كشفت وثائق سرية اميركية وبريطانية رفع الحظر عنها مؤخرا واطلعت عليها «الشرق الاوسط» عن عمق العلاقة بين الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين منذ شبابه وبين بريطانيا واميركا، وحتى بعد استخدامه للاسلحة الكيميائية في الحرب الايرانية ـ العراقية ثم ضد الاكراد فيما بعد. وتوضح الوثائق صلته بشركة بكتل للمقاولات وهي اكبر الشركات الاميركية التي ساهمت في بناء مصنع بتروكيميائي ابان تلك الفترة.
وتوضح الوثائق الجديدة كيف ان الولايات المتحدة اتخذت سياسة حيادية في العلن من الحرب العراقية الايرانية في حين تغاضت بل وشجعت استخدام الاسلحة الكيميائية ضد ايران في السر، كما قدمت بعض الاسلحة لصدام حسين.
وفي الوقت الذي كان فيه العراق يخوض حربا طويلة مع ايران، فان الولايات المتحدة اعتبرت نظام صدام حليفا هاما ضد الثورة الايرانية عام 1979. وكانت واشنطن قلقة من ان النموذج الايراني الاسلامي ربما ينتشر الى بقية دول المنطقة الغنية بالنفط الضروري للاقتصاد الاميركي. وقد حافظت الولايات المتحدة، علنا، على حيادتها خلال الحرب العراقية الايرانية التي بدأت العام 1980 واستمرت لمدة 8 سنوات غير انها وثقت علاقتها بصدام بدون الاعلان عن ذلك.
* صدام يمكن العمل معه
* فوفق احدى الوثائق السرية التي تم رفع الحظر عنها والتي كشفت عنها هيئة «ارشيف الامن القومي» التابعة لجامعة جورج واشنطن وحصلت عليها «الشرق الأوسط» طبقا لقانون حرية المعلومات الاميركي، تقول السفارة البريطانية في بغداد ان صدام حسين احد الاشخاص الذين يمكن التعامل معهم وتصفه بانه «شخص ذو ابتسامة جذابة». وتضيف الوثيقة «اذا امكن رؤيته بشكل اكثر فانه يمكن العمل معه». وتصفه بانه «رجل يحسن تقديم نفسه».
ويعود تاريخ هذه الوثيقة الى 15 نوفمبر 1969 وترسم فيها السفارة البريطانية تحليلا وصفيا لشخصية صدام حسين لترى ما اذا كان يمكن الدفع به للترقي في سلك القيادات في العراق وتقييم مدى استعداده للتعامل مع بريطانيا. وتعدد الوثيقة صلاته بالقيادة العراقية وقتذاك ومدى نفوذه في الحزب البعثي.
وفي وثيقة اخرى بتاريخ 20 ديسمبر (كانون الاول) 1969 يكتب السفير البريطاني بلفور بول في برقية سرية الى وزارة الخارجية وشؤون الكومنويلث في لندن واصفا صدام حسين بالقول «يبدو انه الخليفة المرشح لتولي العرش» وله «صعود في دائرة الضوء». ويضيف السفير في وثيقته بأن صدام «يتحدث بحرارة تبدو مخلصة» حول الكثير من الموضوعات. وفي الوثيقة يصف السفير قول صدام ان العلاقة بين العراق والاتحاد السوفيتي فرضت على حزب البعث نتيجة مناصرة الاتحاد السوفيتي العلنية للقضية الفلسطينية ولا تمثل توجها اصيلا من قبل الحزب. وينقل السفير البريطاني قول صدام انه لا يريد علاقات حميمة في العلن «خشية ان يمسكها منتقدو العراق وحزب البعث ضدهم». وفي الحديث يعبر صدام عن رغبة «حقيقية» في التعامل مع بريطانيا بل ومع الولايات المتحدة الاميركية، ويصف السفير صدام بانه «رجل له رأيه الخاص وشخص لا يستهان به وعضو متصلب الرأي في سلك قيادة حزب البعث». وقال صدام مدافعا عن مدى علاقته بالاتحاد السوفيتي قائلا: «ليس الامر بهذا السوء». وقال السفير انه قابل صدام حسين «الصغير السن» في «مكتب صدام المتواضع» وكانت المحادثة باللغة العربية التي كان يجيدها السفير.
* تحسن الامور مع واشنطن
* وفي وثيقة اخرى من وزارة الخارجية الاميركية يعود تاريخها الى 28 ابريل (نيسان) 1975 تبرز حوارا بين وزير الخارجية آنذاك هنري كيسنجر ومستشاريه في وزارة الخارجية حول ما وصف بانه «النشاط الدبلوماسي» الآتي من بغداد. وفي نص الحوار يذكر نائب وزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الأدنى الفريد إيثرتون أن هناك محاولات وليدة من قبل بغداد «لتحسين الأمور» مع جيرانها. ويقول كيسنجر ان هذا النشاط شيء متوقع وخصوصا بعد أن تم توقيع إتفاق مبدئي في مارس 1975 بين العراق وإيران ـ والتي كانت حليفة كبيرة لاميركا وقتها تحت حكم الشاه رضا بهلوي ـ لحل الخلاف الحدودي بينهما على حساب الاكراد والذي قامت إيران واميركا بعده بإيقاف دعمهما لهم. ويصف إيثرتون صدام حسين بأنه «شخص جدير بالاهتمام... إنه يدير الأمور هناك غير أنه قاسى جدا... وعملي وذكي». وفي وثيقة أخرى بها نص حوار بين هنري كيسنجر ووزير الخارجية العراقي سعدون حمادي في 17 ديسمبر 1975 تسرد المذكرة أول لقاء وجها لوجه بين وزيري خارجية البلدين منذ سنوات والتي كان قد دعا إليها كيسنجر لاستبيان وسائل تطبيع العلاقات مع العراق كجزء من حملة أكبر لتحسين العلاقات مع العالم العربي وخصوصا بعد أزمة النفط المصاحبة لحرب 1973 بين العرب وإسرائيل. وفيها يقول كيسنجر لسعدون حمادي «لا أظن أن هناك أي إصطدام أساسي في المصالح القومية بين العراق والولايات المتحدة الأميركية». وعندما يرد حمادي ان الخلاف يبقى اسرائيل، يقول كيسنجر أنه لا مساومة على وجود إسرائيل ويقول «أما إذا كانت القضية (بين العرب وإسرائيل) هي مسألة حدود فإننا يمكن أن نتعاون في ذلك». وفي اللقاء يتفق الوزيران أنه لا عوائق أمام العلاقات «الاقتصادية والثقافية».
* الملك حسين كان يقرب بين واشنطن وبغداد
* وفي وثيقة أخرى تم الكشف عنها من السفارة الأميركية في عمان بالأردن في19 مارس 1985 يتضح أن الملك حسين عاهل الاردن السابق كان من أهم الوسطاء بين بغداد والعراق وذلك قبل اعلان العلاقات رسميا بين واشنطن وبغداد في نوفمبر .1984 وفي هذه البرقية تظهر محاولات الملك حسين لجمع الزعماء العرب ضد إيران ودعوته للرئيس حسني مبارك للانضمام الى صدام حسين في لقاء. ويقول الملك للسفير الأميركي في عمان ان العراقيين «مسرورون للغاية» من الدعم الدبلوماسي الأميركي وكذلك «من التعاون الإجمالي مع الولايات المتحدة الأميركية» اثناء الحرب مع ايران.
وفي برقية أخرى، توضح رضا اميركا غير المعلن عن استخدام العراق للاسلحة الكيماوية، من قسم رعاية المصالح الأميركية في العراق في 7 مارس 1984 يقول عصمت كتاني نائب وزير الخارجية العراقي وقتها معلقا على الانتقادات الاميركية العلنية لاستخدام العراق للأسلحة الكيماوية ضد إيران انها لم تكن مناسبة من حيث «التوقيت... والاسلوب». ويقول ان الأهم من كل ذلك هو ألا تعيق هذه الحادثة بين إقامة علاقات ثنائية بين البلدين وهو ما تحقق فعليا فيما بعد حينما أعلنت الولايات المتحدة الأميركية إقامة علاقات رسمية مع نظام صدام حسين في نوفمبر 1984.
* بكتل تعمل في العراق رغم استخدام الاسلحة الكيميائية ضد الاكراد
* وفي وثيقة مؤرخة في سبتمبر 1988 تذكر السفيرة الاميركية في بغداد ابريل غلاسبي ـ والتي يظن في كثير من الدوائر انها اعطت الاشارة الخضراء للعراق بغزو الكويت في اغسطس 1990 ـ تقول ان شركة بكتل للمقاولات قالت انها لن تحترم حظرا كان الكونغرس قد فرضه علنا على قيام شركات اميركية بالعمل في العراق بعد ان قام صدام حسين باستخدام الغارات الكيميائية ضد الاكراد في مارس من العام ذاته في حلبجة.
وتبين الوثيقة موافقة الدبلوماسيين الاميركيين على قيام بكتل بذلك على الرغم من حظر الكونغرس المعلن وذلك عن طريق استخدام مقاولين غير اميركيين او شركات تابعة لها مقيدة في السجلات في دول اخرى على انها غير اميركية على الرغم من انها مملوكة لشركات اميركية.
وتقول غلاسبي «لقد قال ممثلو بكتل (في العراق) انه اذا تحول الحظر الى قانون فانهم سيلجأون الى استخدام موردين غير اميركيين» لكي يحتفظوا بعقد كبير في العراق كانت بكتل مع شركات اميركية اخرى قد فازت به لاقامة الجزء الثاني من مصنع بتروكيمائي في العراق تبلغ كلفته ملياري دولار كان نصيب الشركات الاميركية منه 300 مليون دولار.
وقال جيم فاليت من مركز الطاقة الدائمة في واشنطن لـ«الشرق الاوسط» ان الشركة الاميركية «بدعم من الدبلوماسيين الاميركيين ارادت العمل في العراق على الرغم من علمها يقينا ان صدام حسين استخدم اسلحة كيميائية ضد الاكراد وضد ايران». واضاف «لقد ارادت الشركة كسب المال فقط، ولم يكن يعنيها ما يمكن ان يحدث للاكراد جراء بعض منتجات المصنع». ومن المعروف ان موظفي بكتل كانوا من ضمن الرهائن الغربيين الذين احتجزهم صدام حسين بعد غزوه للكويت كورقة ضد تهديدات الولايات المتحدة بضربه عسكريا اذا لم ينسحب من الكويت. وقد اطلق صدام حسين سراحهم لاحقا بعد وساطة بريطانية.
وقال توم بلانتون، المدير التنفيذي لارشيف الامن القومي، وهو مركز ابحاث مقره واشنطن، لـ«الشرق الاوسط» «ان هدفنا من الكشف عن هذه الوثائق هو اعطاء البعد التاريخي للحرب على العراق وللقرارت الاقتصادية ـ بما فيها اعطاء عقود لشركات هناك». وقال بلانتون «ان الاحتلال للعراق يوصف بانه حرب اخلاقية جلية ضد الشر. وترسم الامور لنا في لونين ابيض واسود. غير ان حقيقة التاريخ وحقيقة العلاقة بين الولايات المتحدة والعراق ترينا ان العلاقة كانت مظلمة وليست كلها لونين فقط. لقد كانت العلاقة سياسية للغاية وان القلق الاميركي من اسلحة الدمار الشامل ما هو الا زهرة تفتحت قريبا جدا فقط».