آخر الأخبار

وكالة المخابرات المركزية الأميركية.. الشبح الذي تهاوى

تأسست وكالة المخابرات المركزية الأميركية المعروفة اختصارا باسم «سي آي إيه» إبان الحرب العالمية الثانية وبالذات عام 1947، ردا على ما كان يعرف آنذاك بالتهديد الشيوعي، بأمر من الرئيس الأميركي هاري ترومان، لتحل محل مكتب التنسيق السياسي، أو مكتب الخدمات الاستراتيجية الذي أسسه الرئيس فرانكلين روزفلت تحت ضغط الاستخبارات العسكرية ومكتب المباحث الفيدرالي. ومنذ البداية حملت الوكالة إشارات ميثيولوجية، حيث يعتقد البعض أنها تعتمد على جمع المعلومات السرية عن طريق جواسيسها، والبعض الآخر يعتقد أنها تعتمد على نقل المعركة داخل صفوف العدو عن طريق عمليات سرية. والوكالة هي مؤسسة حكومية لجمع المعلومات عن الحكومات والأحداث الخارجية والأشخاص، ثم تحليلها ومعالجتها وتقديمها إلى جهات مختلفة في الحكومة الأميركية. ومهمة المخابرات الأميركية تتلخص في الحصول على المعلومات الخارجية بصفة خاصة وتجميعها وتقسيمها، وكذلك تدبير العمليات السرية التي ترى أنها تحقق أهدافها السياسية، سواء كانت عسكرية أو مؤامرات سياسية.

يعتبر ألن دالاس أحد أهم مؤسسي الجاسوسية الأميركية، حيث أوكل إليه إنشاء جهاز المخابرات المركزية، إلا أن الرئيس ترومان أبعده بسبب بعض الأخطاء، وأحل محله الجنرال فالتر سميث. ومع مجيء أيزنهاور رئيسا للولايات المتحدة الأميركية عاد ألن دالاس رئيسا للوكالة، ودعمه في موقعه وجود أخيه جون فوستر دالاس وزيرا للخارجية، وبعد ذلك توالى رؤساء الوكالة واحدا بعد الآخر. ومع أن الوكالة عرضة لمحاسبة الدولة، أي الحكومة الأميركية، فإنها كانت تمتلك شرعية إضافية. وقد أدارت عملياتها عن طريق غسل أموال خطة مارشال التي قدمت البلايين للعالم الحر لإصلاح ما خرب في الحرب العالمية الثانية، وخلق اقتصاد أميركي فعال وإيجاد معوقات سياسية ضد السوفيات. عمل ألن دالاس مستشارا للخطة، وكان طرفا في صفقة سرية وضعت، جنبا إلى جنب، أموالا نقدية لا تحصى من أجل شن حرب سياسية. أدى ذلك إلى تغطية عمليات أصبحت القوة المحركة للوكالة.

وتنسب إلى وكالة المخابرات المركزية الأميركية سلسلة طويلة من العمليات السياسية العسكرية في كثير من دول العالم، خاصة في أميركا الوسطى والجنوبية وغرب أفريقيا والشرق الأوسط والأدنى، حيث نفذت عددا من الانقلابات العسكرية والتصفيات الفردية والجماعية. وتلعب الوكالة دورا كبيرا في التنظيمات النقابية والثقافية عن طريق التدخل في نشاطاتها. فقد تدخلت في شؤون حركة الطلاب في الولايات المتحدة وحركة الجامعة في ولاية ميشيغان، وفي البرامج الجامعية للجامعات الأميركية وفي النقابات، إضافة إلى تمويلها عددا من دور النشر لنشر الأدبيات المؤيدة لسياسات الولايات المتحدة، وذلك باستخدام شخصيات ذات اطلاع وكفاءة عالية لتسويق أفكارها ومعتقداتها التي تخدم السياسة الأميركية.

يلاحظ تيم واينر، مؤلف هذا الكتاب «تركة من رماد»، أن أحد الأسلحة التي استخدمتها وكالة المخابرات المركزية بمهارة كبيرة هو المال المجمد. اليابانيون وصفوا النظام السياسي الذي أنشئ بمساعدة الوكالة بالـ«الفساد الهيكلي»، وفي عام 1948 تم ما يكفي من غسل أموال الوكالة في إيطاليا لضمان عدم فوز اليساريين في الانتخابات. وفي هذا الصدد يعلق واينر فيقول «هكذا تُنشر الديمقراطية؛ بواسطة الخداع والتضليل». ومع سوء تقدير الوكالة لكل أزمة عالمية تقريبا، فإنها اكتسبت شهرة لامعة، وذلك بفضل جهود دالاس في العلاقات العامة ومهمات «محاربيها» الغامضة. لكن واينر يرى أن الوكالة برزت كمنجز مبهرج: قسم منه ناد للصفوة، مؤسس على الغطرسة والقصور الجغرافي، والقسم الآخر مبني على نشاطات شبه إجرامية تجري خارج نطاق قوانين الولايات المتحدة.

ثم يكشف واينر سلسلة من عمليات الرشوة والقسر والقوة المفرطة. ففي إيران، مثلا، استأجرت الوكالة الموالين من الجنود ومجرمي الشوارع لإحداث اضطرابات مزيفة من أجل فبركة انقلاب عام 1953، الذي لم تزل آثاره بادية إلى اليوم. وساعدت الوكالة في تأسيس أقسام للشرطة السرية في كمبوديا، وكولومبيا، والإكوادور، والسلفادور، وغواتيمالا، وإيران، والعراق، ولاروس، وبيرو، وجزر الفيلبين، وكوريا الجنوبية وتايلاند. وأسست «مدرسة القنبلة» في لوس فرسنوس في تكساس التي خرجت قادة زمر الموت في هندوراس والسلفادور. وعند عودتهم إلى الولايات المتحدة، إلى مقراتهم الرئيسية، فإنهم غالبا ما يكونون خارج السيطرة، لا يثق بهم البيت الأبيض، ويرفضون التغيير.

إن إدارة الرئيس نيكسون، ربما هي الإدارة الأولى التي تعاملت مع الوكالة باعتبارها شكلا آخر من أشكال السياسة. أما أثناء ولاية الرئيس ريغان فقد أصبحت الاستخبارات مسألة عمل تجاري، إذ تجاوز رئيس الوكالة وليم كيزي الكونغرس وأخذ «يحوم حول القانون متحايلا، لكي يجد تمويلات خاصة لخططه الكبيرة التي تهدف إلى تدفق السلاح إلى أمراء الحرب». ومن وجهة نظر كيزي فإن التجسس لم يكن أكثر من نوع آخر من أنواع الصفقات، لذا فإن فضيحة إيران - كونترا، أو إيران - غيت، التي حققت الفوائد من مبيعات السلاح غير الشرعية، كانت تصب في مصلحة عمليات سرية في أميركا الوسطى. يقول بوب كيتز، خليفة كيزي «إن الخدمات السرية هي قلب عمل الوكالة وروحها. إنها أيضا، الجزء الذي يمكن أن يلقي بك في السجن».

كتاب واينر يسرد جملة أخطاء الوكالة، منذ أيامها الأولى، حينما تم زرع مئات العملاء خلف ما كان يسمى بالستار الحديدي، إما لكي يقتلوا أو يتضاعفوا، وحتى اليوم. خلال هذه السنين أنفقت الوكالة الكثير من الأموال، وأصابها الغرور والتبجح، وورد على لسان آل أولمر، رئيس قسم الشرق الأقصى للوكالة في الخمسينات، قوله «ذهبنا إلى أنحاء العالم كافة وفعلنا ما كنا نريده، آه.. كم تمتعنا». لكن هذا النجاح تحول ليشكل مجموعة من الأخطاء والإخفاقات. فعام 1963، كما يؤكد واينر «دعمت الوكالة انقلابا لتنصيب حزب البعث في العراق»، ويؤكد على ذلك أيضا علي صالح السعدي، وزير داخلية الانقلاب حينما، الذي قال «لقد جئنا إلى السلطة بقطار وكالة المخابرات المركزية الأميركية». لكن واحدا من ركاب هذا القطار، يقول واينر، كان «القاتل الأجير صدام حسين» حسب تعبيره.

ويسجل واينر بعض المآخذ الكبرى في تاريخ الوكالة، ويرى أنها لم تحقق نجاحا يذكر داخل الصين الشعبية، وأنها فشلت في التكهن باندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 «لقد كنا نياما»، هذا ما قاله رئيس الوكالة السابق آدم ستانسفيلد تورنر. وفوجئت الوكالة بتفجير الاتحاد السوفياتي للقنبلة النووية عام 1949، واجتياح كوريا الجنوبية عام 1950، والثورات المضادة في شرق أوروبا في الخمسينات من القرن الماضي، ونصب الصواريخ السوفياتية في كوبا عام 1962، والحرب العربية الإسرائيلية في أكتوبر (تشرين الأول)، واجتياح السوفيات لأفغانستان عام 1979، وسقوط الاتحاد السوفياتي عام 1989، واجتياح العراق للكويت عام 1990، وتفجير الهند لقنبلة نووية عام 1998، ثم فشل الوكالة في إقامة الدليل على وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق.

يبدو أن واينر، وهو صحافي في جريدة «نيويورك تايمز»، ومتخصص في شؤون الجاسوسية لسنوات طويلة، يمتلك مقدرة متميزة على إيراد التفاصيل المحرجة، فهو يذكر، على سبيل المثال أنه حينما اجتاح العراق الكويت في أغسطس (آب) 1990، كان روبرت غيتس، وزير الدفاع الأميركي الحالي ونائب مستشار الأمن القومي في إدارة بوش الأب آنذاك، في نزهة عائلية. سألته إحدى صديقات زوجته ممن كن ضمن تلك النزهة قائلة «ما الذي تفعله هنا؟»، سألها غيتس «ما الذي تتحدثين عنه؟» قالت: «الاجتياح»، فسأل متعجبا: «أي اجتياح؟!».

من دون شك، تيم واينر ليس أول كاتب يرى أن «عصر وكالة المخابرات المركزية الأميركية الذهبي كان وهما»، فهناك الكثير من المؤلفين بدأوا بتحطيم أسطورة الوكالة، لكن عن طريق استخدام المئات من الوثائق المصنفة وعشرات التسجيلات لمذكرات أساتذة التجسس، يرسم واينر ما يمكن أن يكون أسوأ صورة حتى الآن عن الوكالة. وفي هذا الخصوص يقول إن «أقوى دولة في تاريخ المدنية الغربية قد أخفقت في خلق خدمة تجسس من الطراز الأول، الأمر الذي يشكل خطرا على أمن الولايات المتحدة القومي».

الكتاب: *«تركة من رماد» - المؤلف: تيم واينر - الناشر: ألن لين. لندن، 2009 -الشرق الأوسط
نامق كامل