لماذا عبدالمنعم الهوني وفي هذا الظرف بالذات؟ الجواب بسيط وهو ان هذا الضابط الذي شارك معمر القذافي في حركة «الفاتح من سبتمبر» 1969 يعرف الكثير الكثير. غداة الحركة كان عضواً في مجلس قيادة الثورة. وشغل في النصف الاول من السبعينات مناصب حساسة، اذ عمل مديراً للاستخبارات ووزيراً للداخلية والخارجية. ومنذ منتصف السبعينات حتى بداية القرن الحالي كان الرائد الهوني معارضاً ومطارداً. وفي العقد الماضي عاود الحوار مع النظام الذي عينه مندوباً لبلاده لدى جامعة الدول العربية وهو المنصب الذي استقال منه قبل ايام للانضمام الى المحتجين.
قبل خمسة عشر عاماً بحثت عن الهوني. التقيته في النهاية في فندق في لندن وقد ابلغت بمكان اللقاء قبل وقت قصير من الموعد. وخلال اللقاء الليلي الطويل كان الهوني قلقاً وكان محقاً، ذلك ان اجهزة النظام الليبي كانت تحاول اصطياد المعارضين في الخارج بعدما سمتهم «الكلاب الضالة». قبل يومين عرفت بوجود الهوني في لندن فاتصلت به لزيارته فأعرب عن رغبته في زيارة «الحياة». واضح ان نظام القذافي الذي يحاول معاندة العاصفة لم يعد يثير المخاوف.
اغتنمت زيارته لأراجع معه محطات امنية وسياسية ووافق هذه المرة على الخروج من تحفظه السابق. تساعد رواية الهوني في اللقاءين على فهم سلوك نظام القذافي وتسلط الضوء على الاسلوب الذي اتاح للعقيد ان يحكم ليبيا بقبضة من حديد على مدى اربعة عقود تغير فيها العالم وسقطت جدران كثيرة وانظمة كثيرة. وهنا نص الحلقة الاولى:
> هل تعتقد أن نظام القذافي يتفكك حالياً؟
- إن شاء الله. أنا أعتقد أن المسألة مسألة أيام وليس اكثر. للأسف، أعتقد في الوقت نفسه ان الأمر سيكون مكلفاً لليبيا والليبيين، فهذا الرجل يمكن ان يُقْدِم على اي شيء وكل شيء.
> كيف تفسر هذه التصدعات المتسارعة التي تبنئ بانهيار قريب للنظام؟
- دعني اختصرْ لك الوضع بعد 42 عاماً من حكم القذافي. أفضَلُ ما يختصره هو عبارة «طَفِحَ الكيل». لم يعد الشعب قادراً على احتمال المزيد. حين تسيطر هذه الحالة على شباب بلد ما، فإن التغيير يصبح حتمياً.
> هل تأثروا بشبان تونس أو مصر؟
- قد يكون موضوع بوعزيزي (التونسي الذي أحرق نفسه) شجَّع كل المظلومين، وربما تأثر الشباب بما حدث في مصر، لكن التأثر بالخارج لا يكفي ما لم تكن هناك في الداخل ظروف تدفع الى الانتفاض او الثورة.
> كيف كانت علاقة القذافي بالرئيس زين العابدين بن علي؟
- كانت علاقة جيدة جداً، طبعاً مع الفوارق ان بن علي اهتمَّ، على رغم ممارسات نظامه، ببناء مؤسسات تعليمية وصحية وسياحية. في ليبيا لا شيء من هذا النوع.
> من كان يحكم ليبيا حتى الأيام القليلة الماضية؟
- القذافي وأولاده، ويمكن ان تضيف إليهم عشرين شخصية مجرمة.
> أين عبدالسلام جلود؟
- في منزله، ولا علاقة له بممارسات القذافي في الفترة الاخيرة.
> ورئيس الأركان ابوبكر يونس جابر؟
- يقال إنه الآخر في بيته، لأنه رفض إصدار أوامر الى الجيش بإطلاق النار على المدنيين. يجب ان نعرف ان الجيش الليبي تعرَّض لعملية تصفية. الجيش الحقيقي في ليبيا هو الكتائب الست التي يقودها أبناء العقيد وأُطلقت عليها اسماؤهم: الخميس، والساعدي، وفضيل (...).
> من هم أصدقاء القذافي في العالم؟
- سيلفيو برلوسكوني (رئيس الوزراء الايطالي). هناك مصلحة لبرلوسكوني. وللقذافي علاقة برئيس جنوب افريقيا جاكوب زوما. طبعا له علاقة معروفة بنيلسون مانديلا. تشافيز ايضاً يُعتبر من اصدقائه، لهذا بدأ يتردد انه قد يغادر الى فنزويلا او جنوب أفريقيا. أما أنا، فرأيي انه حسم أمره: إما قاتل وإما قتيل.
> إنك ترسم للقذافي صورة شبيهة بصورة صدام حسين؟
- إنه أسوأ من صدام حسين. صدقني، إنه أسوأ بكثير. يخيل إلي ان صدام كانت لديه بقية من عقل، هذا الرجل ليس لديه اي عقل او تعقل.
> هل ستعود الى العمل السياسي في ليبيا؟
- أنا أعود كرجل متقاعد. نحن اختلفنا مع القذافي لأنه رفض تقصير المرحلة الانتقالية. محمد نجم طالَبَ ألاّ تزيد المرحلة الانتقالية عن سنتين، وبعد انقضائها استقال.
> هل يعتقد القذافي أنه زعيم تاريخي؟
- إنه متأكد. اكثر من ذلك، إنه يعتقد ان العناية الإلهية أرسلته. أنا لا أبالغ. هذه حقيقة مشاعره، وأقواله تؤكد هذا الجنوح لديه. كان يضرب مثلاً شديدَ الدلالة. كان يقول ان المشركين كانوا يهزأون من سيدنا نوح حين كان يُعِدّ المركب ويتندرون حول ما يقوم به. ويضيف أن من كانوا مع نوح في المركب هم الذين نجوا حين جاء الطوفان. وهلك الذين كانوا يضحكون منه.
> سلوكه عنيف؟
- الحقيقة ان السلطة مفسدة، خصوصاً حين يقبض شخص واحد على كل الخيوط ولا تكون هناك ضوابط او مؤسسات او محاسبة. لقد تورمت الأنا لديه بعد إمساكه بالسلطة، وظهرت نرجسيته كعاشق أضواء وظهرت قسوته أيضاً.
السلطة أولاً
> هل يحب المال؟
- لا، انه يحب السلطة، ويعرف ان السلطة تضمن كل شيء.
> وما رأيك في نجله سيف الإسلام؟
- الانطباع العام أنه انتهى بعد الكلمة التي وجَّهها الى الليبيين وضمَّنها تهديدات. تصوَّرْ أنه وصف المحتجين بأنهم مجموعة من المهووسين والمدمنين والمجرمين.
> هل هناك خطر اندلاع حرب أهلية؟
- لا أعتقد ان حرباً اهلية ستقع. أعتقد اننا سنشهد مجازر فظيعة، لكنني واثق ان الشعب سينتصر في النهاية.
> هل انت نادم لمشاركنك مع القذافي في حركة «الفاتح من سبتمبر»؟
- لست نادماً، لكنني أشعر اننا خذلنا الشعب الليبي. كان يجب ان ننجح في عمل شيء قبل مغادرتنا في منتصف السبعينات ولو حصل ذلك لوفرنا على ليبيا الكثير، فقد نُكِّلَ بأبنائها، وبُدِّدَت ثروتُها، ووقعت فيها عمليات ظلم رهيبة. لقد طارد نظام القذافي الليبيين في الداخل والخارج، وفرض مناخاً من الرعب، واستخدم كل الأساليب والأدوات والخبرات لقصم ظهر من يعترض أو يناقش.
> تركت في 1975 بعد خلاف؟
- تركت بعد اتهام بأنني كنت مع عمر المحيشي وراء حركة 1975. حتى في السنوات الأخيرة، كان لدي يقين بأن النظام كان يرتِّب لقتلي في حادث سيارة، على غرار ما فعل بإبراهيم البشاري وكثيرين، بينهم وزراء وضباط. انا واثق بأن النظام سينتهي قريباً، لكن للأسف التكلفة عالية.
> هل تعتقد ان القذافي يجب أن يحاكَم؟
- إذا بقي حيّاً يجب ان يحاكم. لو كنت قاضياً ورئيس محكمة لاعتبرت ان المسؤولية تقع ايضاً على من كانوا حوله، وعددهم لا يزيد على العشرين. هؤلاء أفادوا منه كثيراً.
> حاول اغتيال قادة في الخارج؟
- نعم، خطط لاغتيال الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وقد أفرجت السعودية عن الرجلين الضالعين، وليتها حاكمَتْهما قبل إطلاقهما، لان النظام راح يروِّج أنهما بريئان. لم يتعظ النظام، وكرر المحاولة، وتم اعتقال اشخاص من جديد. وفي السابق خطط القذافي لاغتيال الملك حسين.
> متى التقيت العقيد القذافي للمرة الأخيرة؟
- قبل نحو عامين في شرم الشيخ، كان يشارك في القمة الأوروبية - الأفريقية - العربية.
> كيف كانت علاقتك به؟
- الحقيقة انها كانت باردة. لا حميمية ولا دفء. ولهذا الأمر علاقة بما جرى في العقود الماضية. نحن كنا معاً في الإعداد لـ «الفاتح من سبتمبر»، ثم افترقت خياراتنا لاحقاً. سبب عتبه المباشر في السنوات الاخيرة هو قراري عدم الذهاب الى ليبيا ابتداء من العام 2003. أنا رجعت إلى ليبيا في شهر آب (اغسطس) 2000 وبعد غياب دام 25 سنة، اذ إنني كنت غادرت طرابلس في آب 1975.
> رجعت في سياق مصالحة؟
- رجعت في مناخ كانت فيه آمال ومطالب. كان القذافي يقول إنه جاهز للتغيير ولسماع الرأي الآخر. التقيته ليلة 29 آب في مقر كتيبة الساعدي في سرت. خلال فترة الانقطاع الطويلة عن زيارة ليبيا، التقيته مرتين، الأولى في الجزائر بعد وساطة رسمية جزائرية. في ذلك اللقاء اقترح عليَّ أن أعود معه، لكنني رفضت، والتقيته مرة ثانية في قصر القبة بعد وساطة مصرية، ولم نتفق.
في لقاء عام 2000، عبَّرَ عن اعتقاده ان السلطة الشعبية التي يطرحها هي الحل الأنسب لليبيا. أنا طرحت أن هذه السلطة الشعبية لا بد من تقنينها، اي لا بد من صناديق الاقتراع والمؤسسات، اذ لا يجوز الاستمرار في الشكل الهمجي المتخلف.
المرشد الليبي
كان اللقاء عادياً، وحاول أن يضفي عليه شيئاً من الود. قال إنه افتقدني، وسألني معاتباً لماذا انضممت الى المعارضة، قائلاً: كيف تعارض نفسك؟ في إشارة منه الى اننا كنا معاً ساعة الوصول الى السلطة وفي مجلس قيادة الثورة. تناقشنا في الحاجة الى دستور للبلاد، وأظهر اقتناعاً بما أقول. تحدثنا عن الصيغ المعمول بها في تركيا وتشيلي وإيران. المقصود بإيران وجود مرشد، وهذا ما كنا نفرضه عليه.
في نهاية الجلسة سألني ان كنت سأبقى في ليبيا، فأجبته أنني عائد الى مصر، حيث عائلتي وأعمالي الشخصية، عندها طلب مني ان أكون مندوب ليبيا في جامعة الدول العربية كغطاء لوجودي في مصر، وهكذا أتردد عليه ونتحاور ونبحث.
> وتكررت زياراتك واللقاءات؟
- كنت أذهب بمعدل ثلاث الى أربع مرات، وكنت ألتقيه في كل زيارة. في عام 2003 تلقيت اتصالاً منهم يوم ثلثاء، قالوا: «القائد عايزك»، فأجبتهم أنني سآتي الخميس وأمكث حتى الإثنين. عندما ذهبت لم يستقبلني، ولم أحصل على تفسير. لا أعرف ما اذا كان ذلك مرتبطاً بتصريح نسبَتْه اليّ احدى الصحف، والحقيقة انني لم أُدْلِ به. نسب الي صحافي، وعن حسن نية، كلاماً عن الإصلاح والتغيير.
في 2004 كانت رئاسة دورة الجامعة العربية لليبيا. فرضَتْ الضغوط الاميركية على الدول العربية قبول ممثلين للحكومة العراقية، التي كانت آنذاك مشكّلة تحت الاحتلال الاميركي. انا اعتبرت الحكومة العراقية تلك غير شرعية وممثِّلة للاحتلال. أيدتني طرابلس، واقترحوا ان انسحب اذا حضر الوفد العراقي، وان اسلِّم رئاسة الدورة لمصر التي تأتي بعدنا في الترتيب. وهذا ما حصل. يومَها قررتُ عدم حضور أي اجتماع للجامعة، خصوصاً ان الامين العام للجامعة رضخ بدوره للضغوط. طلبت من موظفي الجامعة منع اعضاء الوفد العراقي من دخول مبنى الجامعة، فجاء الرد ان ذلك ليس من حقي كرئيس للدورة، وان الجامعة بيت العرب. ومنذ ذلك الوقت لم أحضر اجتماعات. طبعاً كنت أنقل الى الامين العام ايَّ رسالة من القذافي في حال وجودها. وكنت أرتّب زيارة الامين العام الى ليبيا ولكن لا أذهب معه. وكنت في هذه الفترة ألتقي القذافي في حال مجيئه الى مصر.
> كيف كانت علاقته مع الرئيس السابق حسني مبارك؟
- كان يقول إن مبارك تقدَّمَ في السن وخرّف، وان مصر تعيش بلا قيادة (يضحك). وكان يلمح الى ان ليبيا لا تتسع لقدراته. كانت العلاقة هادئة وباردة، وبدا لي ان الرئيس مبارك هو الذي كان حريصاً على العلاقة أكثر من القذافي.
> الآن ستُفتح ملفات عهد القذافي الطويل. أنا تلقيت رسالة من كارلوس (الفنزويللي الشهير) تقول ان فكرة خطف وزراء منظمة «أوبك» من فيينا في 1975 جاءت من القذافي نفسه. ماذا تقول؟
- انا لم اكن في ليبيا آنذاك، لكن الفكرة تبدو قذافية. انت تلقيت رسالة من المنفِّذ المباشر. وأدلى كارلوس بتصريحات أكد فيها ان الفكرة ليبية، وكذلك الخطة، بما فيها خطف الوزراء الى الجزائر لإبعاد الشبهة عن ليبيا. الامر نفسه تحدَّث عنه وزير النفط السعودي احمد زكي يماني الذي كان بين من خُطفوا.
> وقضية تفجير الطائرة الاميركية فوق لوكربي؟
- المعلومات الحقيقية موجودة عند عبدالباسط المقرحي، الذي أعيد الى ليبيا. المتداول ان المقرحي أَرسل من سجنه في إسكتلندا تهديداً الى النظام يطالبه فيه بفعل اي شيء لضمان الافراج عنه، وإلا سيروي القصة بتفاصيلها وسيكشف خيوطها. طبعاً النظام دفع تعويضات وتمكَّن من اخراج المقرحي من سجنه.
هذا النوع من العمليات يطبخ في حلقة ضيقة جداً، نظراً لخطورته وعواقب انكشافه. ان تاريخ هذا النظام يساعد على وضعه في موضع الشبهة.
اختفاء الصدر
> وقصة اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه خلال زيارة الى ليبيا قيل انها شملت لقاءً غير ناجح مع القذافي؟
- واضح أن الإمام الصدر تعرض للتصفية. هذه القصة يقينية، وهي قناعة كل الليبيين الذين التقيتهم.
سأكشف لك مسألة. كان عديلي طياراً يقود طائرة القذافي واسمه نجم الدين اليازجي، وكان برتبة مقدم. بعد فترة وجيزة من اختفاء الإمام الصدر تعرض عديلي للتصفية. افراد الاسرة قالوا ان لاغتياله علاقة بقصة الصدر، إذ إنه تولّى نقل جثة الامام لدفنها في جنوب ليبيا في منطقة سبها. ويقول الاقارب ان معرفته بقصة موسى الصدر دفعت الاجهزة الليبية الى قتله لإخفاء السر، وهي مسائل تحدث في مثل هذا النوع من الجرائم.
> وطائرة الـ «يوتا» الفرنسية؟
- هذه أقرّوا بها ودفعوا تعويضات. مَن حكمَتْ عليهم المحاكم الفرنسية موجودون وأحياء.
> مَن تعرَّض للتصفية من أركان النظام؟
- طبعا هناك عمر المحيشي. حصلت صفقة سياسية تعهد القذافي بموجبها بوقف دعمه لجبهة «البوليساريو» وطلب في المقابل من الملك الحسن الثاني تسليمه اربعة اشخاص من المعارضة الليبية بينهم عمر المحيشي، الذي كان عضواً في مجلس قيادة الثورة، واتُّهم بقيادة محاولة انقلابية وفَرَّ الى مصر. أقام معي في مصر كلاجئ سياسي ثم غادر الى بريطانيا، وحين تعب منها أراد الإقامة في المغرب. دفع المحيشي ثمن الصفقة، التي شملت ايضاً فناناً ليبياً معارضاً.
> هل حاول نظام القذافي اغتيالك في الخارج؟
- كل ليبي معروف غادر الى الخارج تعرَّض لمحاولة اغتيال او تم التفكير في اغتياله. انا حاولوا اغتيالي في مصر وفي بريطانيا.
في 1993 جاءني وفد الى مصر على رأسه المرحوم اللواء محمود شيت خطاب الوزير العراقي السابق، والذي كان مقيماً في مصر وتربطه بالقذافي علاقة جيدة. طلب الوفد مني ان تكون لي بالقذافي علاقة مستمرة، اي ان يكون بيننا اتصال دوري. وقالوا إنه يريدني ان اغادر مصر التي أبرمت اتفاقاً مع اسرائيل وطلبوا مني ان اختار ايَّ بلد. جئت الى بريطانيا وأمضيت شهراً أبحث عن بيت، وكنت طلبت ان أحصل على ما يمكِّنني من شراء بيت، وأنني أريد ألاَّ تكون لي علاقة شهرية مع السفارة تنال من استقلاليتي، وقد وافقوا على طلبي. اتفقنا على ثلاثة ملايين دولار، إضافة الى ثمن بيت. حوَّلوا لي مبلغ مليون وثلاثمئة ألف دولار.
خلال بحثي عن منزل، علمتُ بطرقي الخاصة ان مجموعة أُرسلت لاغتيالي. وطلبوا من السفير الليبي آنذاك محمد المسماري ان يقدِّم مذكرة رسمية الى وزارة الخارجية البريطانية يقول فيها ان الاستخبارات المصرية تُعِدّ مؤامرة لتصفية عبدالمنعم الهوني، اي انهم كانوا يريدون قتلي واتهام الاستخبارات المصرية. انا سارعت الى المغادرة وعدت الى مصر التي لقيت فيها معاملة جيدة.
> هل تحمّل نظام القذافي ايضاً مسؤولية اغتيال منصور الكيخيا وزير الخارجية السابق؟
- بالتأكيد. اجرى منصور الكيخيا، رحمه الله، حسابات خاطئة. كنا، محمد المقريف والكيخيا وأنا، معاً في الجزائر كوفد من المعارضة. التقينا المسؤولين الجزائريين وطلبنا دعماً سياسياً وأدبياً. أعتقد ان ذلك كان في 1992. بعض الإخوة في المعارضة لم يقدِّروا خطورة الظروف ونشروا لنا صوراً ونحن في الجزائر. اعتبر المسؤولون في طرابلس الأمر خيانة كبرى. بدأوا التركيز على منصور، وأرسلوا اصدقاء له طلبوا عبرهم اللقاء به في أي مكان.
اتصل بنا الرئيس الجزائري السابق احمد بن بله وألحّ على الالتقاء بنا فالتقيناه، منصور وأنا، في فندق «إمباسادور» في جنيف. جاءنا برسالة مصدرها القذافي تطلب منا العودة الى ليبيا مع استعداد لإعطائنا وظائف سياسية اذا كنا نطلب ذلك، او حتى اذا رغبنا في الإقامة كمواطنين عاديين. التقى بن بله أيضاً في لقاء آخر عزالدين الغدامسي ومحمود المغربي.
أنا ومنصور قلنا إننا لا نريد وظائف، بل نريد تغييراً في البلد. نقل بن بلة نتيجة اللقاء الى القذاقي، فبدأ الأخير بخطة لتصفية منصور. أرسل له الى جنيف أحمد قذاف الدم، الذي عرف ان منصور سيغادر في اليوم التالي الى مصر. أبلغ قذاف الدم الكيخيا انه سيرسل اليه في القاهرة مسؤولاً رفيعاً للقائه والاستجابة الى طلباته.
كان منصور رجلاً سياسياً لكنه كان بعيداً عن الحس الأمني. وكان يردد: أنا لماذا يقتلني العقيد. لم أحمل سلاحاً ضده ولن أحمل. بصري ضعيف وصرت في السبعين.
ذهب الكيخيا الى القاهرة فتلقى اتصالاً قال فيه المتصل: نريد التحاور معك في بيت السفير الليبي في مصر ومندوب ليبيا لدى الجامعة العربية ابراهيم البشاري. طبعاً البشاري تولى لاحقاً إدارة الاستخبارات وقتلوه في حادث سيارة مفتعل.
> لماذا قتلوه؟
-القصة متداوَلة بين أركان النظام. اتهموه بأنه سرَّب معلومات عن تفجير طائرة الـ «يوتا» الى الفرنسيين، كما اتهمه البعض بتسريب معلومات عن حادث لوكربي. طبعاً تفجير الـ «يوتا» حصل لأن الأجهزة الليبية تلقت معلومات عن وجود شخصية ليبية معارضة على الطائرة وهي الدكتور محمد المقريف. وهذا كان الهدف. شاءت الصدفة ان المقريف سافر في وقت قريب جداً، لكن ليس في ذلك النهار بالذات.
> لنعد الى البشاري؟
- استقبل البشاري الكيخيا في منزله. وتقول الرواية المتداولة ان الكيخيا أعطي حقنة في المنزل ونقل بسيارة تحمل لوحة دبلوماسية الى الحدود المصرية - الليبية وصولاً الى مطار طبرق، حيث كانت طائرة تنتظره، فنقلته الى طرابلس وقتل هناك.
سأخبرك بما سمعته من القذافي شخصياً عن المحيشي. قال لي: «المحيشي أجرم وأفشى اسرار الجيش الليبي. أخضعه الضباط الأحرار لمحاكمة عسكرية ونفّذوا فيه حكم الإعدام. انا ما ليش علاقة». هذا هو أسلوب القذافي.
> استخدم القذافي مجموعات كان العالم يعتبرها إرهابية؟
- نعم. استخدم مجموعة «أبو نضال» وكارلوس و «الجيش الاحمر الياباني» و «الألوية الحمر» و «بادر ماينهوف» ومجموعات اخرى كثيرة، ودَعَمَ معارضات واحتجاجات، وتورَّطَ في مغامرات عسكرية في تشاد وغيرها. دَعَم َحتى مجموعة «أبناء الله» في اميركا.
> هل يكره القذافي اميركا؟
- في البداية تعامل الاميركيون معنا بنوع من الصلف والتعالي. قالوا: «أوقفوا الحديث عن الوحدة العربية فنعطيكم سلاحاً. وحددوا علاقتكم بوضوح مع جمال عبدالناصر».
> هل كان القذافي معجباً بجمال عبدالناصر؟
- أُقسم أنني أقول الصدق. في كانون الاول (ديسمبر) 1969 ذهبت معه الى اللقاء الاول مع عبدالناصر. كانت الزيارة سرية وتضمنت جلسات عدة مع الرئيس المصري. زارنا عبدالناصر مرتين في ليبيا. حضر احتفالات جلاء القاعدة الأميركية ثم زاره القذافي في مرسى مطروح. بعد عودته سألناه عن رأيه فردَّ: «إن عبدالناصر رجل بوليسي» وكان يقصد أنه قمعي.
> لنعد الى اللقاء الأول؟
- أعتقد ان الإخوة المصريين توهَّموا انه سيكون رجلَهم في ليبيا. طلبنا من الجانب المصري إبرام وحدة عسكرية، وأننا نحتاج الآن الى تأمين الثورة في ليبيا بانتظار إعداد الجيش الليبي، لهذا نحتاج الى قوات مصرية للمرابطة في طرابلس وبنغازي. تجاوب عبدالناصر وأرسل فوراً قوات خاصة. طلبنا أيضاً خبرات قانونية وزارنا لاحقاً جمال العطيفي ومحمد حسنين هيكل. أعددنا إعلاناً دستورياً ولم نستكمل شيئاً. لا دستور في ليبيا. هناك نص اسمه وثيقة الشعب، وهي وثيقةُ مبايعةٍ للقذافي. وطبعاً هناك الكتاب الأخضر.
حاوره غسان شربل
(الحياة)