ما تعلمناه ان الدين الإسلامي الحنيف منهج فيه لكل داء دواء ولكل علة شفاء، وقد جاء ذلك كما قال المصطفى المختار صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم" تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا ، كتاب الله وسنتي" وهنا نفهم ان الإسلام جاء ليضع منهج حياة متكامل بدستور لا يأتيه الباطل أبدا وهو القرآن الكريم}إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {الحجر9،وما جاء في السنة النبوية المشرفة فيه إجابات واضحة لما تختلف فيه الأمة / وعلى هذا فان الحياة تسير بأمن وأمان وفق هذا المنهج القويم، وما اختلفت عليه الأمة بعلمائها يمكن ان يحل "بالقياس" ونتيجة تراكم اهتمامات الأمة وتطور العصر، فقد انتهج العلماء مالم يتم ذكره بالنص في القرآن والسنة، ومالم يشابهه حكم أو حادثة معينة يتم فيه الحسم "بالاجتهاد" القائم على روح الإسلام لايحلل حراما ولا يحرم حلالا، بقي هذا المنهج يحكم حياة الأولين والإيمان والرضا حيث كان بين ظهرانيهم خير الخلق واشرف البرية محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ثم جاء بعده الصحابة الصديق والفاروق وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم,, وجاء من بعدهم الخلفاء الراشدون وقد دبت الخلافات على السلطة وهذا ليس مجال طرحنا.
ففي عصرنا الحديث عرفنا في الإفتاء الديني وتخريج علماء الشريعة الإسلامية منارة الأزهر الشريف حيث يقصده كل طلاب علوم الشريعة الإسلامية والعلوم وكافة أنواع العلوم الدنيوية وفق الشريعة الإسلامية ، يفدون إليه من كافة أرجاء المعمورة بلغاتهم وجنسياتهم المختلفة ، توحدهم أصول الشريعة الإسلامية والتوحيد، فكان للأزهر كلمة الفصل في حال اختلف علماء الأمة في شيء يردوه إلى الأزهر الشريف ليرد قضايا الخلاف إلى مجموعة من مجمع العلماء المتفرغين بالمطلق إلى رعاية أحوال الأمة برد الشيء إلى كتاب الله وسنة رسوله، وحتى حسم الخلاف الحميد نتيجة تعدد المذاهب الأربعة ويخرجون للأمة بما يحفظ وحدتها وصيرورتها واستقرار أمور دينها الذي يفترض بناء عليه استقرار أمور دنياها.
ولكن نتيجة الاختلاف والخلاف بين الأنظمة السياسية في عالمنا الإسلامي عامة، وفي منطقتنا العربية خاصة فقد أخذت تلك الخلافات تتسلل شيء فشيء في الفروع والفتاوى الدينية لتواكب للأسف الخلافات السياسية، وتعددت جهات ومسميات الفتاوى فرقة من بعد وحدة، فتم استحداث الكثير من المسميات التي تعنى بأمور ديننا الذي لم يترك القرآن والسنة والقياس من شيء إلا وتناولته وفق روح وأصول تلك الشريعة السمحة، لكن الحداثة وتراكماتها جعلت من بعض الأمور تتداخل و تلتبس بحيث أوجدت مساحة للاختلاف الغير حميد بحيث يفتى دينيا في الأمور الدنيوية الخلافية بالشيء ونقيضه في نفس الوقت، وقد تبين مؤخرا ان الفتاوى ازدادت نتيجة ازدياد مستحدثات تطور الحياة، حتى وصلت الأمور إلى تناول قضايا تشغل الأمة اقل مايقال فيها مدعاة للأسف واختلف عليها علماء الأمة بتعدد مشاربهم وتعدد مسميات روابطهم ومؤسساتهم، مثل حوار الحضارات مع الأعداء، والزواج العرفي والمسيار، وإرضاع الكبير في العمل، والنقاب في المؤسسات، بل ووصل الأمر إلى أدنى درجات الاهتمام التي لايجب ان تشغل الأمة بصغائرها عن كبائرها، مثل جواز التمتع بالزوجة أو ما تناوله قطب من أقطاب العلماء وقضية يقول العالم ان لاحياء في الدين، رغم تصببه عرقا عند الإجابة بالفتوى على سؤال السائل وقد تحدث بها على الهواء مباشرة في فضائية الجزيرة، لدرجة ان اقفل كثير من المشاهدين قي بيوتهم التلفاز" جواز ... فرج المرأة و الرجل" حسب النص الحرفي لحديثه، كلها فتاوى قد يكون اضطر إليها المفتي لرابطة معينة مع اعتراض رابطة أو علماء آخرين ، وكذلك ما تردد حول الحالات التي يجوز فيها استعادة غشاء البكارة للمغتصبة أو التائبة، لكنها ان دلت إنما تدل على حال الأمة وما وصلت إليه من اهتمامات باتت تشغل أولوياتهم، حتى بلغ حد الاختلاف على تفسير الجهاد والشهادة مابين "طلب ودفع" وما بين"شهادة وتهلكة" مابين مفسر للحالة حسب رؤيا سياسية ولنفس الحالة حسب رؤيا سياسية معاكسة، وكذلك سمعنا فتاوى تحرم الاعتدال مع العدو وهذا مقبول في حال لو أطلقت فتاوى تحرم ممانعة تحريك الجيوش والاشتراك المباشر في حرب الإبادة على غزة ، وتحريم القواعد العسكرية للأعداء في بلاد الممانعة والإسلام.
والحقيقة ان الخلافات والتي ابتعدت والحمد لله عن الأصول وتمحورت في الفروع بين مؤيد ومعارض، لكن الخلافات أو الاختلافات في بعض أمور الدين والدنيا، أصبحت تؤرق كل مسلم حائر في أمر امة المليار ونصف المليار مسلم، حتى طغت أو لنقل أثرت الدولة والنظام على كثير من القضايا حتى منها الدينية مثل الاختلاف على رؤية الهلال وعدم اعتماد رؤيته من علماء بلد عربي إسلامي معين فقدموا أو تأخر صيامهم وتبع هذا وتبع ذاك جزء من الأمة الإسلامية حتى بدا الأمر سياسي أكثر من كونه ديني، حتى وصل الأمر بتطور الخلاف والاختلاف إلى مالا يمكن تصوره وله دلالات غير حميدة على مستقبل وحدة الرؤيا الإسلامية، حيث جد هذا العام ان اختلفت الأمة حسب قرار أنظمتها وتأييد علمائها في يوم عيد الأضحى المبارك وقد عيد فريق الجمعة وآخر السبت وثالث الأحد.. حدث لاحرج.. والحقيقة ان مثل هذا اليوم الذي تتوحد فيه الطقوس الدينية حسب القرآن والسنة المحمدية اختلفوا فيه وما صرخ علماء الأمة بعدم جواز الخلاف على الثوابت الدينية، بل صوت حال صمتهم سياسيًا تابع لاستقلالية القرار السياسي للأنظمة الحاكمة.
وما دفعني لكتابة هذا المقال رغم حذري في تناول القضايا الخلافية الدينية، إلا ان الأمور لم تتوقف عند بعض الخلافات الاجتماعية والفروع الدينية، بل تغلغلت إلى تفعيل الفتاوى وتناقضها مابين أقطاب الإفتاء في الأمور السياسية حتى بات الخلاف إلى فتوى التحريم من رابطة علماء مسلمين وتحليل في نفس القضية من مجمع علماء مسلمين آخر، وهنا اقصد قضية الجدار الذي تقوم جمهورية مصر بإقامته على حدودها مع قطاع غزة، وما اختلفت عليه الأمة من منطلقات وطنية وسياسية، حتى تطلب الأمر لدى البعض إفتاء إسلامي رسمي، وهنا صرح الشيخ/ القرضاوي رئيس رابطة علماء المسلمين، الذي يقيم في الدوحة بسياستها وإعلامها الذي تعتبره مصر يستهدفها ويتطاول على قيادتها ويتدخل في شأنها، وقد اصدر فتواه بتحريم بناء الجدار على اعتبار انه جدار ضرار ان جاز التعبير، فيستنفر بالتالي الأزهر الشريف ويرد فتوى التحريم بفتوى الجواز والتحليل ، على اعتبارات ومنطلقات سياسية بجواز وتشريع وتحليل بناء الجدار، ويعتبره واجب لمنع الفتنة ومنع نزوح الفلسطينيون إلى سيناء تاركين أرضهم ، هذا حسب نص فتواهم المتناقضة، لدرجة ان بعض العلماء قلل من أهمية جدار الانقسام الفلسطيني ويعظهم حرم الانقسام.
فقد نتفهم الخلافات السياسية ومنطلقاتها بين دولة صغيرة مثل قطر تبحث لها عن دور سياسي في المنطقة بموازاة حجمها الاقتصادي، وبموازاة علاقتها المميزة بالكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية، وقد نتفهم الدور والمكانة التاريخية لمصر العربية في قيادة الأمة العربية بحجمها العسكري والسكاني ونفوذها في المنطقة العربية خاصة وفي القرن الإفريقي عامة،باتفاقياتها السياسية كذلك مع الكيان الإسرائيلي بعد حروب طاحنة، وأنها لن تسمح لأي لاعب سياسي لايدخل من خلال بوابتها السياسية لقضايا دوائر نفوذها وأحلافها العربية، لكننا لا نستطيع تفهم تسييس التشريعات الدينية هنا وهناك وفق ما يخدم النظام، فيبدوا العلماء عندها كعلماء سلطان، وفي المحصلة في أمور الاجتهاد لايفيد المسلمين ولا سمعة الإسلام تحليل حرام وتحريم حلال، فالخطوط الحمراء التي لا يفترض المساس بها، هو تحريم الشيء وتحليله في نفس الوقت انطلاقا من توجهات سياسية استجابة لهذا النظام أو هذا الحلف وذاك، لما لذلك من تداعيات خطيرة قد يتجرأ غدًا البعض بعد الخلاف بالاجتهاد الفرعي ، كي تصل الأمور إلى المساس بأطراف الأصول، وهذا من شأنه ان يهز ثقة الأمة بعلمائها بتبعيتهم السياسية، فيزداد بالتالي إرباك الرعية وانحراف النشء والانصراف في معمعان خلاف العلماء إلى فلتان إفرازات الحداثة والحريات المنفلتة بغزو الثقافات، والتي بدت تطل بإرهاصاتها إلى عوالمنا العربية والإسلامية، مثل المثلية وحرية اقتران الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة وزواج المتعة والعرفي، وهجوم التنصير والتهويد والتشيع، وآخر هرطقات الشذوذ عن المنهج وليس آخره ما صدر عن منحرفة وشاذة الفكر المدعوة"نادين" بما يسمى "تعدد الأزواج " في عالم الحريات المطلقة الهابطة طلبا للمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة,, بمقالتها"أنا وأزواجي الأربعة" !!! وانشغال العلماء في تفصيل الفتاوى الدينية على مقاس مصالح الأنظمة السياسية،فقد تصل الخلافات على مستوى العلماء إلى درجة هرطقة الكهنة في عصور الظلام إذا ما انساقوا بالفتاوى الدينية لخدمة مصالح الأنظمة السياسية، ورضا السلطان بعيد عن رضا الله ملك الملوك بسلطان منهجه القويم، الذي قد تتسبب تلك الخلافات بحرف ذلك المنهج في التطبيق البشري، وحتى على مستوى الجمهور، كان الأمر مختلف قبل ثلاثون عاما عما هو عليه الآن، فكانت هيبة المعلم والعالم تجعل الإنسان يقف أمامهم بمطلق الاحترام ونرى اليوم المعلم يتقي شر الطالب المتمرد، والعلماء تتداعى عليهم فرق الجمهور التابعين لعلماء فتوى آخرون بتبعات سياسية بالتطاول والنقد الخارج عن حدود الأدب.
فهل تعاد الأمور إلى نصابها القويمة ويتحد القادة والعلماء على كلمة سواء، بما يسهم في انتشار الدعوة الإسلامية وعدم زعزعة ثقة الجمهور بعلمائهم أولا ، وهل يتم تحييد الخلافات السياسية الخبيثة عن الاختلافات والاجتهادات الدينية الحميدة، أم ان حال الأمة سيبقى على حاله من التدهور والانهيار إلى درجة يصعب معها تدارك الأخطار السياسية والدينية على حد سواء.؟