في خفايا الاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان … «لا إله إلا اللـه، والبطريرك عريضة حبيب اللـه»
عاث المحتل الفرنسي فساداً وفسقاً وإرهاباً طوال خمسة وعشرين عاماً في سورية.. وكان الحاكم الفعلي لسورية بما فيها لبنان هو المفوض السامي الفرنسي ومقر إقامته في قصر الصنوبر في بيروت، وهذا القصر الآن هو المقر الرسمي للسفير الفرنسي في لبنان. مر على هذا القصر منذ عام 1920م إلى عام 1946م أحد عشر مفوضاً سامياً، علماً بأن الجنرال غورو استملك هذا القصر عام 1921م. حفلت كتب التاريخ بالحوادث والوقائع لهذا المحتل الفرنسي، وسيرة وممارسات وطبائع هؤلاء المفوضين الساميين ولكن يبقى هنالك الكثير من الخفايا التي روتها صحافة أيام زمان أو قبعت في بواطن بعض الكتب… ومن هؤلاء المحتلين الفرنسيين، المفوض السامي بونسو.
بونسو
هو أوغست هنري بونسو (1877م– 1963) عين مفوضاً سامياً للجمهورية الفرنسية في سورية ولبنان في 13 تشرين الأول 1926، ولغاية عام 1932م وصفت سياسته بأنها (سياسة الصمت) حتى إذا استتب لـه الأمر فاجأ الناس بالنكايات والمشاكسات تحطيماً لقوتهم المعنوية.
هو دبلوماسي استعماري محنك عرف في سورية باسم المسيو بونسو، وعين مفوضا ساميا لسورية ولبنان من الرئيس الفرنسي غستون دومرغ بتاريخ 3 أيلول عام 1926م ولغاية يوم 12 تشرين الأول عام 1933م افتتح عهده ببيان دبلوماسي «كاذب» إلى جمهور المواطنين في سورية ولبنان، أعلن فيه أنه لا يعارض استقلال البلدين إذا قرر الشعب فيهما ذلك. أجل يوم 3/3/1929 جلسات الجمعية التأسيسية إلى أجل غير مسمى، أصدر القرار رقم 3111 تاريخ 14/5/1930 بنشر دستور دولة سورية الذي كانت الجمعية التأسيسية قد أقرته في 7/8/1928 مضافاً إليه المادة 116 التي تنص على (ما من حكم من أحكام هذا الدستور يعارض ولا يجوز أن يعارض التعهدات التي قطعتها فرنسا على نفسها فيما يختص بسورية ولاسيما ما كان منها متعلقاً بجمعية الأمم) بتاريخ 19 تشرين الثاني عام 1931م أنهى حكومة الشيخ تاج الدين الحسني وتولى بنفسه سلطات وصلاحيات رئيس الدولة، وأناب عنه المسيو سولومياك في دمشق برئاسة الحكومة بالوكالة والتي استمرت لغاية 11 حزيران عام 1932م. وصفت سياسة بونسو بأنها سياسة الصمت عن المطالب الوطنية (الاعتراف بالاستقلال وانتخاب جمعية تأسيسية) كسباً للوقت ولترويض المعارضة وإفساد الناس وإفراغ الخزينة من احتياطها النقدي.
بونسو في المضحك المبكي
في كلمة ترحيبية حين قدوم بونسو لدمشق، لا تخلو من النقد المبطن الذي كتب بين الأسطر، وتسليط الضوء على العلاقات السياسية بين الرؤساء والنواب… قالت مجلة المضحك المبكي: «أهلاً وسهلاً وميت ألف مرحباً فيك، الحمد لله على سلامتك يا سي بونسو.. آنستنا شرفتنا. وميت ألف الحمد لله على سلامتك.. كبارنا وصغارنا ونسواننا ورجالنا عمال ينتظروك حتى تجي، وكلهم مفتكرين أنك رايح تشيل الزير من البير.. فالبياع هلي بيرجع عشية على بيتو، وهو عمال يتأفأف من قلة البيع وعطل الحال، بتجي مراتو وبتصير تداريه وتقوللو، طول بالك يا رجال بكرا بيجي المسيو بونسو وبتصير تبيع وتشتري.. والفلاح هلي عمال يشتكي من قلة المطر بيطمنوه أهل بيتو وبيقولولو لا تقطع املك يا رجال، بكرا بيجي المسيو بونسو تنزل علينا المطر بالقرب… والتاجر هلي قرر يسلم دفاترو للمحكمة، رجع وبطل وصار يقول بكرا بيجي المسيو بونسو وبتفرج الأزمة وبتتحسن الحالة.. والمحامي والطبيب، والصيدلي، والمهندس هلي داقرة معهم ومانهم عمال يستفتحوا عمال يقولوا بقلوبهم بكرا بيجي المسيو بونسو وبتدور الحركة…
فهل الأمة المسكينة قد ما قالو لها المسيو بونسو.. المسيو بونسو.. المسيو بونسو… صارت معتقدة بأنك وقت تجي رايح تنزل المطر، ويتحسن الزرع، وتفرج الأزمة، ويخلي التاجر يربح، والدكنجي يبيع ويشتري…
فالله يساعدك يا مسيو بونسو ويكون بعونك لأنك مهما عملت ما راح يبان ولا حدا راح يشوف وشي…
بقا اسمحلي احكيلك بالاختصار شي كم كلمة عن الحالة السياسية.
أصحاب المعالي الوزراء الكرام كلمالهم عمال يروحوا بالعرض، ومادامت الوزارة بأيدهم على رجلهم وقفاهم كمان ما معلقة الدنيا خربت أم عمرت..
وصاحبك حقي بك هلي كان قايم القيامة عالشيخ صار وياه اليوم من أعز الأصحاب لأن أولاد الحلال دخلت بيناتهم وصالحوهم مع بعضهم.. وبديع بك طبقوه وأعطوه وزارة ومشي الحال..
وعمك رشدي باشا الصفدي أمين سر حزب الإصلاح سكتوه بقائمقامية وانتهى الإشكال…
إذن فحزب الإصلاح اللـه يرحمو.. شطب عليه، وبعمرك طول البقاء.. وما بقا منه بلا وظيفة غير صاحبنا أبو دياب.. أما أحمد أفندي الحسيني فلحد هلأ ما كنت أعرف إذا كان مع الحكومة لما عليها، فرضا باشا بيقول إنه معها، والدكتور راتب بيقول إنه عليها…
بقى علينا الأمة والأماني الوطنية… فالأمة يا فخامة المندوب بعد أن تصالح حقي بك مع الشيخ، وبعد أن تعين رشدي باشا قائمقام على إدلب، ما عاد يهمها شي، لا دستور ولا مجلس ولا معاهدة ولا مواد ست… لأنها تعتبر هل المصلحة، وهل التعيين هو عبارة تحقيق نص أمانيها الوطنية يعني إذا كانت هل الأماني وحده كاملة فالأمة اليوم تعتبر أن نصها الكبير بحقي بك ومصالحتو برشدي باشا وقائمقاميتو!.
الكونت دي مارتيل
هو داميان دي مارتيل المفوض السامي السابع على سورية ولبنان «1933م– 1939م» وهو من وضع مشروع معاهدة، لا تحقق أي مطلب من مطالب البلاد، مع حكومة حقي العظم.. وفي زمن دي مارتيل حصل الإضراب الستيني الشهير.
عرف عن دي مارتيل بأنه طائش مغامر صاحب سياسة مستهترة، يذكي نار البغضاء والأحقاد بين السياسيين الوطنيين، ويرفع فجأة الرجال إلى أعلى القمم ومن ثم يرميهم أرضاً، لم يكن يحترم شيئاً حتى حرمة قصره، يقول الصحفي الساخر نقيب الصحافة اللبنانية عام 1927م وعام 1950م إسكندر رياشي وهو صاحب صحف ومجلات عديدة منها، الصحفي التائه، الوطن الجديد، الأربعون حرامي: «دي مارتل لم يكن يحترم شيئاً، حتى ولا حرمة قصره، حيث ترك ذات يوم نجله الطائش يحيي حفلة سباحة في بحيرة ذلك القصر، سكب فيها كمية كبيرة من أكسير «الكانتاريد» الذي يثير الشبق، فما كاد السابحون والسابحات يستقرون في مياه البحيرة المعطرة المهتاجة، حتى أخذوا يشعرون بالشهوات تتأكلهم وتفقدهم عقولهم… يتبع ذلك مشاهد وروايات تهتكية يجد دي مارتيل بمشاهدته لها اللذة التي يجدها كل كهل فاسق أمام مشاهد كهذه؟!».
ويضيف رياشي، كان لدي مارتيل صديقة حسناء، فقال لها في إحدى رسائله: «لا يجب أن يرتفع أي رجل في هذه البلاد فيصل إلى أكثر من زناري».
مع بطريك لبنان
في زمن دي مارتل، نادى البطريك اللبناني عريضة بخروج صرح بكركي على فرنسا، وبتعاونه المطلق السياسي والوطني مع الوطنيين السوريين، أعلن عريضة استنكار بكركي للمنتدبين ونادى بجلائهم عن سورية ولبنان… ونتيجة موقف البطريك إلى صف الوطنيين ومعاداته للاحتلال.. دعا المصلون في الجامع الأموي بدمشق وفي الأسواق للخروج بمظاهرات، كان المتظاهرون يهتفون ويهللون للبطريرك في المسجد وفي الأسواق: «لا إله إلا الله، والبطريرك عريضة حبيب اللـه»..
والبطريرك عريضة هو من الشخصيات الدينية اللبنانية المهمة التي تركت الأثر الكبير في نفوس أبناء الوطن، هو مار أنطون بطرس عريضة بطريرك إنطاكية وسائر المشرق الكلي الطوبى، البطريرك الماروني الثالث والسبعون بدءاً من عام 1932 وحتى وفاته عام 1955.
ولد البطريرك عريضة في 2 آب سنة 1863 في بلدة بشري شمال لبنان، التحق عام 1879م بمدرسة مار يوحنا مارون حيث تلقى دروسه الأولى وداوم فيها خمس سنوات، ثم أتمها في اللاهوت والفلسفة في مدرسة سان سولبيس في باريس حيث درس مدة ست سنوات، كان يجيد العربية والسريانية والفرنسية. إثر إتمامه دروسه وعودته إلى لبنان رسم كاهنًا عام 1889م وعينه البطريرك يوحنا الحاج أميناً لسره.
في 31 تموز من عام 1905م زمن بلاد الشام «حين كانت لبنان جزءاً من سورية» منحه البابا بيوس العاشر لقب أسقف، وأصبح مطران طرابلس، وخلال الحرب العالمية الأولى والمجاعة التي اجتاحت متصرفية جبل لبنان ومناطق أخرى في سورية، تولى البطريرك عريضة مهمة توزيع الطعام على الفقراء.
توفي البطريرك عريضة، أشد أعداء الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان، عن عمر ناهز 91 عامًا. وكان قد زار دمشق في عام 1943م. وهو من أعلن الحرب على المندوب السامي الفرنسي في سورية ولبنان المدعو الكونت دي مارتيل، وهذا ما دفع الجماهير في دمشق أن تهتف له بكلمات خلدها التاريخ: «لا اله إلا اللـه، والبطريرك عريضة حبيب اللـه».
رحل البطريرك عريضة، الرجل الوطني المؤمن باستقلال بلاده والمدافع عن الحق والحرية، رحل نصير الفقراء الذين أنهكهم الاستعمار، رحل بطريرك انطاكية وسائر المشرق المثلث الرحمات تاركاً لنا العديد من المؤلفات الأدبية والدينية المكتوبة باللغة العربية.
المراجع: المضحك المبكي العدد 54 تاريخ 29 تشرين الثاني 1930م- كتاب قبل وبعد لاسكندر رياشي– صحيفة الوطن– أرشيفي الخاص.
إضافة تعليق جديد