آخر الأخبار

العملية رقم سبعة-من ملفات المخابرات(الأخيرة)

شروط صفقة الخيانة

كانت الأنفاس في تلك اللحظة محتبسة قلوقة، والوجوه غشاها إرهاق الخوف والاضطراب، وتوقفت عقارب الزمن تزيد العقول جنوناً، وبدا عاميت في أحلك لحظات حياته، التي سيتحدد بعدها مصيره بين رؤساء الموساد على صفحات التاريخ. فهتف لأحد ضباطه أن يذهب الى الحجرة الأخرى، عارضاً على الطيار العراقي مليون دولار أخرى، وإن استدعى الأمر مليونان. .ثلاثة ملايين.. لا يهم. .!!

أبو داود نفسه كان يملك قرار مضاعفة المبلغ، لكنه فضّل الانتظار وترقب رد الفعل عند روفا. .وكان في داخله أيضاً يعيش تلك اللحظات العصيبة، التي يعشها عاميت ورفقاؤه.

أخيراً نطق أبو موسى، أراد هو الآخر أن يصنع لنفسه مجداً، ربت على فخذ الطيار التائه وقال:
[ معذرة ... يمكن للأعضاء فقط أن يشاهدوا الروابط ] سنؤمن لك طيراناً آمناً عبر الأجواء الأردنية. .وستكون طائراتنا الميراج في شرف استقبالك، ومن أجل حمايتك في الجو.

أطلق روفا هواء رئتيه بصوت مسموع صحبه صفير كالفحيح، وكأنما كان يستقرئ الأمان في عيني ليزا الناعستين، إذ نظر اليها طويلاً بإمعان، وكانت يداها مازالتا تحتضنان كفه وتعصرها ضغطاً. عندئذ هزت رأسها بحركة خفيفة، ترجوه صمتاً أن يوافق.

فاستدار ناحية أبو داود، الذي استدعى - برغم ارتجافه - ابتسامة بذل جهداً خارقاً لإبرازها، وقال روفا بصوت مرتعش أتى من قرار بعيد:

هل أنتما من المخابرات العسكرية. . ؟

أجاب أبو داود على الفور:
لا . . لا . . نحن نعمل في مكتب رئيس الوزراء، ليفي أشكول، "وبعد برهة" مندوبا علاقات دولية واتصال.

علق روفا مندهشاً:
إن ما تقومان به من صميم عمل أجهزة المخابرات.

صحح ضابط الموساد في خبث وقد ارتفع حاجباه:
المخابرات الإسرائيلية لها مهام أخرى سيدي النقيب روفا، وما قصدْنا في النهاية إلا السرية حفاظاً على أمنك الشخصي.

بعد لحظات صمت طويلة، قال روفا متردداً:
ومن يضمن لي المليون دولار بعدما أهرب. . ؟

تنفس الجميع الصعداء وهتف أبو داود:
رئيس الوزراء شخصياً. . إننا ندعوك لقضاء عدة أيام بإسرائيل، وسيسر رئيس الوزراء بلقائك، ولسوف تسمع منه تأكيدات الضمان.

أجاب روفا:
أخشى أن أكون مراقباً من أحد رجال مخابراتنا، فقد جئت الى باريس بدعوى الفحص الطبي والعلاج.

قال أبو موسى بثقة:
ليس للمخابرات العراقية نشاط ملموس في فرنسا، سنؤمن لك وثيقة سفر ولن يشعر أحد بغيابك عن باريس، فضلاً عن الأوراق الطبية التي تؤكد أن رحلتك لفرنسا كانت للعلاج. وأضاف أبو داود:
وفي إسرائيل ستختار بنفسك الفيلا التي تروق لك، وليتكلم معك فنيو سلاح الجو، بخصوص الممر الجوي الذي ستسلكه، والتردد اللاسلكي للاتصال بهم، وكذا القاعدة الجوية التي ستهبط بها.

غمغم الطيار العراقي وهو يزفر:
أعتقد أن المسألة شبه مستحيلة. . فهناك مشاكل عديدة لا حلول لها.

فارداً ذراعيه صاح أبو موسى:
سنذلل العقبات التي تؤرقك. . ولن نترك مشكلة واحدة - ولو تافهة - إلا وناقشناها معك. .ووضعنا لها حلولاً.

طوقته ليزا بحرارة وهي تقبله بحنان، وبعينيها دموع تترقرق، وقال:
مونير. .أحبك .. إن عمري كله لك .. !!

تجاهلها روفا وتوجه بكلامه الى ضابطي الموساد:
أنتما لا تعلمان بأنني لم أحصل بعد على ترقية قائد سرب، وأنني مقيد بالطيران لمسافات قصيرة، حيث أحصل على وقود لمسافة 500 كيلو متر فقط. . وعند ترقيتي تُضاعف كمية الوقود، أي أستطيع الطيران لمسافة ألف كيلو متر. وفي جميع الحالات لن أتمكن من الوصول اليكم، لأن المسافة تزيد على الألف كيلو متر بين كركوك وأقرب قاعدة جوية في إسرائيل.

كان منير روفا يتكلم بصدق فعلاً، مما أكد لعاميت ورجاله غباءهم، إزاء النظم المعمول بها في الطيران العراقي. وأحس أبو داود بما يشبه اليأس أمام تلك المشكلة المعقدة. فصرامة القيود في العراق تحول دون لجوء روفا لطرق ملتوية - سواء بالرشوة أو التحايل - لملء خزان وقوده.

وفي غرفة المراقبة المجاورة، ساور عاميت الإحساس نفسه، وعندما استحكمت الأزمة وخيم الوجوم، تخطى عاميت محظورات الأمن، وسمح لضابط مخابرات سلاح الجو المرافق أن يتصل بأبو داود، بواسطة تليفون الفندق الداخلي.

تناول أبو داود سماعة الهاتف من ليزا، وظل منصتاً لا يرد، ثم وضع السماعة جانباً وهو يسأل روفا:
ألم تبذل محاولات لنقلك الى بغداد. . ؟

أجاب روفا:
تقدمت بطلبات عديدة للانتقال الى قاعدة الرشيد الجوية بالقرب من بغداد، متعللاً بظروف والدي الصحية، ووعدوني أكثر من مرة بالنقل، ومنذ شهر تقريباً علمت أن نقلي مرتبط بترقيتي فعلياً لقائد سرب، وهذا لن يكون قبل مرور شهرين على الأقل من الآن.

وعقب أبو موسى:
وعند ترقيتك ونقلك الى بغداد، بإمكانك إذن. .

قاطعه روفا قائلاً:
لو أن ذلك حدث بالفعل، لانتهت إذن مشكلة مسافة الطيران، لكن بقيت مشكلة لا أرى حلاً لها، وهي تتصل بعائلتي.

تساءل أبو موسى وقد قطب جبينه:
عائلتك. .؟

تنهد روفا وأجابه:
إن شرطي الوحيد للجوء اليكم، هو إخراج عائلتي من العراق أولاً، فالسلطات العراقية لن تهدأ حيالها. . ولن يهدأ بالي أيضاً حينما أعيش، بدونها، في إسرائيل.

كان شرط منير روفا إذن، يحمل موافقة لا تقبل الشك، على الهرب بطائرته الى إسرائيل. فعند ذلك عمت تباشير الأمل، وتهللت الوجوه في زهو، وارتمت ليزا على صدر منير روفا، تشبعه عناقاً مشوباً بالرضا، وهتف عاميت في مخبأه:

أنتم حقيقة عقول الموساد النابضة . . وفخر إسرائيل . . وعزها . . (!!)

طيار عراقي في إسرائيل

كان الطقس ربيعياً يميل الى البرودة، عندما انطلقت السيارة الرينو السوداء، تجتاز شوارع باريس المتلألئة مساء 25 أبريل 1966، باتجاه الجنوب.

بالمقعد الخلفي قبع الشاب الشاحب، الذي بالكاد يسحب ابتسامة باهتة، تتخلل أصابع يمناه شعر الفتاة الحسناء التي دفنت رأسها بصدره، بينما شرد عقله في رحلة ما أطولها. فقد طار بخياله الى بغداد، يجوب على عجل شوارعها وميادينها ومبانيها، ووقف على شاطئ دجلة يتأمل وجهه المرتعش على صفحة الماء، وفرطت المويجات الهادئة ملامحه، فانسحب في رفق الى الجسر القديم، وعبر الى حي المنصور يشتم رائحة العراق القديم، يطالعه وجه أمه الدامعة العينين، وتتشبث به أيدي طفليه وزوجته، فيطوف برأسه صراخ حاد، يشبه صوت هدير صاخب، يضرب أعماقه الجوفاء القاحلة، ويكاد ينخر جمجمته.

لم يتذكر طوال الطريق الى المطار ماذا كانت تقول ليز، حتى وهو داخل طائرة العال الإسرائيلية، اجتاحه إحساس بغياب حواسه، واتزانه، وتركيزه، كأنما ألقى به داخل كبسولة فضائية، يسبح مجدفاً في ذلك النطاق الضيق الخانق.

كان في قرارته لا يعرف بالضبط ماذا يريد. .؟ أكان يسعى خلف فاتنته ليزا. . ؟ أم طمعاً في المليون دولار. ؟

صحيح أن ليزا أعطته الكثير، وتفوقت على كل من عرف من النساء، للدرجة التي يشعر معها بأنه لم يتلذذ من قبل أن ينجرف، سابحاً خلال ذلك المحيط الرائع الواسع، الحار الدفق والمتع. لكن هل هذا فقط ما دعاه الى السفر لإسرائيل، للتخطيط لعملية هروبه من العراق بطائرته. . ؟ ولو أن المال كان مطلبه، ألا يُؤمِّن الراتب الضخم الذي يتحصل عليه في العراق، الحيارة والمستقبل لأسرته. .؟

كان يدرك تماماً أن حكومته تنفق على الطيارين بسخاء، وتضمن لهم راتباً عالياً وحياة رغدة بلا منغصات، وأنه استطاع - بواسطة راتبه - إخراج أسرته من بوتقة الفقر، وتعليم بقية أخوته في المدارس والجامعات، وعالجت الحكومة والديه - مجاناً - بأكبر المستشفيات العسكرية، واستثنت أخوته من شرط مجموع الدرجات، وألحقتهم بالمدارس والجامعات حسب رغبتاهم.

لماذا إذن يخون العراق. . ؟ وماذا فعل به قادته لكي يخونهم. . ؟ لقد قبلوه بكلية الطيران وهو الشاب المعدم ذو الأسرة الفقيرة، وأنفقت عليه الدولة مثل وزنه أموالاً لتعلمه، وبعثوا به الى الخارج في دورات تدريبية ليرتقي فنياً كطيار حربي، وعاملوه بكرم شديد وبحب كبير، دون أن يفرقوا بينه - وهو المسيحي - وبين زملائه المسلمين في المعاملة. بل إنهم كانوا أكثر تساهلاً معه، حتى لا يدعي حاقد وضيع باضطهاد المسيحيين في الجيش العراقي.

لماذا إذن وكل الأمور طيبة يخون. .؟

إن عقله يكاد يجن وهو يبحث عن إجابة تريحه، وتريح ضميره الذي غاب، بلا فائدة. كل ما يعرفه أنه انقاد وراء ليزا بلا وعي، ووافق على فكرة الهرب بطائرته دون تحسب للعواقب، وها هو يطير الى إسرائيل كالمغيب والى جواره ليزا الغارقة في حبه، يحمل جواز سفر باسم "عزرا موران بارزكاي"، في رحلة لن يتمكن بعدها من التراجع أبداً.

كان مائير عاميت قد أسرع بالعودة الى تل أبيب، ليزف البشرى لرئيس الوزراء، تاركاً روفا مع رهط من رجاله، تكاتلوا عليه، وحاصروه، ولم يتركوا له فرصة كافية ليختلي فيها بنفسه ليفكر أو يتراجع، بل أغرقوه بالإغراءات والوعود، ملوحين أحياناً بلطف شديد، بالأزمات التي سيواجهها في العراق إن لم يهرب.

وفي مطار اللد كان الوضع مدهشاً، إذ استقبل بحفاوة بالغة أذهلت عقله، وعومل، منذ لحظة نزوله سلم الطائرة، كشخصية هامة للغاية، وجذبته صائدته الماهرة، لتبتلعهما الليموزين السوداء ذات الستائر، تخترق شوارع تل أبيب قرب الفجر.

كانت دقات قلبه المتسارعة تزيد من اضطرابه، برغم التصاق ليزا به، وصوت الكاسيت الذي يردد أغنية "الورد جميل" لأم كلثوم.

أزاح الستار قليلاً بيده، وراح يتأمل اللافتات العبرية، والأضواء، والشوارع شبه الخالية إلا من رجال الأمن وسياراتهم، وثمة إحساس مؤلم بالغربة يعتصره ويذهب بأعصابه.

وأمام فيلا مسيجة بالحرس وبالسور الحديدي وأشجار البونسيانا، توقفت السيارة للحظة، ثم انفتح الباب على مصراعيه، فانطلقت الى داخل السور، ليظهر بناء داكن اللون ذو طابقين، على سلّمه الرخامي الأبيض وقف أربعة رجال، تبين فيهما أبو موسى وأبو داود، اللذين عانقاه بحرارة مهنئين بسلامة الوصول، وحاولا قدر جهدهما إخراجه من غلممة هواجسه وخوفه، وظنا أنهما نجحا.

إلا أن الليل اساكن وهمسات ليزا الملتهبة، ساعدا على تسكين روعه كثيراً، وطفق يحسو نعيم القبل، عله يطفئ براكين فكره بلظى الجسد الطامئ، وما بين ضربات النشوة الطاحنة، ودبيب الخدر بأوصاله، تناسى روفا موقعه وواقعه، وغاص يستمرئ الذاذات لعله يتوه، ويذوب في قعر الانتشاء لائذاً.

قبيل الظهيرة زاره أبو داود واثنان آخران من ضباط الموساد، واصطحباه الى شارع شاؤول، حيث يقع المبنى الرئيسي الجديد لجهاز الموساد، وكان بانتظاره مائير عاميت وكبار مستشاريه وضباطه.

لم يناقشوه في أية مسائل فنية تتعلق بعمله في العراق، أو بمسألة هروبه الى إسرائيل بطائرته، إنما انحصر حديثهم معه حول الطقس الرائع في تل أبيب، وعيد البوريم (1) الذي احتفلوا به منذ أيام. ثم تطرقوا الى الأقليات في الدولة العبرية، وكيف أن المسيحيون العرب ثاني أقلية كثافة في إسرائيل، إذ يبلغ عددهم نحو 130 ألف مسيحي، يشكلون حوال ينصف سكان الناصرة، وثلثي العرب في حيفا.

تحدثوا معه أيضاً عن حرية العبادة في إسرائيل، التي كفلها دستور الدولة لجميع الديانات، حيث يحق لكل طائفة أن تمارس عقيدتها وشعائرها، وأن يكون لها مجلسها ومحاكمها الشرعية، التي تتمتع بسلطة قانونية في إدارة شؤونها الداخلية والدينية.

وكان عاميت ذكياً بما فيه الكفاية، عندما استقدم بعض الضباط اليهود عراقيو الأصل، لحضور لقاءه بالطيار الشاب. وكان يرمي من وراء ذلك، إفساح المجال أمام روفا للتحلي بالأمان بين أناس يتكلمون بلهجته، وإبعاد أية إحساسات بالخيانة قد تهاجم أفكاره. وأضفى هؤلاء الضباط على اللقاء ألفة، هيأت روفا للقاء آخر شديد الخصوصية، كان من المهم بمكان أن يتم مساء اليوم نفسه . . في كيريا.

وتبعاً لتوصيات علماء النفس في الموساد، الذين قرأوا ملف منير روفا، وراقبوه منذ دخل الفيلا المعدّة لإقامته، ورأوا من خلال الكاميرات تفاصيل سلوكه في حجرة النوم، كان على ليزا برات ألا تفارقه للحظة، وأن تحيطه بعواطف جياشة زائدة عن الحد، في فترة هو أحوج فيها الى الحب والامتزاج، أكثر من أي وقت مضى.

لم تكن ليزا المدربة الذكية تجهل ذلك، إذ انصب تركيزها على إغراقه بمشاعر الحب، وبالعاطفة الملتهبة المشبعة بالعطاء والتفاني. وكان مدخلها الى عقله وقلبه قصة يُتْمها المختلقة، التي كان سريعاً ما تحرك مشاعره، وتثير فيه نخوة الشرقي العاطفي.

إن التحليلات النفسية للعرب التي اعتمدها الإسرائيليون، انصبت على أنهم أناس عاطفيون، يثقون بالآخرين بسرعة ويتبسطون معهم بلا تحرز، ومن السهل اقتحامهم بإثارة مشاعرهم.

وكان لدموع ليزا وهي تحكي لروفا معاناتها النفسية المزيفة، الأثر الواضح في ارتباطه بها، وتأثره أمام مشاعرها. فكان تأثره هذا مدعاة لأن يفقد تركيزه، وينساق خلف أوهام هواجسه، التي قادته الى طريق الخيانة بلا تفكير. (1) عيد البوريم: أشهر الأعياد في إسرائيل، يبدأ الاحتفال به في 13 مارس، وفي 15 مارس يصل الاحتفال الى ذروته، حيث الرقص وشرب الخمر طوال الليل في الشوارع، وما يصاحب ذلك من فسق ومجون بشكل علني وفي حماية الشرطة. ويرجع هذا العيد الى أيام السبي البابلي لليهود، حيث استطاعت استير اليهودية إنقاذ اليهود، بحثها الملك - زوجها - على العفو عنهم.

لن يراها أبداً

دقق عاميت النظر الى ساعة يده، التي أشارت عقاربها الى منتصف السابعة مساء، عندما سأله رئيس الوزراء:
هل وضعتم حلولاً أكيدة. . ؟

أجاب عاميت المملوء بالثقة والاعتزاز:
لم نعتمد بعد خطة نهائية لتهريب عائلته، وأثق بأننا سنتدبر الأمر بحكمة.

وعلق نائب وزير الدفاع شيمون بيريز:
ستكون أروع عملياتك يا عاميت. .

فقال رئيس الأركان إسحاق رابين:
بل وأروع عمليات الموساد على الإطلاق. .

وبزهو أضاف عاميت:
في آخر حوار لي معه، قال هولمز [1 "إنكم أناس كسالى". . ولسوف يفاجئ. .

قال مردخاي هود قائد سلاح الجو:
أخشى أن تعترضه الميج السورية فيضيع حلمنا الى الأبد. .

صاح به رئيس الوزراء:
ما فائدتك إذن يا مردخاي . . ؟ أستعلق الفشل على الآخرين. .؟ أنت في هذه الحالة تعرض نفسك للتحقيق والمساءلة، والفصل النهائي من الخدمة العسكرية، فحماية الميج العراقية، حتى وهو فوق الأجواء الأردنية، ستكون مهمتك أنت وحدك. . !!

تمتم مردخاي هود بكلمات مبهمة، عندها دخل مدير مكتب رئيس الوزراء، يخبره بوصول الضيف.

كان مكتب ليفي أشكول، عبارة عن بناية حجرية من ثلاثة طوابق، تقع بين بيوت متشابهة في كيريا، وهي المنطقة العسكرية، المحصنة في تل أبيب، التي تضم هيئة الأركان العامة للجيش، والمقر القديم للموساد.

وصل روفا برفقة كاروز وليزا وأبو داود،وعند نهاية الممر المؤدي لمكتب رئيس الوزراء، اصطف ثمانية عشر جنرالاً في شرف استقباله [2 ( أدوا له التحية العسكرية. ووقف ليفي أشكول يصافح الطيار العراقي ويعانقه، وأجلسه الى جواره وهو يقول مبتسماً:

مرحباً بك في وطنك. .أراهن على أنك ستحب إسرائيل أكثر من أي مكان آخر .

تولى عاميت بنفسه تقديم رجالات الجيش الى روفا، بالإضافة الى جون هادن - مدير الـ C.I.A. في تل أبيب - الذي دعي لحضور اللقاء.

وبعد كلمات التعارف والترحيب، غادر الجميع المكتب الى حجرة جانبية ملحقة، تاركين روفا وعاميت وأبو داود مع رئيس الوزراء. وقال أبو داود متوجهاً بعبارته الى الضيف:
وعدتك سيدي النقيب في باريس أن تلتقي بالسيد رئيس الوزراء.. وها أنا ذا أنبر بوعدي لك. .

هتف ليفي أشكول في بشاشة:
إنه ليوم طيب بالنسبة لي. .

وملتفتاً الى عاميت:
إن ما وعدتموه به أمر لا يقبل المناقشة. .

وهو ينظر الى روفا:
أعدك بشرفي . . كن متأكداً. . فنحن نضحي لإرضاء أصدقائنا المحبين لإسرائيل. . كن متأكداً (ونطقها هذه المرة "بالعبرية" : هايه نا بطواح).

قال عاميت:
سيدي الرئيس .. إن النقيب روفا رجل شجاع ومخلص.. لقد وثق بنا وستكون ثقته في محلها.. وسيلقى منا كل رعاية.

رد ليفي أشكول:
نعم. . نعم.. ونحن نقدِّر له شجاعته وإخلاصه أيما تقدير.

انضم الآخرين بعد ذلك للقاء الذي استغرق نصف الساعة، وخرج روفا من مكتب رئيس الوزراء، مطمئن البال على المكافأة التي وُعد بها.

وعلى مدار خمسة أيام في إسرائيل، اجتمع به خلالها مردخاي هود قائد سلاح الجو، حيث صحبه الى القاعدة الجوية التي سيهبط بها، وتناقشا معاً حول المسائل الفنية المتعلقة بالممر الجوي، والارتفاع فوق الأجواء الأردنية، والتردد اللاسلكي، وأسلوب التعامل - كاحتياط - مع الطيران السوري في حالة تدخله، والسرعة اللازمة لتفادي الاحتكاك والمواجهة. كذلك شرح له كيفية مباغتة زملائه الطيارين العراقيين، والهرب منهم باتجاه الأردن.

بعد ذلك طُوِّف به في أنحاء تل أبيب، حيث شاهد المسارح والملاهي والحدائق، وعلى مسافة عشرة كيلو مترات - في مستعمرة بات يام - اختار بنفسه فيلا حديثة الطراز تطل على البحر، لتكون سكناً له ولأسرته في إسرائيل، لكنه عندما زار مدينة ريشون ليتسيون - أول مستعمرة يهودية على أرض فلسطين - غيّر رأيه، فالفيلات البديعة ذات الأسوار والحدائق، كانت مثار دهشته وإعجابه. وعلق على ما رآه قائلاً:

كنت أعتقد بأن إسرائيل أرض صحراوية جدباء . . ولكن .. الآن عرفت أنها "الجنة" الخضراء على الأرض.

كان حتى تلك اللحظة يعرف أن ليزا بريطانية تحبه، ولم يكن في صالح الإسرائيليين أن يظن غير ذلك، فانكشاف هويتها الحقيقية، سيصيبه بانتكاسة لا محالة، نتيجة الخدعة الطويلة التي صدّقها.

لذا فقد أبقى الأمر سراً، وتعامل الجميع مع ابنة الموساد على أنها ضيفة انجليزية، واختاروا لها - حسب رغبته - فيلا أخرى تقع على مقربة من مسكنه، لكي تبقى الى جواره في إسرائيل.

وفي صباح الأول من مايو، غادر "عزرا موران بارزكاي" تل أبيب، بطائرة العال الإسرائيلية الى باريس، ترافقه حبيبة الفؤاد، التي أكدت على أنها ستبقى معه بفرنسا الى أن يسافر الى العراق، ثم تعود الى إسرائيل ثانية لتنتظره بفيلتها.

وقبلما يغادر روفا تل أبيب، سلّم عاميت قائمة بأسماء "21" فرداً، هم أفراد عائلته، وعائلة زوجته، الذين سيتم تهريبهم خارج العراق يوم هربه بالطائرة الميج. وضمت القائمة والداه وأخوته الثمانية، وزوجته وولديه، وحمواه وأولادهما الستة، وسجل رسائل صوتية لهم، وكتب رسائل مذيلة بتوقيعه، يطلب منهم مرافقة حامل شريط الكاسيت أو الخطاب، دون سؤاله عن وجهته، أو معارضته.

كذلك تم ترتيب أسلوب الاتصال به حين طلبه ذلك، بعدما يتم نقله الى قاعدة الرشيد الجوية، وعندما يحدد المواعيد المقترحة بفراره.

أمضى روفا يومان في باريس بصحبة عميلة الموساد، أذاقته خلالهما مالذ وطاب من المتعة، وأكدت له كل لحظة أن حياتها ابتدأت معه، وفي إسرائيل سينعمان معاً بالدفء، والحياة الرائعة الزاخرة بالسعادة.

وفجر الثالث من مايو 1966 طار روفا الى بغداد، يحدوه الأمل في العودة ثانية لأحضان حبيبته، حيث لن يفارقها هذه المرة الى الأبد، أما ليزا برات، فكانت تضحك في نفسها، ذلك لأن مهمتها قد انتهت، ولن ترى روفا بعد ذلك أبداً. . وعادت فوراً الى تل أبيب تنتظر مهمة جديدة .. مثيرة.. !!

----------------------------------------

[1 كان ريتشارد هولمز رئيس المخابرات الأمريكية C.I.A. يرى أنه من الأفضل عدم توريط الولايات المتحدة في عملية اختطاف طائرة ميج 21 سوفييتية، تسيء الى مركز أمريكا المنشغلة بالحرب الباردة مع الروس. كان هذا أيضاً رأي سلفه جون ميكون، الذي عمل جاهداً على تسهيل مهمة الموساد، أثناء تواجد الطيارين العراقيين في تكساس، دون أن يزج بالمخابرات الأمريكية في العملية تحسباً لأي خطأ، يشعل أزمة دبلوماسية تكشف وجه أمريكا القذر.
[2 يبدو أنه تقليد متبع، فقد استقبلت بعد ذلك الجاسوسة المصرية هبة سليم بعشرة جنرالات أمام مكتب جولدا مائير، وكانت طائرتان ميراج حربيتان قد رافقتا طائرتها حتى المطار كما يحدث مع الملوك ورؤساء الدول.

كانت لدى مائير عاميت خطة واحدة، لا بديل لها، لإخراج عائلة روفا من العراق، حال تأكده من إيجاد الفرصة المناسبة. والخطة تعتمد ببساطة شديدة على أذون مزورة بإحكام، بمغادرة "21" فرداً الى إيران للاصطياف. (وليس كما روّج الإسرائيليون بعد ذلك، وسنتناول كل هذه الادعاءات الكاذبة في حينه).

تقدم منير روفا لقيادته بالأوراق الطبية - المزيفة من قبل الموساد - تفيد بأن صداع الرأس HEAD ACHE الدائم هو نتيجة معاناة نفسية منشؤها القلق، مطالباً بضرورة نقله الى بغداد، حيث يعاني والده من عدة أمراض، والأمر يستدعي ضرورة تواجده الى القرب منه.

اقتنع الأطباء العسكريون بما جاء بالتقرير، وجاءت التأشيرة الطبية توصي بنقله، تجنباً لإصابته بالانهيار العصبي BREAK-DOWN. واستغرق بحث التوصية طوال شهري مايو ويونيو، وفي آخر يونيو أخبر بأن هناك كشوف ترقيات ستعلن خلال أيام، ورد اسمه بها، وعندها سيتم نقله على الفور الى بغداد.

وفي 13 يوليو حصل على أجازة لمدة أسبوع، وحاول خلاله إفهام أسرته وأسرة زوجته مريم، بأنه ينتظر النقل الى قاعدة الرشيد الجوية، لظروف الصداع التي كان قد أقنعهم بها، وفي هذه الحالة سيأخذهم جميعاً، على نفقة الدولة، لقضاء عدة أيام على شاطئ بحر قزوين في إيران، وأوصاهم بعدم إعلان ذلك تحت أية ظروف، لأنه أبلغ أسماؤهم فقط لقيادته، ولن يسمح باصطحاب آخرين.

كان منير روفا قد تأهل نفسياً للقيام بمهمته، وينتظر اليوم الذي يجمعه بليزا، بفارغ الصبر، حيث يستطيع، وهو يمتلك مليون دولار، أن ينفق عليها بسخاء، فترى فيه الى جانب فحولته رجلاً آخر سخياً كريماً.

ذات ليلة. . أراد أن يستطلع رأي زوجته، فأظهر تبرمه من الحياة بالعراق، مبدياً رغبته في اصطحابها مع الأولاد للحياة الدائمة في باريس. ضحكت مريم قائلة إنها تتمنى ذلك، وستكون معه في أي مكان.

وعلى حين فجأة صدر في 25 يوليو قرار ترقيته الى قائد سرب، الأمر الذي شجعه على استعجال طلب نقله، وتم ذلك بالفعل في 4 أغسطس. فذهب من فوره الى قاعدة الرشيد الجوية، وتسلم عمله، وبدأ العد التنازلي للعملية 007.

في 6 أغسطس نشر إعلاناً بجريدة الثورة، عن فقد مظروف أبيض متوسط لاحجم، به تقارير طبية هامة، وكان رقم التليفون به خطأ متعمد.

وفي تمام السابعة مساء دق جرس التليفون بشقته:
آلو . .
نعم . .
حرضتك صاحب الإعلان. .؟
نعم. .
أنا المهندس شاكر.. والمظروف عثر عليه ابني بالأمس..
أشكرك جزيل الشكر . . متى أستطيع مقابلتك.. ؟
كيفما ترى..
الساعة العاشرة مساء الغد بشارع الحمادي .. أمام محل أورفو. . أيناسبك الوقت والمكان..؟
لا مانع. .
هل بالإمكان تمديد الموعد ساعة أخرى إن كان هذا يناسبكم؟..
لا بأس يا سيدي . . مع السلامة.

هذه المكالمة (1) البريئة جداً في ظاهرها، حوت رسالة شفرية بالغة الأهمية، كان قد تم الاتفاق عليها مسبقاً في إسرائيل.

المهندس شاكر = "كلمة السر".
الساعة العاشرة = أي رقم (10) مضاعفاً، ويطرح عدد (3) قبل التضعيف.
مساءً = صباحاً.
الغد = هذا الشهر.
شارع الحمادي = قاعدة الرشيد الجوية.
محل أورفو = إخراج العائلة من العراق.
تمديد ساعة = مهلة ساعة.

وببساطة شديدة، فترجمة الحوار الشفري كالتالي:

سأطير ابتداء من يوم 10 الى 20 أغسطس، من قاعدة الرشيد، ما بين السابعة الى الثامنة صباحاً، ومطلوب الإسراع بنقل العائلة خلال هذا التوقيت.

انقلبت الموساد الى خلية نحل، فالرسالة التي بثها عميلهم السري في بغداد كانت مدوية، لذلك طُلب منه إعادة بثها مرة ثانية ففعل، وجاءت كما هي في المرة الأولى بلا أخطاء.

استدعى عاميت على الفور الجنرال مردخاي هود، قائد سلاح الجو، ونقل اليه تفاصيل الخبر العاجل، فكاد هود أن يطير فرحاً، أما ليفي أشكول فقال "لن ينسى لكم التاريخ ذلك".

اجتمع هود بكبار ضباطه ومعاونيه، وتشاوروا حول القاعدة الجوية التي سيهبط بها روفا، من حيث طلعات أسراب طائراتها الروتينية، ووقت طيران روفا، والطيارين الذين يضمهم جدول الطلعات، ومدى تماسكهم أمام ظهور الميج 21 أمامهم، إذ كانوا يرهبونها لكثرة الأساطير التي حيكت عنها، وكان من بين الطيارين المقرر طيرانهم الروتيني خلال ذلك التوقيت، النقيب "موشيه ران" بطل الألعاب الجوية في الاحتفالات القومية، وهو طيار محترف مندفع، مغامر لحد الجنون.

وفي إسرائيل صدرت الأوامر لعملاء الموساد في العراق، بالإسراع في نقل عائلة روفا الى إيران، وأحيط أيضاً عملائهم في إيران بالأمر، وأجريت اتصالات مع رجال السافاك، لتسهيل خروج العائلة جواً الى إسرائيل.

كانت عقارب الزمن تتحرك ببطء، والأعصاب المرهقة المشدودة في غليان فوار، وابتداء من 8 أغسطس وطياري الميراج يقتربون كثيراً من الأجواء الأردنية، ما بين السابعة والثامنة صباحاً، دون أن يعرفوا سبباً لذلك.

ومساء اليوم التالي أقام مردخاي هود إقامة كاملة في قاعدة حاتسريم الجوية، واستيقظ صباح يوم 10 أغسطس مبكراً، واجتمع الطيارين وقال لهم:

هناك طائرة ميج 21 تحمل الشارات العراقية. .ستقترب من أجوائنا عبر الأردن. .إنها طائرة مسالمة لا تصيبوها بأذى. .نحن نريدها سليمة. . ولسوف يتبعكم قائدها بلطف الى هنا. .أكرر. إياكم والحماقة. . لا أريد تهوراً من أحدكم. .ولا تترعجوا من العلم العراقي على دفّتها. . أو الصواريخ أسفل جناحيها.

وما إن أقلع سرب الميراج الى السماء، حتى انطلق صوت هود في اللاسلكي:

أنا قائدكم مردخاي هود. . أعرف أنكم تحفظون صوتي جيداً. .لا أريد منكم تصرفاً صبيانياً. . أريدكم عقلاء كما أتوسم فيكم. .كونوا هادئين بلا انفعال. .

وتكرر هذا النداء صباح اليوم التالي . .والذي يليه .. و .. .

(1) قد يتساءل البعض: لماذا لا يكون هناك لقاء بين عميل الموساد ومنير روفا بدلاً من مكالمة شفرية قد يشوبها خطأ ما. .؟ وللإجابة نقول: إن هذا التصرف من صميم عمل أجهزة الاستخبارات. فالموساد تتوقع كافة الاحتمالات إذ قد يكون في الامر خدعة ما ويعتقل عميلها المدرب لوشاية من روفا (الغير موثوق به حتى تلك اللحظة) أو قد يكون تليفونه مراقباً فيعتقل الاثنين معاً، أو قد يكون عميلهم مكشوفاً للمخابرات العراقية، وترك حراً تحت المراقبة لاصطياد شركائه.

الحصار في طهران . . ! !

كانت السيارة الجيب العسكرية تذهب غالباً في الصباح الباكر الى بيت روفا، وتعيده مرة أخرى عند العصر. وفي 11 أغسطس أخبر أهله وأهل زوجته، بالاستعداد للسفر الى إيران فجر 13 أغسطس (1)، حيث سيتحركون بالباص مع أحد زملائه، بينما يطير هو الى طهران برفقة قائد عراقي كبير، ليمكث معهم عدة أيام على الشاطئ.

وفي 12 أغسطس ودع روفا أهله، بدعوى أنه في مهمة سرية مع القائد العام، ولن يراهم إلا في إيران بعد أيام، وأوصاهم جميعاً بمرافقة زميله، وتنفيذ ما يطلبه منهم لأجل سلامتهم وأمنهم. وحمل حقيبته الصغيرة متجهاً الى قاعدة الرشيد، بنية الابتعاد عن أفراد أسرته حتى يطمئن على سفرهم أولاً، ومن ثم يطير من بعدهم الى إسرائيل.

لقد زُوِّد كقائد سرب بوقود يكفيه لمسافة ألف كيلو متر، وتبلغ المسافة بين قاعدتي الرشيد في العراق وحاتسريم في إسرائيل نحو تسعمائة كيلو متر، معنى ذلك أن الطائرات السورية لو تصادف وطاردته، فوقوده سوف ينفذ في الجو لا محالة.

لذلك . .كان المطلوب لإنجاح خطة هروبه الارتفاع الشديد أثناء الطيران لتقليل استهلاك الوقود، والإفلات السهل من السوريين وصواريخهم الأرضية. أما الأردنيون فقد كانت دفاعاتهم متواضعة، إضافة الى خلو سلاحهم الجوي من الميج 21.

وصباح الثالث عشر من أغسطس، توقف الباص أمام بيت روفا، وركبت مريم وولديها، واتجه بهم الباص الى المستنصرية حيث والديه وأخوته، فركبوا جميعاً، وعند أهلها في الأعظمية اكتشفت وقوع حادث لوالدها، إذ انزلقت قدمه على الدرج فالتوت وتورمت، ووافق أربعة فقط من أخوتها - شاب وصبي وفتاتين - على السفر معها.

سويعات قليلة وعبر الباص البوابة العراقية بالأذون المزيفة، بداخله سبعة عشر فرداً من أهل روفا، إضافة الى قائد الرحلة، الذي كان في حقيقة الأمر أحد عملاء الموساد في العراق.

عاد روفا الى شقته وعرف بما حدث لوالد زوجته، فغضب كثيراً، وفي السابعة مساء دق جرس التليفون:

آلو . .
نعم . .
أنا المهندس شاكر. .
اتصلت بك سبعة عشر مرة لأطمئن عليك . . (إشارة الى عدد أفراد أسرته). .
أنا بخير . .وما أحوال أسرتك. .؟ (يقصد أسرته هو)..
إنهم بأحسن حال . .ويتشوقون اليك. .
متى ستأخذهم الى بيت العائلة . . ؟ (يقصد إسرائيل)..
ليس قبلما تسبقهم أنت أولاً. . (أي أنهم سيطيرون بعد وصولك لإسرائيل بالميج 21).
سأقضي معكم إذن ستة عشر يوماً لا أكثر . .!! (أي أنه سيهرب بالطائرة يوم "16" و "لا أكثر" نافية للتضعيف.)..
إننا جميعاً ننتظرك . . (ننتظرك في إسرائيل). .
لن أتأخر عن ميعادي. . !! (أي أن يوم 16 هو لحظة الصفر). .
هل أجازتكم حقاً "16 يوماً". . ؟
نعم . . 16 يوماً . . (لتأكيد الميعاد).
سنجهز لك وليمة رائعة . . (سيكون هناك استقبال حافل).
أنت تعرف الأصناف التي أحبها. . (يقصد أنه لا يريد سوى ليزا. . ولأنه عميل مقيم بالعراق لم يفهم ما يقصده. . لذلك أجاب):
ستسر جداً يا صديقي بيننا . .الى اللقاء. .
الى اللقاء ..

نزلت مريم وبقية أفراد الأسرة، حسبما أراد مرافقهم، بأحد فنادق طهران، وكانت قد تعجبت من أمر ذلك التغير الذي طرأ على الرحلة، فقد كان المخطط البقاء على بحر قزوين لا في العاصمة. وأمام تساؤلاتهم الملحة، لم يكن المرافق يجيب سوى برسالة روفا الى زوجته، التي يطلب فيها أن تطيع الرجل ولا تكثر من الأسئلة.

أمر هذه الرسالة ذات الأوامر كان يشعرها بإحساس غامض، يقترب بها من حافة الشكوك والريب. وضاعف من قلقها تلك الوجوه التي تحيط بهم داخل الفندق، وأثناء تجوالهم في الحدائق والأسواق.

بقية أفراد الأسرة - أخوة منير وأخواتها - لاحظوا مثلها تلك التصرفات أيضاً، وتحدثوا فيما بينهم، حتى إذا ما أنهكهم تفسير ما يروه، انكبوا على مريم يسألونها، ويستفسرون عن سبب بقائهم في طهران، فكانت تقول اسألوا منير عندما يجيء.

وفي 15 أغسطس كان منير قد استُهلك عصبياً، وأخذ يأتي بتصرفات لا إرادية غريبة، فتارة يضحك عالياً ويقهقه، وتارة أخرى يتجهم لوقت طويل ملتزماً الصمت. وشوهد طوالاً يحادث نفسه، مصدراً أصواتاً هوائية مبهمة، مفضلاً الانعزال بعيداً عن زملائه. وعند المساء أغلق عليه باب حجرته مبكراً، وقضى ردحاً من الزمن في سهوم وتفكير.

بعد ذلك قام الى دولابه وأخرج أوراقاً وقلماً، واشنغل بكتابة رسائل لأصدقائه، لكنه تخوف من أن يؤدي ذلك الى حرمانهم من الطيران، فمزق أوراقه وحرقها، وانفرد بنفسه في الشرفة لقرب منتصف الليل، ثم أوى الى فراشه موهماً نفسه بسعادة كاذبة، لقرب لقاءه بالحبيبة ليزا، لكن تفكيره في المليون دولار كان يشغله في الحقيقة أكثر وأكثر. .

ونام روفا نوماً متقطعاً، مضطرباً، تخللته أحلام منغصة عن انكشاف أمره واعتقاله، وضياع حلم الإثراء الفاحش، والعشيقة المتيمة.

ومع انبعاث صوت آذان الفجر من مسجد القاعدة الجوية القريب، هب من فراشه كالملسوع، وارتدى على عجل ملابسه الرياضية، وأسرع بالخروج. . !!

نهاية المدفون حياً . . !!

عندما تأكد لرجال الموساد في إيران وصول روفا الى إسرائيل، أعلنوا الخبر لزوجته ووالديه، وأخبرهم بأن طائرة إسرائيلية في الطريق الى طهران جاءت لتقلهم الى تل أبيب.

صرخت مريم غير مصدقة، وصرخ أخوة روفا وأخوتها، بينما وجم أبواه في البداية ثم انهارا في بكاء أليم.

وفي حين أصرّت مريم أن تحادث روفا تليفونياً، تمسك أخوتها الأربعة بالعودة الى العراق، بالرغم من محاولات تخويفهم من قسوة ما سيلقونه من تعذيب في بغداد، على إيدي المخابرات العراقية.

وأمام إصرار مريم لم يكن هناك من بد من إتمام ذلك، ومن مقر الموساد في بئر سبع حدث الاتصال بإيران:

روفا:
آلو

مريم:
منير . . ماذا حدث. . ؟ "كانت تبكي في صراخ".

روفا "وقد تهدج صوته":
أنا في إسرائيل يا مريم . . تعالِ. .تعالوا كلكم لأن العراقيين سيفتكون بكم. .ويمثلوا بأولادنا يا مريم .. و ..

مريم "كان صراخ ولديها وَمَنْ حولها مسموعاً":
ماذا فعلت في العراق. . ؟ روفا "وقد أوشك على الانهيار":
لا تضيعون الوقت. . لقد هربت بالطائرة ولن تستطيعوا العودة. .

مريم "صرخت في هلع":
هربت بالطائرة. . ؟ أيها المخبول ضيّعتنا . .ضيّعتنا. .

"صراخ هستيري من الجميع".

انتهت المكالمة بانهيار الطيار الهارب، وأوشك عاميت أن يأمر باستدعاء ليزا على وجه السرعة، بيد أنه تريث في اللحظة الأخيرة حتى لا يبدو كاذباً، إذ أخبر روفا بأنها في زيارة لأختها المريضة في أستراليا. وجاهد أبو داود باستماتة لكي يعيد روفا الى هدوئه، منفرداً به وحده في ركن قصي.

وبحديثه التمثيلي المؤثر استطاع السيطرة على الشاب المذعور، بل وأقنعه بمواجهة كاميرات الصحفيين وأسئلتهم، لكي يبدو ثابتاً وبأعصاب سليمة، أمام العراقيين.

عمت البهجة جهاز المخابرات المركزية C..I.A.، وأقلعت من نيويورك طائرة تقل 50 خبيراً في هندسة الطيران، لفحص الطائرة الميج 21 في إسرائيل. تزامن ذلك مع وصول الملحقين العسكريين الى قاعدة حاتسريم، ووقف الملحق العسكري الفرنسي - الكولونيل كاترو - في حالة هي أشبه بالذهول الكامل، وكل ما تفوه به هو أنه قال:

مدهش . .إنها ممشوقة القوام Elle a la taille svelte .

وهتف الملحق العسكري الأمريكي وهو يتحسس الطائرة:
أنا أول أمريكي يلمس هذه الجوهرة. (1)

أما الميجر تومبسون الملحق العسكري الإنكليزي، فقد وقف يتأملها مصعوقاً. .وأخذ يتمتم بكلمات غير مفهومة.

وفي القاعة المعدة للمؤتمر الصحفي، كان التزاحم شديداً لصحفيين ومراسلين من كل أنحاء الدنيا، الى جانب طاقم التليفزيون الإسرائيلي من فنيين ومذيعين، وجنرالات الجيش ببزّاتهم ذات الشارات اللامعة، وقد رسموا ابتسامات الزهو فغلفت وجوههم، مستسلمين للأسئلة التي انهالت عليهم كالمطر:

كيف حصلتم على الطائرة. . ؟ هل جاءت مصادفة أم بعملية مخابراتية. .؟ هل جاءت بأسلحتها أم كانت خيالية من السلاح. . ؟ هل اختطفتها طائراتكم وأجبرتها على الهبوط بإسرائيل. . ؟ ما عمر الطيار تقريباً. .؟ و . . . . .. . و . . . . . .

بطبيعة الحال، لم يكن مصراحاً لهم بالإجابة عن أية أسئلة، ففي الكواليس الإسرائيلية تطبخ المسائل بما يخدم أغراضها. لذلك بقيت عقول المتواجدين بالقاعة تلهث بحثاً عن إجابات، الى أن دخل منير روفا محاطاً بعشرات الضباط العسكريين، فومضت مئات الفلاشات المتحفزة، وسلطت الكشافات المبهرة بقوة، وارتبك الطيار العراقي الذي تم تلقينه الإجابات بالداخل، وانصبت عليه فيضانات الأسئلة، فازداد ارتباكه وارتجف فكه السفلي هذه المرة بوضوح شديد، أما أطرافه فلم يعد بإمكانه الإحساس بها، ولمحه عاميت المستتر بعيداً لا أحد يراه، فأمر بسحبه الى الداخل في الحال.

ولما فشل في إعادته مرة ثانية الى القاعة، بسبب التدهور الحاد الذي أصاب تماسكه، وبكاءه المتصل وهياج ردود أفعاله، كان هناك حل آخر بُدء في تنفيذه على الفور.

دخل القاعة الناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي - سهيل بن زفي - وكان يمسك بورقة بيضاء، ادعى بأنها رسالة بعث بها منير روفا الى إسرائيل، عندما كان بباريس في أبريل الماضي، يبلغهم فيها برغبته في اللجوء الى إسرائيل، هرباً من الاضطهاد الذي يعامل به المسيحيون في العراق، وبسبب التمييز المذهب ضد أكراد الشمال، وأخذ يقرأ بضع فقرات من الرسالة.

هكذا فكر ونفذ عاميت، لتشويه وجه الحكم في الدول العربية، وإظهار الأقليات بها بصورة مغايرة للحقيقة، وللتدليل أمام وسائل الإعلام العالمية، أظهر بأن الطيار الهارب من جحيم العراق، ما فر بطائرته إلى إسرائيل إلا لثقته في ديمقراطيتها، واحترامها للأديان.

وبواسطة طائرة هليوكوبتر، أُخذ منير روفا الى الفيلا التي اختارها لنفسه في ريشون لتسيون (1)، ووصلت من طهران الطائرة التي أقلت أهله، بينما تسلمت السفارة العراقية أخوة مريم الأربعة، وأعادتهم على كفالتها الى بغداد.

كان العراقيون يعرفون أن لا ذنب لكل من يمت للطيار الخائن بصلة قرابة أو صداقة. وأدركوا بعد فوات الأوان أن روفا تم تجنيده أثناء رحلة باريس، وأن يوسف منشو، الذي هرب بجلده الى إسرائيل، كان اليهودي القذر الذي ساعد في خيانته. .

وفي إسرائيل كانت المواجهة عصيبة بين روفا وزوجته وبقية أسرته، فالمأزق الذي وضعوا فيه كان أكبر من مدى استيعابهم، وأحس غالبيتهم بمدى غبائهم، حينما وافقوا على السفر إليه في إسرائيل. وكانت أمه أشد الرافضات لغدره ومن بعدها أختيه، أما أبوه فكان على قناعة بأنها "ضربة حظ" سترفع كثيراً من شأنهم. فالمليون دولار، مبلغ خيالي أدار عقله، وسلبه نعمة التفريق بين الحلال والضلال، وبين الإثراء والخيانة، وكان كثير الثناء على ابنه الخائن وتصرفه "السليم" في مواجهة الفقر، وتأمين مستقبل مضمون للجميع.

مريم هي التي بوغتت، فمع مكالمة منير الهاتفية فقدت الوعي ونقلت الى عيادة مجاورة للفندق، وبقيت على حالها لساعات وما أفاقت إلا وهي بالطائرة الإسرائيلية، تطير غصباً عنها لإسرائيل. ومن حولها كان ولديها وشقيقات زوجها وأمهم ينتحبون، ويجهشون بالبكاء طوال رحلة الطيران.

ولخوفهم مما كان سيجري لهم ببغداد - حسبما أُبلغوا - وأمام الأمر الواقع، خضعن، وبحلقومهن غصّة مشبعة بالوجيعة، وبقلوبهن وخز كالإبر.

تسلم روفا شيكاً على بنك هاتسوفيه الإسرائيلي بمليون دولار، وبعدما طال بحثه عن المعشوقة ليزا دون جدوى، اكتشف أن المسألة منذ بدايتها كانت خدعة كبرى، رتبت بإحكام لاختطاف الطائرة، وما كانت ليزا سوى اسم وهمي لإحدى عميلات الموساد، قامت على تصيده والسيطرة عليه بدعوى الحب. . هذه الخدعة الخبيثة جعلته يحتقر ذاته، وما كان له إلا أن ينسى ليزا فلا طريق أمامه دون ذلك.

ولأنه وقع في المصيدة، مضطر للاندماج شيئاً فشيئاً داخل نسيج المجتمع اليهودي، ورفضاً استلام جواز سفر إسرائيلي باسم جديد، كذلك فعلت بقية أسرته، حيث كان الخوف - وما يزال - يسيطر على عقله، وقال لهم في يأس:

"لست بحاجة الى جواز سفر . . لأنني دفنت نفسي ها هنا حياً. . الى الأبد" . .

هكذا عاش الخائن مرعوباً بين أعداء وطنه وأمته، لا يحس بالأمن ليلاً أو نهاراً، ويرى الاحتقار بادٍ على وجوه من يعرفونه أو يحيطون به، ولا يلقى منهم أي احترام أو تقدير. فقد كانوا يعرفون أنه جبان، خائن، باع وطنه بثمن بخس، وأن من باع وطنه فلا أمان له ولا عهد.

كيف إذن يعيش الخونة العرب في إسرائيل . . ؟ وكيف يعاملون . .؟ وهل يثقوا بهم هناك. .؟

(1) بعد أيام قليلة من الاستيلاء على الميج 21، أهدتها إسرائيل الى الولايات المتحدة لتفحصها وكشف أسرارها. وفي الحقيقة كانت الطائرة من طراز معدل أدخلت عليه بعض الإضافات، واستطاع الأمريكان فهمها وتبين نقاط قوتها، وتحسين أداء طائراتهم الفانتوم وسكاي هوك، واستفادوا من العقلية السوفييتية في تطوير صناعة طائراتهم الى حد كبير. .وعندما قامت حرب 1967 كانت الطائرات الأمريكية التي لدى إسرائيل، مزودة بإمكانات هائلة حديثة مكنتها من التفوق الجوي، والاشتباك الجوي مع الطيران العربي دون خوف من مواجهته.