مراجعة: شورش درويش
قد يصحّ القول في عدّ كتاب (قطار العلويّين السريع) أوّل كتابٍ يتناول سيرة العلويين في سورية تناولًا مجرّدًا لا في السياقات العموميّة التي اعتدنا قراءتها عن العلويين، فالكتب التي تناولت موضوع العلويين معظمها كانت تعدّ العلويين جزءًا أو تفصيلًا ثانويًا في سياق أعم من تاريخ سورية الحديث، أو كانت موضوعة العلويين تبحث من خلال دراسة الطبقات الاجتماعية أو سير الطوائف تاريخيًا، أو كان يجري تناولها عبر القراءات السياسية المباشرة، كذلك يمتاز هذا الكتاب المشكل، في أنه ليس كتابًا تأريخيًا للعلويين، فالكاتب يتخلّص من عبء توصيف كتابه بأنه كتاب تأريخي بالقول «هو ليس كتابًا تأريخيًا للعلويين بأي شكل من الأشكال»(1)؛ فالكتاب يرمي إلى غاية أخرى، وهي البحث في «نشأة الوعي السياسي عند العلويين» خلال مرحلة محدّدة، ذلك أن الوعي السياسي عند العلويين، بوصفهم جماعة أهلية، مرّ بمراحل عدة، كانت طويلةً نسبيًا لكنها أفضت بالمحصلة وبفعل عوامل متواصلة إلى شكل الطائفة الحالي، فالهجرات التي قاموا بها، وطبيعة التقسيمات الاجتماعية والطبقية، وطبيعة الدول والحكومات التي حكمت العلويين حكمًا مباشرًا، كان لها دور مفصلي في تبلور الوعي والشخصية العلوية، ثم إن للصدمات التاريخية التي تعرّضت لها الجماعة العلوية من مثل الحملة المصرية والانتداب الفرنسي؛ أدوار بالغة في تجميع الطائفة، وصقل وعيها بالزعامات المحليّة وتحسس الذات، ويمكن أن يعزى للحملتين المصرية ثم الفرنسية الفضلُ في صعود الطائفة من هامش الحياة السياسية والاجتماعية إلى متنها، وإن بفوارق بين الحالتين.
مسألة البحث في سيرة التطور التاريخي للوعي السياسي لدى الجماعات الأهلية محفوفةٌ بالخطر، فالكاتب قد ينحاز إلى رأي دون آخر وقد يقلل من بعض الظواهر ويضخّم من أخرى، ما يفرض على الكاتب البقاء متيقّظًا للتفريق بين الحوادث المهمة التي تصنع الوعي الجماعي وتصوغه، وتلك الحوادث الهامشيّة أو محدودة الأثر، لذا تكون مسألة الكتابة عن تشكّل الوعي السياسي أصعب، قياسًا بالكتابات التاريخية أو ذات المنهج التاريخي، وكذا الكتابات السياسية المباشرة. سنحاول من خلال هذه المراجعة التوفيق بين التسلسل التاريخي للحوادث التي أفضت إلى تكوّن الوعي السياسي العلوي، والظواهر التي شكّلت هذا الوعي من حروب وحملات وحكومات وبروز شخصيّات بالغة التأثير في مجرى الوعي السياسي والاجتماعي العلوي، أي البحث في الأسباب المؤسسة لهذا الوعي مناط الكتاب والمراجعة.
الفصل الأوّل: ترويض الأشقياء (أواسط القرن التاسع عشر حتى نهاية العهد العثماني)
يبحث في جذور المظلوميّة وأسس الفرقة فيذهب إلى الترجيح حول أصول العلويّة، أو النصيريّة(2)، إذ تعود أصولهم إلى القرن العاشر الميلادي، إذ وُجدوا في وادي التيم في لبنان مع وجود إشارات على وجودهم في العراق، وحلب، وجبال الضنيّة في القرن الثالث عشر ميلادي، وبخصوص وصولهم إلى اللاذقية وهو مناط الكتاب، فقد وصلوا إليها في دفعات ومراحل يلخصها بالصورة الآتية: من وادي التيم في لبنان في إثر الصراع الدامي مع الدروز في القرن الحادي عشر، ومن حلب نتيجةً لعداء نور الدين زنكي للتشيّع في القرن الثاني عشر، ومن جبال الضنيّة في لبنان بسبب فتوى لابن تيمية (1263-1328م) وذلك في القرن الرابع عشر، بيد أن سبب الهجرة الرئيس يكمن في مسألة التنكيل بهم على يد السلطان العثماني سليم الأول في بداية القرن السادس عشر بحسب السردية المركزية للعلويين، على الرغم مما تحتويه هذه السردية من مبالغة وتضخيم، فهي ترتقي إلى مرتبة (الأسطورة المؤسسة) التي تطوّرت لتصبح في بداية القرن العشرين الأساس التاريخي لـ (المظلومية العلوية).
يبحث الفصل الأوّل في خريطة الانتشار العلوي في سورية التي تمتد من جبال الإسكندرون شمالًا، حتى جبال لبنان جنوبًا، يحدّها شرقًا ملحقات حلب وحماة وحمص، وغربًا ساحل البحر الأبيض المتوسط والمدن القائمة على شاطئه. وعن أصولهم الدينية يعتقد العلويون بالتابعية لجعفر الصادق وأنهم بذلك (جعفريون)، وأنهم يفترقون عن بقية الشيعة بخاصة الإثني عشرية، من خلال حلّهم مسألة غيبة محمد المهدي (المنتظر)؛ فالمعروف في تقاليد الإثني عشرية، أو الجعفرية أنهم حلّوا مسألة الغيبة أو انقطاع الإمامة بابتكار مركز السفير(3)، والسفراء هنا هم أربعة(4)، في حين إن العلويين حلّوا المسألة بإيجاد مركز (الباب)(5)، ويبدو أن مركز الباب أعلن مقامة بعد وفاة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري، فهو آخر إمام يحتفظ بباب له، وبابه، بحسب الاعتقاد النصيري العلوي هو أبو شعيب محمد بن نصير النميري، وأنه استمر بابًا لابنه الإمام محمد المهدي المنتظر، ويدير شأن الإمامة عند غيبته(6).
وهم مسلمون يؤمنون بالأركان الخمسة مع تمايزهم من بقية المسلمين لقولهم بالإمامة التي تبدأ بعلي بن أبي طالب، وتنتهي بالمهدي المغيّب، كذلك يختلفون عن الشيعة في أنهم أثخنوا في الصوفية التي جوبهت لاحقًا من تيارات إصلاحية علويّة قالت إنها ناتجة عن مساوئ الحكم العثماني المشجّع على التصوّف، إضافةً إلى سببٍ آخر أدى إلى الافتراق عن الشيعة وهو سريّة تعليمات العلوية وباطنيتها، إذ يحاجج العلويون بأن للدين ظاهرًا للعامّة، وباطنًا للصفوة.
يقسم العلويون إلى عشائر عدة، إلى جانب انقسامهم وفقًا للأوضاع المعيشية إلى علويي الساحل وعلويي الجبل، والفارق أن أهل الساحل منفتحون بعكس الجبليين الأكثر محافظةً وتمسكًا بالاستقلاليّة، أما العشائر فمقسومةٌ إلى عشائر الحدادين والمتاورة والخيّاطين والكلبيّة، وفي داخل كلّ عشيرة من هذه العشائر يوجد ما يشبه الأفخاذ، وتكنّى بالعشائر أو بالبيوت، وفوق هذا ثمة انقسام بين شمالٍ وجنوب، أو ما يسمّون بـ (الكلازية والحيدرية) من دون معرفة أسباب أو وضعية الانقسام الأخير هذا.
يقف هذا الفصل كذلك على الصدمة المصرية، ما قبلها وما بعدها، إذ تصدّر آل شمسين المتفرّعين من عشيرة الحدادين العلويين في المجال السياسي، وحاز زعيمها صقر المحفوض حكم المنطقة، ولاحقًا أولاده (امتلكوا أكثر من مئة قرية)، وتبعًا لنظام الالتزام التزمت العائلة مواسم الحرير والتبغ، لتمنح الدولة العثمانية زعيمها لقب (آغا)، لاحقًا خشي العثمانيون تنامي نفوذ عائلة المحفوض، فقسموا مناطقهم إلى ثلاث مناطق، وعلى الرغم من تنامي قوة العلويين إلّا أنهم لم ينجحوا في التحوّل إلى طائفة أسوةً بالدروز، إذ إنّ الانقسامات الداخلية لم تمنحهم سمة الطائفة المتراصّة.
كان العلويون بحاجةٍ إلى شكلٍ من أشكال الصدمة السياسية أو الحضارية تخرجهم من العزلة، فكانت أول صدمة لهم مع وصول الجيش المصريّ واحتلال إبراهيم باشا بن محمّد علي حاكم مصر بلاد الشام، ومن ضمنها مناطق العلويين في عام 1831، فكان بذلك أن تعرّض العلويون لحكمٍ مباشر للمرة الأولى، بخلاف ما اعتادوه من سلطات السلطنة العثمانية، لتكون إصلاحات إبراهيم باشا في المستويات الإدارية والقضائية والاقتصادية فضلًا عن العسكريّة أوّل التفاتة إلى مناطق العلويين، ففي المستوى السياسي أسهم الوجود المصري في ولادة النواة الأولى للهوية الجماعية للعلويين، فتعزّزت مثلًا منزلة آل شمسين وزعيمهم صافي ابن صقر المحفوض، حاكم صافيتا المطلق، الذي آزر بدوره الدولة العثمانية لصد الجيش المصري بناءً على طلب الأخيرة، فقد كان للعلويين مطامح أخرى منها ضرب بربر آغا والي طرابلس الذي استهدفهم مرارًا وقد كان استهدافه الأخير لهم تحت راية المصريين، ما يعني أن تحالف العلويين مع العثمانيين حكمته المصلحة المشتركة والموقتة، الاستعداد لمعركة طرابلس يعكس تطوّرًا في وعي العلويين وإحساسهم بفكرة الزعامة المحلية والجماعة، وإن كانوا قد هزموا لاحقًا على يد إبراهيم باشا وبربر آغا الذي صفّى بدوره آل شمسين، ومع ذلك فقد راكم العلويون دروسًا من التجربة المصرية من مثل الاستفادة من الإصلاحات الاجتماعية والتشريعية، واستخدام السلاح، بيد أن رحيل المصريين أفضى إلى بروز حاجة لدى العلويين إلى زعماء محليين يملؤون الفراغ؛ فكان أن برز اسم إسماعيل خير بيك زعيم عشيرة المتاورة الذي كسب ود العثمانيين، ونجح في توسيع منطقة نفوذه في قضاء صافيتا التي عيّن حاكمًا لها، ليبلغ عدد سكانها زهاء 120 ألفًا بينهم مسيحيون ومسلمون سنيّون، كان للمسلمين السنّة دور في القضاء عليه لاحقًا، فالمقاطعات السنيّة رفضت حكمه لا سيما سكان مقاطعة حصن الأكراد (قلعة الحصن)، وبقيّة زعماء المنطقة الممتدة إلى سهول عكّار وجبالها، وبدعمٍ عثماني خشية تنامي قوته وتوسّعه ورغبته في الاستقلال الذاتي عنهم، فكان لصموده في وجه القوى السنية المعارضة له أثر في تدخل الدولة العثمانية بصورةٍ مباشرة، ما أدى إلى القضاء عليه قضاءً تامًا في عام 1858، وذلك بعد أن أضفى العثمانيون الطابع الديني على الصراع، إضافةً إلى حدوث انشقاقات داخل المعسكر العلوي، كان في مقدمتها انشقاق عباس جابر زعيم عشيرة الخيّاطين المنتقم على إسماعيل خير بيك الذي كان قد أسره في وقتٍ سابق، ونفاه إلى جزيرة رودس.
أظهرت تجربة خير بيك صعوبة الانتقال من الانتماء إلى العشيرة إلى الانتماء إلى الجماعة أو الطائفة، أي إنهم، ومجددًا لم يمتلكوا الوعي الطائفي حتى في تلك الأثناء المضطربة.
يتوقف هذا الفصل على هامش إصلاحات السلطنة، إذ لم تطبّق الإصلاحات العثمانية خلال مرحلتي (التنظيمات) في مناطق العلويين بالصورة الملائمة، أو في الحد الأدنى منها، مع ذلك فرضت الإصلاحات التغييرات وأسلوبًا جديدًا للإدارة العثمانية في التعامل مع العلويين، ومع أن العلويين لم يكونوا ضمن سلّم أولويات الباب العالي، فقد كان التركيز منصبًّا على المسيحيين، ومع صدور قانون الولايات في عام 1864 الذي أعيد بموجبه رسم الولايات العثمانية، ومن ضمنها ولاية سورية التي أصبحت مناطق العلويين تابعةً لها 1887 عندما ألحقت بولاية بيروت، وبقيت كذلك حتى نهاية العهد العثماني، وعندها فحسب انتهى الإرباك العلوي لجهة تابعيتهم لأي حكم (دمشق، طرابلس، صيدا).
حاول راشد باشا إبان حكمه ولاية سورية 1866 فرض سياسة التنظيمات وتنفيذها، فكان أن ابتز حاكم طرابلس خورشيد باشا العلويين في مسألة التجنيد، وما استتبعه ذلك من تمردٍ علوي أدى إلى سحق تمردهم وأسر وجهائهم، ليتبع ذلك حملة قام بها راشد باشا بنفسه في عام 1870، حُرق فيها عدد من قرى العلويين وشُرد أهلها، إضافةً إلى عدد من السياسات ذات الطابع القاسي والعنيف، وعلى الرغم من أن راشد باشا حاول تنفيذ إصلاحات في اللاذقية، فقد توقفت لجهة التراخي في تنفيذها، والتراجع عنها بمقتضى سياسة خلفه صبحي باشا.
مع تسلّم الإصلاحي البارز مدحت باشا حكم ولاية سورية في عام 1879، تغيّر أسلوب التعاطي مع العلويين، ذلك أن الوالي الجديد وصل إلى قناعةٍ مفادها، أن الحملات العسكرية ليست الوسيلة الملائمة للتعامل مع العلويين، وفي عام 1897 اجتمع مدحت باشا بزعماء العلويين ووجهائهم في مدينة اللاذقية، فأورد تقريرًا إلى العاصمة في وقت لاحق يشرح من خلاله سوء أوضاع العلويين، ويقترح سياساتٍ ضريبية مخففة، محذرًا في الوقت عينه من وقوع العلويين تحت التأثير الأجنبي كما حدث في جبل لبنان، بيد أن الموقف السلبي للسلطان عبد الحميد ومستشاريه من مدحت باشا، ومن ثم عزله، قوّضا نهج الباشا الإصلاحي، وأوديا به، تلت مرحلة مدحت باشا سياسات مشابهة اتّبعها حكام اللاذقية، من مثل حالة إسماعيل كمال بك الألباني بتأثير من متصرّف اللاذقية محمد ضيا بك، لكن المهم أن تلك المراحل كلها لم تسهم في تكوين وعي علوي كما أشير إليه سابقًا.
ويبحث هذا الفصل في مسألة التبشير؛ التبشير المسيحي (التنصير) في مواجهة التبشير السنّي، إذ هدّدت البعثات التبشيرية أواسط القرن التاسع عشر الدولة العثمانية التي استهدفت المسيحيين في الدرجة الأولى، وكانت طامحةً إلى استهداف المسلمين عمومًا، ونتيجة عوائق اجتماعية ودينية اقتصرت الحملات التبشيرية في عملها على غير المباشر من خلال النشاط الاجتماعي (التعليم – الصحة)، كذلك التبشير في الأوساط غير السنيّة من مثل العلويين وغيرهم. تأخر التبشير في المناطق العلويّة حتى صدور المرسوم الهمايوني (خطي همايوني 1856)(7)، وتوسّعت بموجبه القاعدة القانونية للإصلاحات، خصوصًا في ما يتعلّق بحرية الانتماء الديني، فجوبه التبشير بثباتٍ عثماني حال دون تقدمه، ابتداءً بدور ضيا بك، ولاحقًا دور خالد باشا والي دمشق، وصالح باشا حاكم اللاذقية، وحؤولهم دون نجاح التبشير، لكن السبب الأساس في فشل التبشير يكمن في رفض العلويين أنفسهم التبشير، وجعل مشايخ العلويين التبشير مقتصرًا على الجانب التعليمي وفق ضوابط معيّنة، وبذا لم تبلغ نسبة التنصير الحد الأدنى بالنسبة إلى طموح البعثات، ولهذا الأمر دلالة بالغة على تطوّر طفيف وإيجابي في ما خصّ الوعي الجمعي للعلويين في مستويات الهويّة والانتماء السياسي.
وفي موضعٍ فرعي من الفصل الأوّل يبحث في الهجرة العلويّة إلى العالم الجديد، تحديدًا أميركا اللاتينية، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، الأمر الذي أسهم إسهامًا طفيفًا في تأطير نشوء الوعي السياسي العلوي، ولقد كانت العوامل الجاذبة للهجرة تفوق العوامل النابذة، فمن بين العوامل الجاذبة يأتي تحسين الأوضاع المعيشية في مقدّمة أسباب الهجرة، أما بالنسبة إلى العوامل النابذة للبقاء، فتمثّلت بالرغبة في التهرّب من الجندية الإلزامية، أي رفض التجنيد، فضلًا عن غياب استقرار الأوضاع العامة في المنطقة.
الفصل الثاني: مع الفرنسيين وضدّهم 1919 – 1936
كانت معاناة العلويين، كغيرهم، شديدة الوطأة خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، فالسفربرلك(8) ستبقى مطبوعة في الذاكرة الشعبية حتى يومنا هذا، فقد كانت تعني البحث عن الشباب وترحيلهم إلى جبهات القتال، بقي جرح السفربرلك حتى مطلع عام 1918، أي قبل أن تعلن فرنسا انتدابها على سورية بعامين وصلت طلائع جيشها إلى الساحل السوري، فألغت الحكومة الفيصليّة الموقتة فيها وأعلنت سيادتها الكاملة في المنطقة، حكم الجنرال نيجر المنطقة، وشكّل فيها المجلس الاستشاري المحلي الذي راعى المكونات الاجتماعية، ليجري اختيار زعيم قبيلة الخيّاطين جابر عبّاس في ذلك المجلس إلى جانب أحمد الحامد من عشيرة الحدادين وإبراهيم الكنج زعيم عشيرة بني علي، لتظهر أوّل بادرة إيجابية من فرنسا تجاه العلويين، بيد أن الأوضاع سارت باتجاه (ثورة) ضد الفرنسيين نتيجة وقوفهم في الجهة المقابلة أي إلى جانب الإسماعيليين، سمّيت الثورة العلوية التي نزعت عنها آنفًا سمتها الطائفية، لتكنّى بثورة الشيخ صالح العلي زعيم عشيرة البشارغة الذي بدأ حركته بالاصطدام بالإسماعيليين، فتفاقمت الأمور، وتطوّرت المواجهات لتشمل كامل منطقة العلويين، كان الكولونيل نيجر قد قدّم محاضرة في جمعية الجغرافيا في العام 1921 حول أسباب (انتفاضة العلويين)(9).
أسهمت عوامل عدة في بقاء جذوة الثورة مشتعلة من ذلك دور الأمير فيصل، وطبيعة تنظيم الثورة، إلى جانب التحويلات الماليّة من المهجر، وانضمام العشائر إليها، من مثل انضمام إسماعيل الهوّاش زعيم المتاورة، إضافةً إلى دعم الأتراك عبر الحدود، ودور العشائر السنيّة في نواحي تلكلخ التي أسهمت في تخفيف حدّة الهجمات الفرنسية، فكان تحالف هنانو – العلي، والتنسيق بينهما سببًا آخر في صمود الثورة مدّة عامين، انتهت باستسلام العلي في 1922، ونجاح الفرنسيين في خطب ود بعض الزعماء العلويين، ومن ثَمَّ تفكيك الجبهة العلوية.
لم يكن للثورة العلوية ذلك التأثير الملموس في التطوّرات السياسية في الإطار الوطني العام، لكنه كان مفاجئًا للفرنسيين، ومعرقلًا خطتهم في الانتداب، والأكيد هنا أن الثورة العلوية رفعت من شأن العلويين وجعلتهم مؤهلين للاندماج بالكيان الوطني الناشئ، ولتشهد منطقة العلويين زيارات لممثلي الملك فيصل، وأعضاء حكومته، وممثلين عن الثورة السورية، وتعاون السنة مع صالح العلي من مثل آل هارون وآل شريتح؛ العائلتين السنيتين النافذتين في منطقة الساحل، وفي تلك الأثناء برزت إلى سطح الحوادث الرسالة التي وجهها هنانو والعلي إلى عصبة الأمم، لتكون تلك الرسالة بمنزلة أوّل اتصال مباشر بين قيادة علويّة والقوى العالمية، ليخاطب الجنرال الإنكليزي اللمبي العلويين عبر صالح العلي، وكذلك كمال أتاتورك الذي خاطبه بـ (صاحب الدولة العلوية)، وعليه أثبت العلويين أنهم نجحوا في أن يكونوا (طائفة محاربة) يمكن أن تتساوى مع الدروز على سبيل المثال، وبذا تكرّس صالح العلي شخصيّة أسطورية مؤسسة للوعي الجمعي العلوي في تاريخهم الحديث.
في الأول من أيلول/ سبتمبر في عام 1920 تحقّق الاستقلال العلوي الأول بإنشاء الفرنسيين (دولة العلويين) مؤلفةً من: لواء اللاذقية بأقضيتها الثلاثة إضافة إلى المناطق التي اقتُطِعَت من لواء طرابلس (صافيتا والحصن وتلكلخ) ومديريتي طرطوس وأرواد، وقضاء مصياف الذي كان تابعًا لحماة، فضلًا عن خمس أقضية كانت تابعة لولاية حلب، ولتُعتمد اللاذقية عاصمة هذه الدولة. لم يكن العلويون الأغلبية الساحقة في دولتهم، إذ كانوا حوالى 60 في المئة من سكانها(10)، وربما يعكس ذلك رغبة فرنسا في أكبر قدر من التجانس شرط أن يكون العلويون هم الأغلبية، في مقابل ذلك اصطدمت سياسة التقسيم وبناء كيان علوي بمشكلات كبيرة على أرض الواقع، ففي سنة 1921 ولضرورات اقتصادية ضُمت المناطق السنيّة جزيرة أرواد، الأكراد، بسيط، بايير، إلى الدولة العلوية(11).
كان الانطباع الفرنسي عن العلويين أنهم غير مسلمين، وأنهم أقرب إلى (المسيحيين الضالين) مرتبطًا بكتابات المستشرقين الغربيين، ما يعني أن فرنسا كانت تطمح إلى حكم سورية وفق صيغة (مراكشية)، بحسب فيليب خوري، أي الحكم من خلال الوكلاء المحليين، بينما نلاحظ هنا أن هذه السياسة لم تكن أيديولوجية صرفة، إنما ترتكز على واقع (أقوامي) إثني أكيد(12)، ليكون أهم قرار فرنسي في هذا السياق هو الذي أصدره المندوب السامي في المدة التي تلت إعلان دولة العلويين القاضي بأن العلويين هم طائفة مستقلة مذهبيًا عن الطائفة السنيّة، الأمر الذي استصحب إنشاء محكمة شرعية خاصة بالطائفة وتعيين شيوخ علويين لمباشرة هذه المهمّة، ليساهم رجال دين شيعة من لبنان في المساعدة في تأسس تلك المحاكم لخبرتهم في الشرع الجعفري، وذلك كله بتسهيل ومساعدة فرنسية. ولتكتمل صورة الأساسات التي قامت عليها الدولة العلوية لا بد من الحديث عن مشاركة العلويين في الجيش الفرنسي التي كانت الأساس الأول لما يمكن تسميته عسكرة المجتمع العلوي؛ بدوره كان عماد الحكم الفرنسي لسورية حينها الجيش المسمّى جيش المشرق الذي أعيدت هيكلته مرارًا ليستقر في عام 1920 بعد توسيع مشاركة العناصر بداخله، ففضلًا عن المسيحيين كان هناك العلويون والدروز إضافةً إلى الأكراد والشركس والعرب السنيين الريفيين، ليصبح اسمه (الفيلق السوري) ثم (القوات الخاصّة)، حدث ذلك في ظل العزوف السني التقليدي، إذ كانت السنيّة المدينيّة تنظر إلى مهنة الجندية نظرة دونيّة.
انضواء العلويين تحت لواء الجيش المشار إليه جاء نتيجة لأوضاعهم المادية السيئة، وعلى الرغم من الوجود العلوي الكثيف هذا في الجيش فإنه لم يتجاوز 25 في المئة من تعداد المجندين المحليين، وقد كانت فرنسا تخشى زيادة نسبة المجندين العلويين بخاصة أبناء عشيرة البشارغة الذين كانوا رأس الحربة في ثورة العلويين في السنوات الأولى للحكم الفرنسي، يأتي ذلك مقابل نسبة منخفضة للعلويين والدروز في جهازي الدرك والشرطة.
أما بالنسبة إلى دولة العلويين، فإنها كانت أقل مما يعبّر عنها اسمها، فخلال العقد الأوّل من عمرها لم يشهد العلويون تغيّرًا اجتماعيًا جذريًا، فبقي المجتمع فلاحيًّا متخلّفًا، ولم تنشأ بين المدينة والريف عمليات احتكاك يمكن لها أن تؤدي إلى تطوّر مجتمعها الفلاحي، ثم إن التحديثات التي قام بها الفرنسيون لم تكن كافية في هذا المجال سواء في مجالات الاقتصاد أم التعليم أم حتى على صعيد إشراك العلويين العاديين في أمور السياسة، وصل الفرنسيون إلى قناعة أن الصيغة المراكشيّة في الحكم لا تصلح في حال الانتداب على سورية، فأدخلوا فيها تعديلات تفضي إلى ممارسة الحكم المباشر مع الاحتفاظ بواجهة من الأتباع المحليين محدودة الفاعلية، إلى ذلك كان لضباط الاستخبارات الفرنسية الكلمة الفصل، وكانوا يشكّلون همزة الوصل بين النظام المدني والعسكر.
لم تكن الدولة العلويّة تشكل وحدة اقتصادية متكاملة بإمكانها أن تعيش معزولةً عن محيطها فبادرت فرنسا إلى إقامة دولة اتحادية 1922 تضم حلب ودمشق وبلاد العلويين، يرأسها مجلس اتحادي يتألف من خمسة ممثلين عن كل دولة أي خمسة عشر ممثلًا بينهم ثلاثة علويين وهم جابر العباس، إسماعيل الهوّاش، إسماعيل جنيد، ليتفكك هذا الاتحاد بعد عامين من تأسيسه نتيجةً للمشكلات بين هذه الكيانات وصلاتها الاقتصادية، ومع تسلّم الجنرال بيوت حكم منطقة العلويين بلغت شعبية فرنسا أوجها ما خلّفه الجنرال شوفلر، وذلك من خلال استثمار بالعلاقات الجيدة مع السكان المحليين 1925 مبديًا سياسة تقوم على ألا تجمع الطوائف في جبهة موحّدة قوية، وتمسكه وخلفه بفكرة استقلال دولة العلويين على الرغم من تأييده فكرة أنها جزء من الكيان السوري الأوسع، وفي مطلق الأحوال كانت أوضاع العلويين سيئة مقارنة بجوارهم في الإسكندرون، فالمجتمع العلوي هناك كان أكثر تطوّرًا سواء في المجال الزراعي الفلاحي أو في الاقتصادي العام، ومن ثَمَّ فإن الفرنسيين لم يكونوا مخلصين لفكرة دولة علوية قوية ومعزولة عن بقية سورية، فكانت الدولة العلوية أقرب إلى دولة انتقالية قابلة للتحلل والتفكك حالَ الانتهاء من دورها، على أن فكرة الدولة العلوية بذاتها أفضت إلى تطوير الوعي العلوي السياسي فكان الحدث مفصليًا بامتياز.
يبحث هذا الفصل في ظهور المثقفين بمعاركهم وتأثيرهم، فظهورهم على سطح الحوادث كان نتيجة انتشار التعليم الذي أرسته فرنسا إضافة إلى ابتعاد مناطق العلويين عن التوترات السياسية التي كانت تحصل في المدن الداخلية، وعدم امتداد الثورة السورية 1925 إلى تلك المناطق ما سمح بحالة من الاستقرار والهدوء، فضلًا عن تحوّل العلاقات داخل المجتمع العشائري واختلاف نموذج زعمائها، فكان التنافس السياسي بينهم بديلًا من المنافسة العنفيّة، فبات واضحًا لدى الفئة المتعلّمة أن موضوع الاستقلال الذاتي ما هو إلّا زيف، أسهم في كشف هذا الأمر الأزمة الاقتصادية في العشرينيات (أزمة الكساد العالمي)، وكشفت نمط الاقتصاد الإقطاعي الذي كان قائمًا وتخلفه في منطقة تعاني العزلة. تطوّر مزاج المثقفين الذين باتوا يطمحون إلى تشكيل أنديتهم ومنابرهم الخاصة، فأنشأ الشباب صحفه ومجلاته، وصدرت أولى الجرائد في عام 1921 باسم (الصدى العلوي) لصاحبها عابد جمال الدين، تلتها مجلة (العلوي ) بالعربية والفرنسية، لتتبلور التجربة مع صدور (الأماني)، ولتصدر بعدها مجلة (النهضة)، بدورهما أسهمت المجلتان الأخيرتان في خلق بنية ثقافية في محيطهما، فكان اللافت أن تجذبا كتابًا سنيين محليين، إلى جوار كتّاب سنة وشيعة من لبنان، أسهمت كذلك في دعم الحضور النسائي، وكانت أشهرهن ابنة الشيخ سليمان الأحمد شقيقة الشاعر بدوي الجبل، فكان دأب الشباب مسألتي الإصلاح الديني والاجتماعي، إضافةً إلى العمل السياسي المباشر ضد الفرنسيين.
كانت هويّة العلويين جماعة طائفية ممزقة ومهلهلة، لذا كان الإصلاح الديني يؤلف هواجس الجيل المثقف الشاب الذي تعرّض للصدمة في إثر مغادرته قراه ومناطقه للدراسة في دمشق ثم عودته لتأخذ المواجهة بين جيلين مختلفين حول الإصلاح الديني والاجتماعي بعدًا جديدًا، ففي المستوى الرمزي ثار الشباب على أدب الآباء والأجداد، فكانت القصائد العاطفية عوضًا عن الشعر الصوفي ثم قصيدة التفعيلة مرورًا باستبدال الزي التقليدي بالزي المدني الغربي، وصل الصدام بين الجيلين إلى درجة تكفير الجيل الشاب، ليزداد الانقسام أفقيًا من جديد بين المثقفين والمتعلمين والمحافظين، إلى ذلك كانت مقاومة الشباب للفرنسيين سلمية اعتمدت على الأساليب الحديثة (المنشورات السرية – المقالات الصحفية السياسية) مؤكدين انتماء جماعتهم الديني والوطني، ومع ذلك لم يبلغ حنق الفرنسيين المبلغ الذي حدث بين الفرنسيين والشباب الدمشقي في حالات مماثلة. نجحت الدعاوي الإصلاحية في فرض نفسها، الأمر الذي فرض على قيادات العشائر التعاطي بجدية مع الإصلاحيين، وبخاصة أن جبهة المثقفين لم تكن مقسمة إلى بيوتات وعشائر، اللهم إلا الانقسام حول التفريط بالدولة لمصلحة الوحدة، إذ برز اسم محمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل) بوصفه أحد الذين مثلوا المعارضة للانضمام إلى دمشق.
يبحث الفصل الثاني كذلك في ظهور المرشد الذي يُعدّ من العلامات الفارقة في سيرة العلويين، فقد أسهمت الحركة الإصلاحية في بروز عشيرة جديدة بين العشائر العلوية، وهي عشيرة الغساسنة أو عشيرة المرشديين، يصعب الخوض في تفاصيل هذه العشيرة/ الطائفة الجديدة لندرة المصادر حولها، خلا تقارير الضباط الفرنسيين، ففي جوبة برغال الواقعة في أعالي جبال الشعرا من القسم الشمالي لجبال العلويين ولد سلمان يونس 1905 الذي عمل راعيًا في صغره وكان أميًا، وفي إثر حالة (انخطاف روحي) ظهرت على الفتى في 1923 بدأ يخاطب الناس بكلام عن ظهور المهدي وعن روايات غريبة، وقد كانت منطقة الجبل الشمالي حينها متخلّفةً في تلك الأثناء وفقيرة ومنعزلة، ولعل مجمل هذه الأوضاع دعت مشايخ تلك المنطقة إلى رعاية ذلك الفتى، فكان أن منحوه غطاءً شرعيًا ودينيًا لتظهر دعواه وتنتشر بسرعة، إلى ذلك لم تؤدِ حركة الفرنسيين في نفيه إلى الرقة مدة عامين (1925-1937) إلى انحسار دعواه بل ازدادت وتيرة المنضمين إليها، وحال إعادته إلى منطقته لم يشكل هاجسًا للفرنسيين إلا عندما أمر بوقف دفع الضرائب من جراء الأوضاع السيئة التي عاشها أتباعه، مع تقدّم الأمور اختار سلمان يونس لنفسه لقب (المرشد)، وجمع بين يديه الزعامتين الدينية والزمانية، ليجمع ثروةً طائلة، في ما أطلق عليه الضابط الفرنسي ديلاتر لقب (الرب) نوعًا من السخرية، ليتلصق ذلك اللقب بالمرشد، ومع شق الطرق والتوقف عن دفع الضرائب، ثم تأسيس جيشه الخاص المسمّى بـ (الفداي)، فرض المرشد إرادته بخصوص عمليات بيع التبغ وشرائه، وتحديد أسعاره، أي إنه تحوّل إلى حاكم مطلق في منطقته، فلم يستوعب الفرنسيون ظاهرة المرشد المفاجئة لهم، إذ حاولوا في ما بعد استيعابها وكبتها من دون إثارة المجتمع المحلي، بمعنى أنه لم يكن للفرنسيين دور في نشوء هذه الظاهرة أو تطوّرها.
يبحث هذا الفصل مسألة ظهور الأحزاب، فقد تأخرت الأحزاب العقائدية في الوصول إلى العلويين، ففي أواسط الثلاثينيات بدأ التأثر بالدعايات الحزبية التي كانت محصورة بالحزب الشيوعي والحزب القومي السوري، استقطبت الأخيرة المسيحيين في المنطقة العلوية بدايةً، ومع زيارة أنطوان سعادة زعيم القومي السوري ومؤسسه إلى صافيتا، وزيارته الزعماء المحليين هناك أدى إلى ازدياد نفوذ الحزب وحضوره، لا سيما بعد انتساب الشيخ إبراهيم عبد الرحيم، في المقابل تأخر الحزب الشيوعي بالوصول إلى الإقليم العلوي، وإذا كان القومي السوري نجح في ملامسة مسألة الأقليات وحساسية فكرة الهويّة عند العلويين، فإن الحزب الشيوعي لامس الواقع الاجتماعي والاقتصادي الصعب للفلاحين العلويين، لكن في ما بعد ظهر دور الانتماء العشائري في خريطة الأحزاب.
الفصل الثالث: ضد الفرنسيين ومعهم 1936 – 1946
يتحدث هذا الفصل عن النضال السوري لأجل المعاهدة السورية- الفرنسية، إذ نجح الفرنسيون في القضاء على الثورة السورية بين عامي 1925 و1927 بالقسوة والعنف، لتشهد الأعوام بين 1928 و1932 لقاءات المفوّض السامي هنري بونسو، وقيادات من الكتلة الوطنية، كانت بلا جدوى، فقد أصرت الكتلة على التوقيع على معاهدة مع الفرنسيين، وعلى مسألة الوحدة السورية، والتخلّص من الانتداب والاستعاضة عنها بعلاقات مميزة بين الدولتين، فعملت الكتلة عبر سياساتها ومن خلال مؤتمراتها على تأكيد وحدة سورية، وإلغاء التجزئة، ليتأزم الوضع بين الكتلة وبونسو، فعندما سافر الأخير إلى جنيف للاجتماع بلجنة الانتداب الدائمة في عصبة الأمم اقترح تقسيم سورية إلى منطقتين؛ الأولى تضم سورية (منطقة المعاهدة)، والثانية (منطقة الانتداب)، وتشمل لبنان الكبير وجبل الدروز ودولة العلويين، الأمر الذي دفع الكتلة إلى التصعيد، فاجتمعوا في حلب 1933، وأصدروا بيانًا ينص على أن الكتلة لن تفاوض إلّا بعد التثبّت من تحقيق الوحدة، وقبول المفاوضات على أساسها، ومع التفاوض المستمر بين الطرفين أصر الفرنسيون على رفضهم إلحاق دويلتي الحكم الذاتي (الدروز والعلويين) بالدولة السورية، وأن تبقيا تحت الإدارة الفرنسية، في ما بعد ولدت مبادرة دومارتيل في عام 1934، يقترح من خلالها على وزارة الخارجية مشروعًا جديدًا، عرف في ما بعد بـ (قانون المحافظات)، يطال دولتي العلويين والدروز، ويرمي إلى تقسيم سورية إلى محافظات نوعًا من الإصلاح الإداري، ومقدمة لحل مسألة الوحدة السورية، وفي عام 1936 نتيجة الإضراب الذي دام حوالى ستين يومًا، نجحت الكتلة في تغيير موقف فرنسا، ومن ثَمَّ رضوخها لمطلب الوحدة، ومع المفاوضات برزت إلى السطح في الجلسات الأولى للمفاوضات النقاط الخلافية حول ثلاث مسائل: الوحدة، والأقليات، والأمور العسكرية.
في ما خصّ الوحدة أصر الجانب الفرنسي على أن تبقى منطقتا الحكم الذاتي (العلويين والدروز) قائمتين طوال مدّة المعاهدة، وأنهما منطقتين غير سوريتين، وفي مخرجٍ فرنسي اقترحوا أن يُعَيّن حاكم المنطقتين من رئيس الجمهورية السورية بدلًا من المفوّض السامي، وبذلك فهم يوجدون (رابط ولاء) بين الدولة السورية ومنطقتي الحكم الذاتي، الأمر الذي عدّه السوريون إجراءً شكليًا وفارغًا.
أما بالنسبة إلى الجانب العسكري، أبدى الفرنسيون بعض المرونة، فقد اقتنعوا بالانسحاب من المدن الكبرى لا سيما دمشق وحمص، في ما أصر العسكريون الفرنسيون على عدم تقديم أي تنازل في هذا الاتجاه، فكانت حجج الفرنسيين في هذا المسألة هي طمأنة العلويين والدروز، بينما واقع الحال كان لأجل ضرورات دفاعية متمثّلة بالوجود العسكري الفرنسي في شرق المتوسط.
أما بالنسبة إلى المسألة الثالثة والمتعلّقة بالأقليات، فقد هاجم الوفد السوري المادة السابقة في مسودة معاهدة 1933 التي رغب الفرنسيون في الإبقاء عليها في المعاهدة المقبلة التي تشير إلى احتفاظ فرنسا بحق التدخل لمصلحة الأقليات، ليرفض السوريون بدورهم هذه النقطة، وأن الدستور قد ضمّن هذه النقطة في حقوق الأفراد والجماعات بوضوح، وفي المحصّلة فقد نجح السوريون في تجنب ذكر مسألة الأقليات في نص المعاهدة، على أن تُذكَر في ملحق خاص مع استبدال (أقليات) بـ (الأفراد والجماعات) بينما اشترط الفرنسيون أن تبقى منطقتا الحكم الذاتي شبيهتين بسنجق الإسكندرون على أن تكونا ضمن الجمهورية السورية، وتعثّرت المفاوضات حتى توصّل الطرفان إلى أن يكون حاكما المنطقتين من السوريين، ويُسمَّيان من الرئيس السوري، وعلى أن تنسحب القوات الفرنسية من تلك المنطقتين بعد خمس سنوات، وأن يلتحق الجنود السوريون المنضوون في جيش الشرق بوزارة الدفاع السورية خلال المرحلة الانتقالية للمعاهدة.
عمومًا برزت مسألة الأقليات في المسألة السورية، فبداية استعمال المصطلح كانت خلال الحرب العالمية الأولى، وترافق مع ظهور النزعات القومية، والدول الحديثة التي قامت على نموذج (الدولة – الأمّة)، وترافق كذلك المصطلح مع ظهور مبدأ حق تقرير المصير، أما بالنسبة إلى المنطقة فإن النموذج التركي – اليوناني كان أبرز مثال لتدوير المصطلح في المنطقة، فكانت البداية مع مؤتمر لوزان 1923، إذ جرى الاتفاق على حل مشكلات الأقليات بالنسبة إلى كلٍ من تركيا واليونان بعيد حربهما التي استمرت ثلاثة أعوام (1919- 1922)، فتمثّل الحل بتبادل الشعوب بينهما، الأمر الذي نتجت منه مآسٍ في المستوى الإنساني والاجتماعي، ومن ثَمَّ أثيرت الخشية من أن تصبح هذه السابقة نموذجًا يقتدى به، أما بالعودة إلى النظرة الفرنسية إلى مسألة الأقليات فقد انطلقت من زاويتين؛ الأولى استعمارية لم تكن ترى في السوريين أمةً في الأساس، أما الزاوية الثانية فقد كانت دينية، وتتمثل في دور فرنسا في حماية مسيحيي المشرق، وتجدر الإشارة إلى أن المصطلح لم يكن كثير الظهور خلال السنوات الأولى للانتداب. تحوّلت الكتلة الوطنية منذ الثلاثينات إلى قوّة، فصار لعلاقاتها بالأقليات أهمية خاصة، فكانت الكتلة بما هي المجال السياسي الذي تتمثل من خلاله البرجوازية السنية تمثّلًا بارزًا، لذا فإن عقلية الكتلة تشكّلت وفق أربعة عناصر تتحكم فيها وهي: مسالة الحدود، والقومية العربية، والاستئثار، الإهمال.
طوّبت المعاهدة الكتلة ممثلةً وحيدة للسوريين، فكان العام 1936 مفصليًا في تاريخ الكتلة وسورية، فقد أبرزت المعاهدة (المسألة العلوية) وجعلتها جزءًا من النشاط السياسي للفرنسيين، وكذا بالنسبة إلى الكتلة، فكان شكل العلاقة بين الكتلة والأقليات في العموم هو المدخل للعلاقة بين العلويين والكتلة، وهنا تجدر الملاحظة بأن النجاح الباهر للكتلة في الانتخابات النيابية أدى إلى ظهور سياستها الحقيقية المتمثّلة بالتنصل من الملاحق الخاصة بالأقليات في المعاهدة، إذ قام مندوبو الكتلة باستفزاز أبناء الأقليات وتنفيرهم -ومن ضمنهم العلويون- من الحكومة، فمع تسلّم إحسان الجابري ممثل الحكومة المحافظة بدأت بوادر صدام سنّي – علوي، وبرزت ملامح سلوك طائفي، سواء من الجابري أم من أنصار الكتلة، الأمر الذي تسبب بتحوّل مواقف الوحدويين العلويين إلى الفريق الاستقلالي، هنا أيضًا برز دور سلمان المرشد المناهض للكتلة، لتصبح مسألة نفوذ المرشد الهدف الأول للكتلة التي لم تسمح لها الأوضاع السياسية بمواجهته.
في مقابل هذا المد والجذب تمثّل العلويون للمرة الأولى في تاريخهم بوزير واحد في الحكومة، وإن كان حصول ذلك بتنسيق فرنسي، لا بإرادة الكتلة نفسها، وتوقفت الحياة السياسية في سورية بسبب الحرب العالمية الثانية، ومع عودة الحياة السياسية ووصول الكتلة إلى السلطة 1943 عاد الصراع بينهم وبين العلويين مجددًا، وعلى الرغم من أن العلويين فضّلوا المبادرات الدبلوماسية والسياسية على التصعيد إلّا أنهم لم ينجحوا في المسعى الذي كان يقابل بالتصعيد، بالعودة إلى الأعوام 1936 – 1939 فإن الأوضاع في هذه المرحلة انعكست في الوعي السياسي العلوي، وأبرز تلك الحوادث كانت خسارة سنجق الإسكندرون لمصلحة تركيا، ومن ثم قانون الأحوال الشخصيّة المعروف بقانون الطوائف، وفي العموم دخل العلويون مرحلة الاستقلال، وهم في حالة عداء مع الكتلة، لكنهم دخلوا هذه المرحلة برغبةٍ منهم في المشاركة في الحياة السياسية، وتحصيل حقوقهم، وبأن منطقتهم هي جزء متمم لسورية.
الفصل الرابع: مرحلة الجلاء؛ القطار يسرع 1946 وما بعدها
في 26 نيسان/ أبريل 1946 تشكّلت حكومة الاستقلال برئاسة سعد الله الجابري، وفي وقتٍ لاحق لتشكيل الحكومة اعتُقِل المرشد (آخر الأساطير المؤسِّسة) في معقله بجوبة برغال من دون مقاومة حقيقيّة تذكر، لتبدأ مرحلة ثانية استعرضت فيها الحكومة قوّتها ورغبتها في جعل المرشد عبرةً للجميع سواء أكانوا من جماعته، أم من الأقليات الأخرى لا سيّما الدروز، ليرافق هذه المرحلة حملة تشهير واسعة قامت بها الحكومة لم تطل المرشد فحسب بل طالت العلويين أيضًا. بدأت المحاكمة في 23 تشرين الأول/ أكتوبر، فإلى جانب مكان المحكمة (دار الكتب الوطنية في اللاذقية) كانت المحكمة علنيّة وتبثّ عبر مكبّرات الصوت إلى الخارج إلى جوار الإهانات العلنيّة التي تعرّض لها المرشد خلال اصطحابه إلى قاعة المحكمة، إلى ذلك ظهر بدعمٍ من الحكومة كتابان عن قضيّة المرشد في الأسواق عُرضت من خلالها روايتها الخاصّة للحوادث، هذا عدا الأموال التي دفعت لشراء ذمم بعض الصحافيين لمنعهم من نشر أي شيء عن قضية المرشد، ونشر اتهامات من بينها سعي المرشد لتأسيس دولة علويّة، فاتسمت المحاكمة بطابعها الطائفي، إذ بدأت الصحف بوصف المرشد بـ (ربّ العلويين)، متعمّدة الخلط بين زعامته لجماعته، والعلويين وانتمائهم الديني في العموم، ومكرّسين في الوقت ذاته اللقب الذي وصفه به الفرنسيين يومًا ، الأمر الذي استفزّ العلويين الذين أرسلوا برقية احتجاج إلى نقابة الصحافيين في سورية ولبنان موقعة من 150 شخصية، وفي سياق المحاكمة أُسقِطَت تهمة (الخيانة العظمى)، إذ فشلت الحكومة في إثباتها، ليحكم عليه بتهمة قتل زوجته، وليعدم المرشد في 16 كانون الأول/ ديسمبر 1946، وتعرّض معقل المرشد إلى أعمال نهب وسلب على يد الدرك بصورة تشي بالقسوة المفرطة.
يمكن عدّ قضية المرشد، ثاني الأساطير المؤسسة لوعي العلويين السياسي في العصر الحديث بعد صالح العلي وثورته، بفارق أن أسطورة الأول مكتفية بذاتها، في حين إن أسطورة صالح العلي جرى تضخيمها لتُوَظَّف لمصلحة غاية مفادها إثبات وطنية العلويين. جاءت نهاية المرشد مؤشرًا على نهاية دور الزعامات العشائرية العلوية نتيجةً للوضع الجديد (الاستقلال)، ومع تكوّن قناعة جديدة مفادها أن الزعامات التقليدية غير قادرة على الدفع بالعلويين نحو التطوّر في المستوى السياسي والاجتماعي، لتبحث النواة الناشئة في الطبقة الوسطى من المتعلمين والموظفين العلويين عن بديل فعلي، ففُسح المجال للحزبية التي كانت وصلت وصولًا محدودًا وضيقًا إلى مناطق العلويين في أواسط الثلاثينيات، لتجذب الأحزاب الأيديولوجية الشباب العلوي إليها، فلم تكن الأحزاب الوطنية التقليدية (الشعب، والوطني) ذات البنية البرجوازية مغريةً للشباب العلوي للانتساب إليها بعكس الأحزاب الأيديولوجية: البعث والشيوعي والقومي السوري، إذ تبدو شعارات الأحزاب الأيديولوجية جذّابة أكثر من مثل العلمانية والاشتراكية.
كذلك يتحدّث الفصل الأخير عن مسألة الجيش التي تحتل موقعًا مركزيًا بعد مسألة الأحزاب، فمن التحديات التي واجهتها حكومة الجابري في عام 1943 كانت مسألة الجيش، فقد كان موقف حكومته باردًا إذ ذاك من هذه المسألة، إلا أن إصرار المعارضين للحكومة وفي مقدمتهم أكرم الحوراني على تكرار المسألة وضع الحكومة أمام مسؤوليتها تجاه هذه النقطة، ولتتذرع حكومة الجابري من ثم بالنفقات المالية غير المرصودة لمعالجة هذه المسألة، ونتيجة جهد الحوراني وصديقه الضابط الحمويّ نخله كلّاس واجتماعهم الأول بالضابط عدنان المالكي إلى جوار جهد جماعاتٍ أخرى بعيدة عن الحوراني؛ نجح الضباط السوريون في الانشقاق عن الجيش الفرنسي والتحاقهم بالجيش السوري الوليد، وبقي القادة السياسيون يحتقرون الجيش، ولم يفارقهم هذا الشعور حتى بعد مغادرة الفرنسيين، كذلك لم يثق القادة الوطنيون بسلك الضبّاط، إذ يجوز الظن في أن لانقلاب الضابط العراقي بكر صدقي 1936 على حكومة ياسين الهاشمي قد مثّل صدمة للكتلة، وتنبيهها وإثارة مخاوفها من مؤسسة الجيش على الرغم من اختلاف أوضاع الجيش في البلدين. بقيت الحكومة على موقفها السلبي من الجيش حتى عند تسلّمها الجيش من الفرنسيين في تموز/ يوليو 1945 فوجدت الحكومة نفسها مجددًا أمام قضية الأقليات حين كان لزامًا عليها التعامل مع مطالب الدروز الذين كان جنودهم أوّل من طرد الحاميات العسكرية الفرنسية من منطقتهم، وأعلنوا انضمامهم إلى الجيش السوري قبل عامٍ من الاحتفال بالجلاء، وإلى جانب الدروز كان هناك دور بارز للعلويين في مسألة الانشقاق عن الجيش الفرنسي، فإضافة إلى دور المرشد في هذا الصدد أسهم أكثر من زعيم علوي في ذلك، من مثل آل الهوّاش، وأحمد علي كامل، وإبراهيم الكنج.
يرى الكاتب أن شكري القوتلي ارتكب (خطيئة) إقحام الجيش في الحياة السياسية، وتسييس الجيش، وذلك في عقب هزيمة 1948، عندما هاجت الناس، وعمت الاضطرابات، الأمر الذي دفع القوتلي إلى الطلب من حسني الزعيم التدخل، إذ لم يعد بعدها بمقدور القوتلي ضبط الجيش الذي نفّذ انقلابه الأول بقيادة الزعيم 1949.
بدورهم شارك العلويون في حرب فلسطين 1948 بفاعلية حقيقية، إلى درجة أنهم خالفوا أحيانًا بعض الأوامر العسكرية المرتبكة الصادرة من القيادة في دمشق، أما عن دورهم في الانقلابات فقد كان ثانويًا وتكميليًا، بعكس الدروز الذين كانت درجة تورطهم أعلى.
في نهاية الكتاب يسرع الكاتب ليعلمنا بالمحطات التي تؤلف فصول الكتاب على مضض، ليضيف في المحصلة أن قطار العلويين السريع وصل إلى «محطة الثورة السورية 2011، فلا بد من التوقف الآن، لا بد من استراحة يقوّم فيها، بالاشتراك مع مواطنيهم السوريين، الأسباب التي أدت بقطارهم إلى ذاك الانحراف المديد، على أمل أن ينطلق مجددًا، مغيّرًا مجراه وطريقه، ليتوازى مع طريق السوريين جميعهم».
([1]) حسان القالش، قطار العلويّين السريع: الوعي السياسي عند العلويين، النشأة والتطوّر 1822-1949، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017)، ص10
([2]) هو أبو شعيب محمد بن نصير النميري مؤسس الطائفة، بينما لا يحبذ العلويون هذه التسمية التي تبعدهم عن الإمامية وعن التابعية لعلي بن أبي طالب.
([3]) رشيد الخيّون، النصيرية العلوية بسورية، ط1، (د.م: دار مدارك، 2012)، ص 36
([4]) سفراء الغيبة الصغرى الأربعة هم: العمري، وولده محمد، والنوبختي، والسمري.
([5]) بحسب المعتقد العلوي – النصيري إن لكل إمام بابًا تيمنًا بالحديث النبوي «أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب».
([6]) رشيد الخيّون، النصيرية العلوية بسورية، ص 35.
([7]) المرسوم الهمايوني أو الخط الهمايوني هو القانون الذي وضعه السلطان العثماني عبد المجيد الأوّل في عام 1856 نتيجة دعم فرنسا وبريطانيا الدولة العثمانية في حربها مع روسيا، ويعدّ هذا القانون المنفذ الذي دخلت من خلاله الحملات التبشيرية الغربية.
([8]) سفربرلك: تعبئة، نفير، سفربرلك، تأهب للحرب، استعداد للحرب، المعاني https://goo.gl/uGzY96
([9]) وجيه كوثراني، بلاد الشام مطلع القرن العشرين، ط3، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،2013)، ص220.
([10]) ((كانت النخبة البيروقراطية تنتمي إلى عائلات كبار الملاكين في ميناء اللاذقية، وكانت سنية وتمثّل 80 في المئة من مجموع السكان، أما المسيحيون الأرثوذكس يمثّلون ثاني أكبر طائفة. غير أن المدينة كانت تشتمل أقل من 10 في المئة من مجموع سكان المحافظة، الأمر الذي يدل على انخفاض مستوى التمدين. و66 في المئة من المحافظة كان يتألف من فلاحيين علويين معدمين يعيشون في الجبال والسهول الواقعة خلف المدن الساحلية)) فيليب خوري، سورية والانتداب الفرنسي –سياسة القومية العربية 1920-1945، ترجمة مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، (مؤسسة الأبحاث العربية، 1997)، ص576.
([11]) وجيه كوثراني، بلاد الشام مطلع القرن العشرين، ص 403.
([12]) كوثراني، بلاد الشام مطلع القرن العشرين، ص403.
إضافة تعليق جديد