نواصل هذه المختارات من مذكرات السفير الأمريكي السابق إدوارد دجرجيان «خطر وفرصة: رحلة سفير أمريكي في الشرق الأوسط»:
(15) أول لقاء أمريكي مع الإمام موسى الصدر (تتمة)
وخلال المراحل الأولى من حملة الصدر لتأسيس هذا المجلس، أصبحت على علم بنفوذه المتزايد ولاحظت أيضاً حقيقة أن بعض المنتمين إلى المؤسسة الدينية والسياسية في لبنان لم يكونوا يفهمون طبيعة هذه الشخصية الكاريزمية الذي كان أول من شجع الشيعة في لبنان للمطالبة بدور أكبر في إدارة شؤون بلادهم ولهذا قررت أنه يجب عليَّ أن أقابله لكي أتعرف مباشرة عليه وأفهم حالة المجتمع الشيعي اللبناني. معظم اتصالات السفارة الأمريكية كانت مع النخب الطائفية والسياسية والاقتصادية في البلد الذين يمثلون ثلاث طوائف فقط: مسيحيين، سنة، ودروز. لم نكن في السفارة أو حتى في واشنطن نملك معلومات موثقة عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للطائفة الشيعية في لبنان التي كان يبدو بوضوح أن أهميتها تتزايد بسرعة. قمت بعمل اتصالات سرية مع شخصية شيعية أعرفها للحصول على مقابلة مع الصدر لكي تكون أول اتصال رسمي معه. وبعد أسابيع عديدة من الانتظار اتصل بي أحد مساعدي الصدر وقال: «الإمام وافق على مقابلتي بشرط أن آتي بسيارتي الخاصة وبدون مرافقين» وأمرني أن أذهب إلى مدينة صور التاريخية وأدخل مدرسة ثانوية في ساعة محددة بعد نهاية الدراسة وأجلس على مقعد صخري تحت شجرة أمام ملعب لكرة القدم في المدرسة وأنتظر حتى قدوم الإمام. سعدت جدا بهذا الخبر ولكنني تيقنت من أنني لو طلبت الإذن من رؤسائي في السفارة سيرفضون لكونها مخاطرة كبيرة وسيطلبون إلغاء الاجتماع لأسباب أمنية، ولكنني قررت المضي في هذا الأمر على مسؤوليتي الشخصية. وفي اليوم والساعة المحددة في تشرين الأول-أكتوبر 1966، قدت سيارتي الخاصة (بيجو 404) ووصلت إلى المكان المحدد في الوقت المتفق عليه. انتظرت لأكثر من ساعة ونصف ثم بدأت أوسوس بأنني خدعت... أخيراً دخلت سيارة مرسيدس سيدان سوداء من بوابة المدرسة وتوجهت إلى ملعب كرة القدم ثم توقفت. خرج منها حارسان وفتحا الباب الخلفي ليخرج شخص تبدو عليه مظاهر الهيبة الشخصية والقوة وله نظرات حادة ولحية سوداء كثيفة ويرتدي عباءة سوداء وأيضاً عمامة سوداء. أعترف أنني شعرت بالخوف عندما بدأت بالاتجاه نحوه لأحييه باللغة العربية. رد التحية بلطف وحرارة، وبعد دردشة روتينية مهذبة، بدأنا أول حوار لنا. كان الحديث متشعباً وتطرقنا إلى وضع الشيعة في لبنان والحالة السياسية في لبنان وكذلك في العالم العربي، وأيضاً الصراع الإسرائيلي - العربي. وأذكر أن الصدر قال ذات مرة في خطبة مهمة له: «الدين وجد لتحرير الناس من الطاغوت وليخدم الضعفاء والمظلومين. ولكن عندما انتشر التدين، اكتشف الضعفاء أن الطواغيت غيروا مسلكهم وأصبحوا يحكمون باسم الدين مشهرين سيفه أمام خصومهم».
(16)رسالة من الرئيس رفيق الحريري
عندما عدت من لبنان إلى الولايات الأمريكية المتحدة، كتبت مقالة قصيرة عن رحلتي لبيروت لمجلة إنسايت Insight، وتكلمت عن تفاؤلي الحذر بخصوص المستقبل وعودة لبنان إلى عصره الذهبي كمركز أعمال وسياحة في الشرق الأوسط. وبعد مدة ليست طويلة من نشر المقالة تلقيت رسالة مفاجئة من رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري تقول: «قرأت مقالك في مجلة «إنسايت» بسرور عظيم واستمتعت كثيرا بذكرياتك عن بيروت في عصرها الذهبي وخاصة أضوائها البراقة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. إنها نفس نظرتك إلى بيروت التي تدفعنا لعمل كل ما نستطيع لإعادة إعمار المدينة التي وصفتها. كما تعرف، صورة لبنان وبيروت تغيرت كثيراً بسبب سنوات الحرب التعيسة، ومن الجيد أن هنالك نظرة متفائلة لصورة إيجابية لمستقبل لبنان. تغيير ذلك الانطباع وتلك الرؤية يحتاج إلى مقالات متفائلة مثل مقالك. لقد حاولنا تحقيق هذا الحلم لشعبنا بواسطة إعمار قلب بيروت كما ذكرت في مقالك. لم تكن هذه مهمة سهلة. ليس بسبب صعوبة العمل نفسه، ولكن لصعوبة إقناع الآخرين بأن حلمهم هو نفس رؤيتنا لبيروت. قلب بيروت بدأ ينبض مجدداً بنبضات مئات الألوف من اللبنانيين الذين يزورونه يومياً هذا النبض يتزايد يومياً في الليل عندما يذهب الناس لسماع الموسيقى وتناول الطعام أو الاسترخاء مع النرجيلة في عشرات المقاهي الجديدة وسط بيروت. أنا أزور مقهاي المفضل يومين كل أسبوع عندما أعبر الطريق من البرلمان إلى المقهى مع بعض الأصدقاء والصحافيين ثم نتحادث لإعادة اكتشاف قلب مدينتنا وصنع ذكريات جديدة لتحل مكان مآسي الحرب. شكراً لكلماتك الطيبة عن بيروت وإعادة بنائها. أنا أتشوق لرؤيتك مجدداً في لبنان لأدعوك لتناول القهوة معي في مقهاي المفضل» انتهى كلام رفيق الحريري. ولكن للأسف لم أستطع مطلقاً الاستجابة لعرض الحريري اللطيف لأنه اغتيل بوحشية في شباط-فبراير 2005.
(17)طفرة فكرية:
حافظ الأسد يتطور من «الكيان الصهيوني» إلى «إسرائيل»
في أول اجتماعاتي مع حافظ الأسد كان لا ينطق مطلقاً كلمة «إسرائيل» ولكنه يستعمل «الكيان الصهيوني»!! وأدركت بسرعة بعد بضعة حوارات معه أن معرفته بالمجتمع والسياسة الداخلية لإسرائيل كانت محدودة وسطحية جداً. لقد كان مستشاره عن الشأن الإسرائيلي هو شخص من أصل فلسطيني وهو مثقف مرموق اسمه «سعد إلياس»، وكان يتكلم بالعربية الفصحى فقط، ويقدم نصائحه المتشددة عن الشؤون الإسرائيلية. مكتب إلياس في القصر الرئاسي كان يحتوي على كميات هائلة من الصحف والمجلات الإسرائيلية التي يعلوها الغبار والمرصوصة بطريقة عمودية تصل إلى السقف تماماً. كان من الواضح أن السيد إلياس يتوق للعودة إلى بلاده ولكن أفكاره كانت متجمدة تماماً في الماضي ما أثر على فهم حافظ الأسد ونظرته العامة للشأن السياسي والاجتماعي والاقتصادي الداخلي الإسرائيلي. ولذلك حرصت في جميع اجتماعاتي العديدة مع الرئيس حافظ الأسد على شرح ومناقشة الوضع الاجتماعي والسياسي الداخلي في إسرائيل بالتفصيل، حتى يتعرف جيداً على ديناميكية الوضع المعقد داخل إسرائيل. كان الأسد يستمع إليَّ باهتمام بالغ ثم يبدأ كعادته في عمل مونولوغ، حيث يتكلم بصوت خفيض وهادئ مع نفسه بطريقته المعهودة عن تاريخ إسرائيل وكونها دخيلة على الشرق الأوسط. ولكن، بالرغم من كل هذا، تطور فكر الأسد خلال السنوات التي قضيتها في دمشق على الأقل بخصوص السياسة الإسرائيلية المعاصرة وأصبح لديه فهم أكبر للتحالفات السياسية المعقدة للكنيست وخصوصاً تأثير الأحزاب الدينية مثل حزب شاس المحافظ على تشكيل الحكومة الإسرائيلية. وهكذا استمررنا في الحوار حتى فاجأني ذات يوم عندما حدثت طفرة فكرية هائلة لديه عندما نطق اسم «إسرائيل» بدل مصطلح «الكيان الصهيوني»! ولحسن الحظ، استمر هذا الوضع حتى غادرت دمشق!
(18) حافظ الأسد يحاور اللوبي اليهودي الأمريكي في دمشق
كان حافظ الأسد ينقد دائماً وبعنف دور اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة. وخلال زيارة وفد من الكونغرس إلى دمشق واجتماعه مع الأسد قمت بتعريف أعضاء الوفد إلى الأسد. وبعد أن جلسنا ذكرت له مازحاً أن اثنين من أعضاء الوفد هم من الذين يسميهم بـ «اللوبي اليهودي». أصدقائي في الوفد شعروا بالرعب ولكنني كنت أعرف أن الأسد يملك حس الدعابة السياسية. ولهذا ضحك الأسد فوراً، وقال بلطف: «أود سماع ماذا لديهم عنا». وهكذا حدث تبادل لوجهات النظر وحوار بين الأسد وبعض أعضاء اللوبي اليهودي في أمريكا لأول مرة في التاريخ بهدوء وبصراحة كبيرة ولطف ودفء عاطفي غامر. وشعرت بسرور بالغ لأنني قمت بفتح ثغرة في حاجز سيكولوجي قوي وخطير... بالرغم من أنها ثغرة صغيرة.
(18) دبلوماسية المثانة
(Bladder Diplomacy)
خلال أولى زيارات الوزير جيمس بيكر لدمشق خلال ما سمي بـ «الدبلوماسية المكوكية» التي تكونت من 16 زيارة لدمشق ورحلاته المتعددة بين دمشق والقدس وتفاوضه مع حافظ الأسد للتمهيد لحضور سوريا مؤتمر السلام الدولي في إسبانيا الذي عقد في تشرين الأول-أكتوبر 1991، حذرت الوزير بيكر أن الرئيس حافظ الأسد يملك كاريزما وشخصية قوية وكبرياء عظيم، إلى درجة أنه لا يقوم أبداً من الاجتماعات ليذهب إلى الحمام ليتبول مهما كان طول جلسات المفاوضات.
إضافة إلى ذلك، ولسوء الحظ، كانت غرفة الاستقبال في القصر الرئاسي السوري مليئة بالمقاعد المريحة والدافئة وتدور فيها أقداح القهوة العربية والحلويات العربية اللذيذة (البقلاوة) والليمونادة ذات النكهة الرائعة، ولهذا من الطبيعي أن هذا سينتج منه لا محالة امتلاء المثانة Bladder وسيحس بيكر بنداء الطبيعة للتبول!! بيكر نظر إلي بغضب وبجدية قائلاً: «انتبه يا إد: أنا «وزير خارجية العالم الحر»! إذا كان الأسد يستطيع أن يصمد في الاجتماعات (من دون الذهاب للتبول) فيجب علي أن أصمد بدوري لأني لا أقل عنه مطلقاً».
وبالفعل استطاع الوزير بيكر أن يثبت جدارته بمنصب «وزير خارجية العالم الحر» ويبرر تفاخره وتباهيه بقدرته على الصمود مثل الأسد. ولكنني أثبت أنني أقل صموداً على الرغم من كوني صاحب التحذير!!! فخلال أطول اجتماع جرى بين بيكر والأسد من دون توقف وكانت مدته 9 ساعات و46 دقيقة (!!!) في 23 نيسان/أبريل 1991، فشلتُ بجدارة أن أتبع النصيحة نفسها التي قدمتها لرئيسي بيكر، فأكلت الكثير من البقلاوة اللذيذة وشربت العديد من أقداح القهوة العربية والليمونادة خلال الاجتماع وأحسست بنداء الطبيعة الذي حذرت منه بيكر!! وعند بداية الساعة السادسة من الاجتماع أرسلت ورقة صغيرة إلى بيكر ليطلب من الأسد توقيف الاجتماع لاستراحة قصيرة (لأن دجرجيان يترجم للطرفين بيكر والأسد) لأذهب إلى الحمام وأضفت مازحاً في الورقة: «تستطيع الحضور معي يا سيدي». نظر بيكر للمذكرة وأشار بيده نحوي ليؤكد أنه مسيطر على مثانته وأنه صامد ثم وضع رجلاً فوق أخرى ليثبت أنه مرتاح (وجدير بلقب «وزير خارجية العالم الحر»!!!). ولحسن الحظ، انتبه الأسد لوضعي وأعطاني فرصة عندما خرج عن الموضوع وبدأ يتحدث في مونولوغ مع نفسه عن عواقب اتفاقية «سايس-بيكو» التي مزقت العرب والتي رددها أمامي كثيراً حتى حفظتها عن ظهر قلب. وكان يقصد ضمنياً أنني أستطيع مغادرة الغرفة من دون أن أفقد حواراً مهماً. همست لوزير الخارجية السوري فاروق الشرع أنني أود إجراء مكالمة هاتفية عاجلة. وهز الشرع رأسه موافقاً لكي أغادر الغرفة. وعندما عدت، بدأ الأسد ينهي المونولوغ وقصته المعتادة وشعرت أنه متعاطف معي تماماً.
(20) ترقية دجرجيان بسبب ضعف عضلات مثانته
وفيما بعد، أخبرني الشرع أنه بعد مغادرتي للغرفة قال بيكر لحافظ الأسد مازحاً «دجيرجيان سيعمل مكالمة هاتفية مستعجلة من الحمام!!». وفي نهاية تلك السنة حصلت على ترقية مهمة من منصبي كسفير لأعمل كمساعد لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى. سافرت إلى واشنطن لاستلام عملي الجديد، وأثناء الحفلة التي أقامها بيكر بمناسبة تعييني وأدائي للقسم أمام الرئيس بوش الأب، قال بيكر مازحاً أمام الحضور ليحرجني: «الرئيس جورج بوش قرر سحب دجرجيان من دمشق وتعيينه في واشنطن لأنه يريد إرسال سفير صلب إلى دمشق يستطيع السيطرة على مثانته»!! (One Who Could Hold His Water)
إضافة تعليق جديد