فرضت الثقافة الإسلامية في البلدان العربية نسقاً اجتماعياً يتعامل مع جسد المرأة كعورة. ومع تطوّر المجتمعات وشعارات التحرّر اكتسبت هذه التقاليد مرونة تتيح لها فرض تسوية مع الواقع. لبنان كان كالعادة البلد العربي السّباق في هذا المجال. فقد كان أول من خصّ النساء بمسبحهن الخاص، تبعته بلدان خليجية أخرى على استحياء، لكنه ظلّ الوحيد الذي طوّر هذه الظاهرة
رنا حايك
طرح علماء الاجتماع ومخرجو السينما تصوّرات كثيرة عن مدينة تسكنها النساء فقط. وألهبت فكرة وجود حيّز جغرافي نسائي حصرياً خيال الرجال على مدى التاريخ بينما أتاحت للنساء فرصة لممارسة تواطؤ حميمي.
من الحمّامات التركية إلى المسابح التي يعجّ بها اليوم الشاطئ اللبناني، تستحقّ ظاهرة «التكتّل النسائي» في حيّز جغرافي محدد وقفة تحليلية لا تخلو من سلوكية تلصّص: كيف تتصرّف المرأة العربية بكل ما تحمله من تراكم قيميّ وثقافي اجتماعي في مكان لا رجال فيه؟ كيف تتعامل مع قريناتها؟ ومع جسدها، في ظل غياب السلطة الذكورية؟
■ تقسيم جغرافي
في مسبح النساء، يترجم التقسيم الاجتماعي على شكل تقسيم جغرافي: فربّات المنازل يتحلّقن حول بركة السباحة الخاصة بالأطفال. نساء لا تهمّهن السباحة ولا حتى اكتساب اللون البرونزي، يهمّهن فقط أن يلعب أطفالهن ويمرحون بينما يتناولن هنّ فنجان القهوة مع صديقاتهن.
أما على أطراف المسبح، فكلما ابتعدت عن البركة واقتربت أكثر من البحر الذي يكون «أقل شرعية» إذ ينكشف أكثر على العالم الخارجي، تتمدّد الصبايا وعلى جلودهن طبقة كثيفة من الزيوت، يتحادثن ويدخّنّ النارجيلة، يرقصن أحياناً على وقع أغانٍ مثل: «هس هس هس، بص عليّ بص»، ويتبادلن الأحاديث عن الأب الذي يدقّق في مواعيد الدخول والخروج من المنزل و«الصاحب» الذي يحتجّ على الملابس الشفافة أو العريس الذي اشترط على العروس أن تستقيل ففضّلت عملها على الزواج.
تتمدّد الأجساد وتتلوى تحت أشعة الشمس وكأنها تتنافس على الاسمرار. لسن نساءً من النرويج. لسن شقراوات. يتساءل المرء لمَ كل هذه الهستيريا على اكتساب البرونز؟ قلة قليلة منهن تنزل إلى الماء، فالهدف الأول هو الاسمرار. والاسمرار الكامل الذي يتخطّى في أحيان كثيرة لباس البحر المنحسر أصلاً. سؤال آخر يفرض نفسه: هل الحشمة قيمة نسبية لا تتحدّد إلا بحسب وجود الذكر أو عدمه؟ وكيف يمكن تحقيق هذه النقلة البهلوانية الحادة أحياناً بين الحجاب والتحرّر الجسدي الكامل؟.
■ تنافس حريمي
بعضهن يستمتع بالتحرّر من سلطة الكاميرا ــــــ الرجل في هذا المكان، أما البعض الآخر، فيستبدل ذلك التوتر الجنسي بتوتر آخر أكثر فتكاً يتعلّق بالتنافس الحريمي. فالخلخال والكعب العالي جداً وخلخال البطن والحلقة على الصرة تتناسب مع لون طلاء الأظافر وما بقي من لباس البحر على الجسد. وعيون النساء الممددات تعمل ككاميرات استطلاع تتفحص الجسد الآخر من رأسه إلى أخمص القدمين. لن تميّز المحجبة منهن إلا حين ترتدي ثيابها وتهمّ بالرحيل. وعندها ستفاجأ إذ تكتشف أن الكثيرات منهن لسن غير محجبات فحسب بل يرتدين ملابس «فاضحة» ومتحرّرة تجعلك تتساءل عن سبب ارتيادهن هذا النوع من المسابح.
بعض النساء يرتدن هذه الشواطئ بعد أن يتخطين سن الأربعين لأنهن يرتحن أكثر لا لأنهن يمتنعن عن لبس «المايوه» في الأماكن المختلطة. هذه الشريحة تختار المسابح الخاصة بالسيدات لكن «المتساهلة» إذا صحّت تسميتها كذلك، إذ إنها مكشوفة قليلاً على الخارج.
ترى سهام، وهي ربة منزل أربعينية، أن المسابح الخاصة بالسيدات هي بمثابة «فشة خلق». فوجودها يتيح لها الاهتمام بأطفالها واصطحابهم إلى البحر، لأن الزوج «لن يهتم بهم كثيراً لو اصطحبهم وسيتلكّأ عن اصطحابهم في أحيان كثيرة». وهي تشعر بالراحة في هذه الشواطئ، إذ يكتسب جسدها حرية كاملة في حركته وتمدده.
رغم شهادتها الإيجابية، تبدي سهام بعض التحفظات: فالرقابة على النظافة ليست مشددة جداً في مسابح النساء، لذلك تفضّل دائماً السباحة في البحر لا في البركة. كذلك تتضايق من النساء اللواتي يخلعن حمالات الصدر لمزيد من الاسمرار، فالأولاد المسموح بدخولهم قد يصل سنهم إلى الحادية عشرة، وهي سنّ حرجة: «اعترضنا أنا ومجموعة من النساء على هذه السلوكية فمنعت إدارة المسبح الذي أرتاده ممارستها».
تتنوّع شرائح النساء اللواتي يرتدن هذه المسابح ولا تقتصر على اللبنانيات فقط. فالأجنبيات، ممن يرتدن الشواطئ المختلطة، جذبتهن «مدينة النساء» لكنها خيّبت آمال معظمهن.
يوتا امرأة ألمانية متزوجة بلبناني وتعيش في لبنان منذ سنوات. اعتادت خلال المواسم الصيفية السابقة أن تقصد شواطئ النساء في المرات الأولى من نزولها إلى البحر كل عام، لتكسر قليلاً من بياض بشرتها الناصع قبل ارتيادها الشاطئ المختلط، وأحياناً كانت ترتاد شاطئ النساء مع صديقاتها لأنها أحبّت فكرة الخصوصية والحميمية التي تستتبعها، إلا أن يوتا سوف تمتنع ابتداءً من هذا الصيف عن ارتياد شواطئ النساء. تقول: «كنت أعتقد أنني سوف أرتاح أكثر في هذا المكان، بعيداً عن عيون تتفحّصني، لكنني اكتشفت أن المراقبة هنا أشد. فالنساء يتجمّعن هنا كالقبيلة، ويتفحّصن بأعين وقحة كل وافدة جديدة». يمنع هذا التصرف عن الوافدة الجديدة الاسترخاء، كما يمنعها عدم تطبيق قوانين النظافة على البركة من أن تسبح فيها. فالنساء «يدهنّ أجسادهن بالزيت ويرقصن فيتعرّقن تحت الشمس ثم يغطسن مباشرة في البركة من دون الاستحمام تحت الدوش المحاذي للبركة مباشرة».
تشعر يوتا بــ«الكبت الجنسي الذي يدفع الصبايا أحياناً إلى النفاق. فهن يرتدن هذه الشواطئ لكن يتخّذن ركناً بعيداً على أطراف المسبح المطلّ على مسبح مختلط محاذٍ ليصبحن في المدار البصري للرجال». تتضايق أيضاً من بعض العدوانية التي تشعر بها في تصرفاتهن: «فهن يتنافسن طوال الوقت، ولا أفهم ضرورة وضعهن للماكياج خلال يوم سيقضينه على الشاطئ».
مدينة النساء ظاهرة تستحق التوقف عندها في مجتمع تختلط قيمه كالمجتمع اللبناني، ففي مقابل رصد ميول تحررية كاملة منافية للحشمة لدى بعض رائدات هذه المسابح، تصرّ بعض النساء على النزول إلى الماء بثيابهن الكاملة، رغم غياب الرّجل عنها.
--------------------------------------------------------------------------------
قوانين المسابح النسائية
تتّخذ إدارات المسابح الخاصة بالسيدات تدابيرها الوقائية التي تشبه إلى حد بعيد تلك المتخّذة في المسابح المختلطة. فعاملات النظافة يراقبن عن كثب غرف الاستحمام وتبديل الملابس ويمنعن دخول أكثر من فتاة في وقت واحد إليها لحرص إدارات هذه المسابح على سمعتها، والحؤول دون انطلاق شائعات انتشار المثلية الجنسية فيها.