلف عن كبار رجال الأعمال المحنكين في الشرق الأوسط الذين عرفتهم في بيروت. وخلال حديثنا، لاحظت أنه يملك معرفة كبيرة وعميقة لمعظم قضايا الشرق الأوسط، وعلاقة الولايات المتحدة والغرب بتلك القضايا. هذه ليست مفاجأة إذا علمنا أنه يحمل دكتوراه في القانون من السوربون ويتحدث بطلاقة مدهشة الفرنسية والإنكليزية، ولكن المثير لي حقاً أنه تحدث عن ضرورة إزالة الخلاف بين الشيعة والسنة وتوسيع حقوق المرأة في العالم الإسلامي؛ كما تحدث بإيجابية وثقة عن وجود «ديمقراطية إسلامية»! إنه الشخص نفسه الذي أسس المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي كان يقوده وهو يرتدي ملابسه السودانية التقليدية وعمامته، واستضاف زعماء حركات متطرفة من أنحاء العالم كافة.
(8) والغنوشي أيضاً ..
يراسل أمريكا «سراً»
وبالمثل، بعد أن ألقيت خطابي في «الميريديان هاوس» وصلتني رسالة طويلة من راشد الغنوشي، وهو قيادي إسلامي من جماعة الإخوان المسلمين، ومعارض للنظام التونسي، وقد هرب إلى لندن في عام 1989، ليفر من حكم بالسجن المؤبد. وعبّر الغنوشي في رسالته لي عن سعادته بأن خطبتي تضمنت أن الولايات المتحدة لا تعتبر الإسلام نفسه عدواً. وهذا بعض ما كتبه لي: «المسلمون لا يوجد لديهم مشاعر كراهية لكم كأمريكان ولا لوضعكم كقوة عظمى. ولكننا نريد حريتنا في بلداننا. نريد الحق في أن نختار النظام الذي نرتاح له. نريد أن تكون علاقتنا معكم مبنية على الصداقة وليس التبعية والخضوع. هناك إمكانية لتبادل الأفكار بيننا، وتبادل الخبرات والثقافات في عصر تحكمه قواعد المنافسة والتعاون بدلاً من قواعد السيطرة والخضوع». انتهى كلام الغنوشي. لقد كنت على علم تام أن هدف الغنوشي غير المباشر من تلك الرسالة اللطيفة هو كسب تعاطفي للحصول على فيزا ليدخل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والتي رفضنا باستمرار في وزارة الخارجية منحه إياها. ولهذا عكست عباراته بدهاء وخبث ما تريد الولايات المتحدة أن تسمعه من زعيم إسلامي مشهور، طبعاً.. إذا كان هناك أي سبب أو دليل ملموس للاعتقاد أن رسالته تعبر عن حقيقة أفكاره! ولكنه، مثل الترابي الذي يحترمه الغنوشي كثيراً، كان لديه دائماً وجه آخر؛ فهو يساند الثورة الإسلامية الإيرانية التي قادها آية الله الخميني، بل ويردد مصطلحات الخميني التي تصف أمريكا بـ «الشيطان الأعظم». وخلال حرب «عاصفة الصحراء» لتحرير الكويت، ساند الغنوشي صدام حسين بقوة للأسف.
(9) دكتور جيكل ومستر هايد: الترابي/الغنوشي نموذجاً
الغنوشي والترابي وكثيرون من أمثالهما من زعماء الحركات الإسلامية هم ببساطة مخادعون محترفون ويضعون أقنعة لكل مناسبة فيقولون للأمريكان ما يودون سماعه ثم يفصحون عن أفكارهم ومشاعرهم الحقيقية في خطب حماسية شعبوية أمام جماهيرهم للحفاظ على مواقعهم. ومن الممكن أيضاً، مع هذا، لكونهم يعرفون جيداً الإجابات اللائقة بمجادلاتهم، قد يكونون يسعون بالفعل إلى البحث عن فرص لكسب اعتراف الغرب. ولكن مهما كانت دوافعهم، فإن التواصل والحوار الموضوعي معهم سيؤدي على الأغلب إلى كشف نواياهم الحقيقية.
(10) في كازينو لبنان
واحد من أول انطباعاتي عن ماهية التناقضات في لبنان، حدث عندما زرت لأول مرة «كازينو لبنان»؛ وهو مركز فاخر للقمار والترفيه في مدينة جونية على ساحل البحر الأبيض المتوسط شمال بيروت. كنت أدخل قاعة الميسر في الكازينو وأشاهد مجموعة كبيرة من الفتيات الجميلات والمثيرات يلاطفن ويغازلن كباراً يجلسون باسترخاء على مقاعد مريحة ثم يبدأون في لعب الروليت.
(11) العودة إلى بيروت سائحاً
مع توقيع اتفاق الطائف عام 1989، الذي أنهى الحرب اللبنانية الأهلية، استطاع لبنان أن يبدأ العملية الطويلة والمؤلمة لعلاج جروحه، عدت إلى لبنان عدة مرات بعد انتهاء عملي في السفارة عام 1993. طرت فوق منطقة «رأس بيروت» في هيلكوبتر مع وزير الخارجية وارن كريستوفر في طريقنا إلى القصر الرئاسي في بعبدا. المناظر التي رأيتها تحتي كانت مهولة ومرعبة: دمار كامل لوسط المدينة وآثار القنابل والرصاص على المباني.. وعندها تذكرت بحسرة بيروت في عصرها الذهبي وأضوائها البراقة المتلألئة الرائعة.
(12) الشعب اللبناني يتكلم:
في شباط/فبراير 2000، عدت إلى بيروت مرة أخرى ولكن كنت خارج الخدمة وطلبت من الحراس تركي لأسير وحدي وسط بيروت مثل الأيام الجميلة القديمة. عدت إلى زيارة حي «عين المريسة»، حيث كانت توجد شقتي خلال الستينيات. المبنى ما يزال قائماً ورغم وجود علامات للرصاص والقذائف التي شوهته ولكنه لم ينهار. تذكرت التظاهرات الحاشدة تحت شقتي خلال حرب حزيرن/يونيو 1967. ركبت تاكسي وطلبت منه أن يأخذني في جولة لكي أرى الجامعة الأميركية في بيروت، وفندق الـ سانت جورج وشارع الحمراء، لكي أتذكر الماضي الجميل. ثم طلبت منه أن يتوقف في بيروت الغربية أمام صيدلية لشراء بعض الحاجيات. عندما دخلت الصيدلية ذهبت إلى البائع وسلمت عليه بالعربية وطلبت الحاجيات. طلب من ابنه أن يحضرها ثم بدأ يتفحصني وهو ينظر إلى وجهي بصورة جدية ثم قال: «أنا أعرفك!» قلت لنفسي: «ليتني لم أصرف الحراس!» ثم قال بنبرة واثقة «أنت السفير الأمريكي السابق دجرجيان لقد شاهدتك في التلفزيون والجرائد. ماذا تفعل هنا في لبنان مجدداً؟!».
ونظراً إلى تصاعد الكراهية ضد الأمريكان في لبنان، بدأت أخطط في عقلي للهروب بسرعة من الصيدلية ونظرت حولي للتأكد من مكان المخرج. ولكن قبل أن أتحرك خطوة، مد البائع يده فوق الكاونتر ليصافحني وقال مبتسماً: «نحن نحتاجكم! كلنا نحتاج أمريكا لكي تساعدنا لوقف القتال ونزيف الدماء. أرجوكم ساعدونا لصنع السلام. إنها الطريقة الوحيدة لإنهاء العنف في المنطقة». لقد كانت هذه الحادثة بالنسبة إلي تذكيراً عن دور أمريكا المؤثر في المنطقة في ضمير البسطاء (!!) كل ما استطعت قوله هو تطمينه أن أمريكا ستبقى مهتمة بعملية صنع السلام الصعبة في المنطقة. ثم غادرت نحو وسط بيروت. وعندما مشيت وسط المدينة تأثرت عندما رأيت عملية البناء الضخمة المعروفة باسم «مشروع سوليدير» التي ابتكرها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري. لقد أعطاني هذا أملاً أن بيروت بل حقاً كل لبنان سيتم إعادة إعماره قريباً وسيعاد إعادة اكتشاف جوهره وعبقريته الفريدة.
(13) إسحاق رابين معجب بحافظ الأسد
ومن أعظم المفارقات في حياتي أن أهم نصيحة دبلوماسية حصلت عليها كانت من إسحاق رابين، عندما كان يزور أمريكا عام 1988، كوزير للدفاع في إسرائيل وكنت وقتها نائب مساعد وزير الخارجية. دعاني وزير الدفاع فرانك كارلوتشي مع زوجتي لحضور حفل عشاء رسمي لتكريم رابين. عرفني كارلوتشي على رابين مباشرة وأضاف مازحاً ليحرجني: «دجرجيان سيصبح سفيرنا في سوريا قريبا»!! رابين، المشهور بالجدية، نظر إلي بحدة ثم تمهل ونفخ دخان سيجارته وقال بهدوء: «سوف تتعامل مع أصعب حاكم في العالم العربي. وأنصحك أن تكون حذراً عندما تتفاوض معه بخصوص أي اتفاق لأنه يقتنص الثغرات بمهارة في أي اتفاقية يتفاوض حولها، فعليك الحذر لأنه عندما يعثر على ثغرة صغيرة يستطيع بسهولة أن يجعل شاحنة ضخمة تمر من خلالها! ولكن لحسن حظك، تستطيع الاعتماد على كلمة حافظ الأسد عندما تتفق معه لأنه يلتزم بتعهداته بصور ممتازة هذه هي خبرتنا وتجاربنا معه». رابين شفط نفخه أخرى من سيجارته ومنحني ابتسامة باهته ثم صافحني باليد وتمنى لي حظاً سعيداً.
(14) مناورات حافظ الأسد السياسية
تحدثت مع إسحاق رابين بصورة شخصية غير رسمية كثيراً، وكنت استمتع بذلك لأنه أقوى وأهم شخص في إسرائيل يسعى إلى السلام. ذكر لي رابين إنه مرتاح لطريقتنا في البحث عن السلام، لكنه أبدى تحفظات. رابين، كان يصر أنه لا يستطيع أن يستمر في مفاوضة سوريا حول السلام ما لم يكن هناك اتفاق واضح حول طبيعة وهيئة العلاقات بعد السلام المنشود. وكان رابين منزعجاً جداً لأن الأسد ليس مستعداً لتأسيس علاقات «طبيعية». وأضاف رابين، الذي يتحدث العربية بطلاقة، أن حافظ الأسد مراوغ لأنه على سبيل المثال يستعمل مصطلحات ثعلبية لما بعد عملية السلام؛ فهو يترجم ويفسر ما يسمى بـ الإنكليزية (Normal Relations) لتكون بالعربية «علاقات عادية» وليس «علاقات طبيعية»!! «التطبيع» - يقول رابين - له عواقب وخيمة على الأسد الذي سيواجه صعوبة في الموافقة على تدفق آلاف السياح الإسرائيليين إلى دمشق. وأضاف رابين حرفياً: «هل يستطيع الأسد السماح لخمسين ألف سائح إسرائيلي سنوياً بدخول سوق الحميدية في دمشق؟»!
(15) أول لقاء أمريكي مع الإمام موسى الصدر
أعظم شخصية شيعية خرجت من بيئة لبنان المضطربة سياسياً، كان شيخاً اسمه موسى الصدر. وع لى الرغم من أنه ولد وتعلم في إيران، إلا أن أجداده عاشوا في لبنان في فترة ماضية كما يقال. ولذلك فهو على أية حال ليس متطفلاً على لبنان بالرغم من أن الأسئلة التي تبحث عن أسباب انتقاله من إيران لم تتوقف مطلقاً؟ وعلى أية حال، وبعد وصوله إلى مدينة صور عام 1959، استطاع بسرعة أن يصبح زعيماً لشيعة لبنان، أي الشخصية الرئيسة التي يجب التعامل معها باحترام وجدية من قبل الحكومة اللبنانية بخصوص الطائفة الشيعية. كما أضاف زعمه أن نسبه ينتمي إلى سلالة الرسول محمد (ص) لزيادة شعبيته عند الشيعة. ومع تعاون متواضع من الرئيس فؤاد شهاب الذي وصل إلى الرئاسة بعد الحرب الأهلية عام 1958، استطاع الصدر الحصول على بعض المكتسبات للشيعة اللبنانيين مثل مدرسة للتدريب المهني في مدينة صور تم تأسيسها بواسطة تبرعات من الحكومة ورجال أعمال شيعة. ولكنه كان يريد المزيد. وهذا شيء صعب عندما يكون جزءاً معتبراً من الشعب يعيش في حالة حرمان وفقر. وفي نظام لبنان ذي الطوائف المتعددة، كانت المجموعات الطائفية الرئيسة تتكون من ثلاث فئات فقط: المسيحيين المارونيين والسنة والدروز، وتمثلها رسمياً منظمات وهيئات قوية تماثل الأحزاب السياسية لكي تحصل على مطالبهم وحقوقهم. وعندما تأمل الصدر أن الشيعة لا يوجد لديهم هيئة مماثلة معترف بها، قام بقيادة الشيعة وأسس «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» عام 1969، وأصبح رئيساً له مدى الحياة.
إضافة تعليق جديد