العلاقة الثلاثية: الولايات المتحدة وإسرائيل وسورية: 1974 - 2001
كانت حرب تشرين الأول / أوكتوبر 1973 نقطة تحول لإدارة سورية في صراعها مع إسرائيل وفي علاقتها مع الولايات المتحدة. فقد أجبرت نتيجة الصراع سورية على الانضمام إلى المسار الدبلوماسي المدار من قبل وزير الخارجية هنري كيسينجر. وقد شكل هذا التطور ابتعاداً جذرياً لنظام البعث (الحليف العربي الأقرب إلى موسكو وألدّ خصم لإسرائيل) عن سياساته السابقة.
سعى كيسينجر في ربيع 1974 إلى تكرار ما أحرزه مع مصر ... فقد أمل في سحب سورية بعيداً عن المحور السوفياتي وذلك عبر إغراءين رئيسيين وهما استعادة مرتفعات الجولان وبناء علاقة مع واشنطن. وبالرغم من أنه لم ينجح، إلا أن هذه المساعي أدت إلى اتفاقية فصل القوى بين سورية وإسرائيل وإلى تأسيس قناة اتصال بين سورية وأمريكا. استعملت واشنطن هذه القناة سنة 1976 لتشجيع دمشق للتدخل عسكرياً في الحرب الأهلية اللبنانية بعد أن نسقت مع إسرائيل فيما يعرف باتفاق الخط الأحمر الذي سمح لسورية بإرسال قواتها إلى لبنان على أن لا تنشرها جنوب الليطاني، وبالتالي أصبحت سورية عامل استقرار على الساحة اللبنانية.
ولكن، بالمقابل لم تشرك الولايات المتحدة سورية في الاتفاقية المؤقتة بين مصر وإسرائيل سنة 1975 وكان هذا تحدياً كبيراً لنظام حافظ الأسد الجديد. وهكذا نرى نموذجاُ لعلاقة متناقضة إقليمياً، سورية والولايات المتحدة متعاونتان من جهة ومتخاصمتان من جهة أخرى.
سعى جيمي كارتر بعد انتخابه سنة 1976 إلى اتفاق شامل بين العرب وإسرائيل. وقد صادف تلك الفترة اندلاع الثورة المعادية للأمريكيين سنة 1979. منح هذان التطوران أهمية للدور السوري. لكن، على الرغم من جميع جهود ومحاولات كارتر، إلا أن الأسد تحالف مع الخميني ليشكل القوة الموازية لمصر بعد توقيعها اتفاقية سلام مع إسرائيل.
أدى التحالف السوري - الإيراني إلى إتاحة الفرصة لإيران بتشكيل قاعدة لها وسط المجتمع الشيعي في لبنان على حدود إسرائيل الشمالية. هذا الواقع جعل الكسندر هيج وزير خارجية الولايات المتحدة في عهد ريغان يسمح لإسرائيلي وبالتعاون مع القوات اللبنانية باجتياح لبنان، وذلك لمحاولة إيصال بشير الجميل إلى سدة الرئاسة وبعدها الانتقال إلى غير سياسة المنطقة برمتها... إلا أن الأمور خرجت عن إطارها، فحاولت واشنطن السيطرة على الأزمة. كما سعت لتحقيق هدفين لسياستها وهما إصدار خطة ريغان لإحياء عملية السلام العربي - الإسرائيلي وإنهاء الحرب اللبنانية مع تعزيز النظام السياسي اللبناني رئاسة أمين الجميل، لكن الأمور انقلبت بعد تفجير السفارة الأمريكية ومركز المارينز في بيروت فأصبحت العلاقة الأمريكية - السورية عدائية. وزاد الطين بلة حالف سورية مع الاتحاد السوفياتي وإيران ورعايتها للإرهاب. وفي نهاية عهد ريغان وصلت الأمور إلى انفتاح الولايات المتحدة على منظمة التحرير الفلسطينية في إطار العودة إلى الدبلوماسية العربية - الإسرائيلية.
في سنة 1990، وبعد اجتياح صدام حسين للكويت، انضمت سورية لتحالف العسكري الدولي بقيادة الولايات المتحدة لطرد الجيش العراقي من الكويت. وكان لانهيار الاتحاد السوفياتي؛ الراعي التقليدي لسورية، والخشية من الترددات الكارثية على وضع النظام السوري فيما إذا نجح صدام في احتلاله الدافعان الرئيسيان لتغيير حافظ الأسد لسياسته مما أسس لعلاقات جديدة مع واشنطن.
الطريق إلى مدريد
كان للطرفين السوري والأمريكي رغبة في توسيع إطار العلاقة بينهما بما فيه مصلحة الطرفين. يريد الأمريكي وبعد انتهاء الحرب الباردة، إطلاق مفاوضات لإنهاء النزاع العربي - الإسرائيلي. أما السوري، فبالإضافة إلى مكتسباته في استرجاع الجولان، فسيحصل على علاقات أوطد مع واشنطن.
وضعت إدارة بوش تصوراً لعملية السلام مبنياً على فكرة"الأرض مقابل السلام"، وعلى الرغم من تحفظات الفريقين السوري والإسرائيلي، إلا أن الوقائع الاستراتيجية ساعدت بيكر وفريقه في إطلاق المفاوضات المباشرة بين وزير الخارجية فاروق الشرع وشامير في مدريد أكتوبر 1991. شكل ذلك الحدث إنجازاً دبلوماسياً مثيراً للإعجاب .. فقد بدأت مفاوضات ثنائية بين إسرائيل والأردن ولبنان والفلسطينيين، بالإضافة إلى مفاوضات تجمع عدد من الدول العربية مع إسرائيل. وقد تعززت هذه المفاوضات مع انتخاب إسحق رابين رئيساً لوزراء إسرائيل 1992. وهكذا، فقد تأسست علاقة ثلاثية غير مسبوقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وسورية.
اختيار المسار
ركز رئيس الوزراء إسحق رابين في مدريد على المسار الفلسطيني، إذ كان على قناعة بأن التوصل إلى اتفاق مؤقت مع الفلسطينيين سيعطي دفعاً لعملية مدريد التي عانت من فتور بعد انطلاقتها القوية. كما استبعد احتمال الوصول إلى اتفاقية سورية - إسرائيلية مماثلة لاتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية.
في نهاية شهر تموز يوليو 1992، عينني رابين مفاوضه الرئيسي مع السوريين. وأشار لي أنه مستعد للانسحاب الكامل من الجولان مقابل سلام حقيقي مع سورية.
دخل بيل كلينتون، في كانون الثاني يناير 1993 البيت الأبيض ولديه مقاربة إستراتيجية لعملية السلام من شعبتين: الأولى: احتواء ثنائي للتهديدين الأمنيين المهمين، أي في العراق وإيران. والثانية: السعي لاستقرار قلب المنطقة عبر الترويج للسلام العربي - الإسرائيلي. وهذا جعل الإدارة الأمريكية تعطي الأولوية في سعيها لاختراق المسار السوري من عملية مدريد. لذلك إذا تمت، ستحرُم اتفاقية السلام السورية - الإسرائيلية والمقترنة بعلاقة جديدة بين واشنطن ودمشق إيران من وصولها إلى الشيعة في لبنان وستهمش نفوذها في المنطقة. كما أن الخيار السوري هو أبسط وأسهل، فهو صراع حول منطقة بين دولتين ذاتي سيادة، بالإضافة إلى أن حافظ الأسد هو رجل معروف بالتزامه باتفاقاته. وهذا كله سيكون له انعكاس على تهدئة الصراع بين حزب الله وإسرائيل وبالتالي الحدود اللبنانية - الإسرائيلية. وتجدر الإشارة إلى أن الأمريكيين ورابين أعربوا ضمنياً عن استعدادهم للقبول باستمرار الهيمنة السورية في لبنان.
المسار الإسرائيلي - السوري - الأمريكي
يمكن القول بأن عبارة "المسار الإسرائيلي - السوري" عبارة مضللة. فالواقع أنه، وخلال التسعينات، لم تحدث أية مفاوضات ثنائية بين إسرائيل وسورية، بل حدثت على صعيد ثلاثي؛ أي إسرائيل وسورية والولايات المتحدة. ولم يخف حافظ الأسد، وبالرغم من حماسته لاسترجاع الجولان، أنه مهتم بمخطط أكبر يضم علاقة جديدة مع الولايات المتحدة تعود على سورية بمنافع مباشرة وفيه أيضاً اعتراف أمريكي بموقع سورية الإقليمي.
فضل رابين في سنته الأولى من الحكم السعي في المسارين السوري والفلسطيني حتى تحقيق الاختراق الأول والاتفاق الأفضل. وفي آب أغسطس 1993 اخترقت قناة سرية بين إسرائيل ومنظمة التحرير المحادثات وحصل اتفاق تمهيدي في أوسلو. وقد حاول رابين جس نبض الأسد قبل إتمام اتفاق أوسلو لعله يحصل على تقدم سريع في المسار السوري. لكن خاب أمله م التوقيع على اتفاق أوسلو وتبني عملية السلام على المسار الفلسطيني.
أعاد هذا النمط السوري - الإسرائيلي؛ أي الرغبة بالرزمة الأكبر والإكثار من التحفظات والشروط، نفسه خلال ولايات شمعون بيريز وبنيامين نتنياهو وإيهود باراك لرئاسة الحكومة وفي طل إدارة كلينتون. كما تخلل تلك الفترة إنجاز مذكرة واي ريفير في سنة 1998 والتي هدفت إلى تطبيق الاتفاقية المؤقتة مع الفلسطينيي التي تمت سنة 1995. الواضح أنه لم يكن لدى السوريين والإسرائيليين الحماسة الكافية. ومن ناحية أخرى، لم يكن الأمريكيون حازمين في اللحظات الحاسمة.
لقد وضعت المفاوضات الإسرائيلية - السورية - الأمريكية الإطار العام لتسوية السلام الإسرائيلية - السورية؛ أي الانسحاب الكامل من الجولان مقابل سلام كامل يشمل التطبيع وترتيبات أمنية أخرى. لكن ما تجدر الإشارة إليه هو أن رابين لم يتعهد بالانسحاب من مرتفعات الجولان وإنما أعطى "وديعته" الشهيرة لوزير الخارجية الأمريكي وارن كريستوفر. وقد حاولت سورية أن تقوي "الوديعة" وتعتبرها منطلقاً لأي مفاوضات مقبلة، ولكن رؤساء الوزراء الذين تلوا رابين أعربوا عن عدم استعدادهم تجاوز "الوديعة" لتصبح التزاماً رسمياً إلا في حال كان هذا تتمة للصفقة. وهذا الموقف أزعج إدارة كلينتون. وتوالت حالات المد والجزر بين إسرائيل وسورية مما خلق توتراً بين إدارة كلينتون ورؤساء الوزراء الإسرائيليين الأربعة. فرابين تخلى عن المسار السوري في أوسلو وتابع مع الأوروبيين دون رضى الأمريكيين. أما بيريز فبتقديمه انتخابات 1996 علق محادثات واي بلانتيشين مما أعاق تقدمها. وبالنسبة لنتنياهو، فقد كانت محادثاته السرية مع الأسد مثيرة لحفيظة الأمريكيين الذين انتقدوا فيما بعد إيهود باراك لفشله في إتمام أي اتفاقية خلال مفاوضات شبردز تاون في سنة 2000.
ومن الجدير ذكره، أن المحادثات أدت إلى تأسيس علاقة فعالة بين واشنطن ودمشق. فبالرغم من بقاء سورية على لائحة الإرهاب، تبادل الرؤساء كلينتون والأسد الزيارات. وكذلك فعل وزير خارجية سورية وسفيرها مع فريق السلام الأمريكي، ولكن مع فشل القمة الثانية بين اللأسد وكلينتون في جنيف 2000 تم إغلاق هذا الفصل من العلاقات السورية - الأمريكية. كما تضاعف أثر هذا الفشل بحصول تطورين:
الأول: انسحاب الإسرائيليين من جنوب لبنان مما أسقط من يد السوريين ورقة التهديد في جنوب لبنان.
الثاني: اندلاع الانتفاضة الثانية في تشرين الأول أوكتوبر 2000 مما ركز الاهتمام الإقليمي والعالمي على الشأن الفلسطيني. وبالرغم من خطف حزب الله لثلاثة جنود إلا أن باراك فضل إبقاء الحدود الشمالية هادئة وذلك لما يعانيه على صعيد جبهتي الانتفاضة والصدامات مع العرب الإسرائيليين.
هوامش :
1. إيتامار رابينوفيتش هو رئيس جامعة تل أبيب للسنة الثامنة على التوالي، وزميل بارز زائر في مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط. عمل رابينوفيتش سفيراً لإسرائيل في الولايات المتحدة بين 1992-1996 ومفاوضاً رئيسياً مع سورية أيضاً. يرأس العديد من المجالس الأكاديمية. وهو عضو في المجلس الاستشاري العالمي لمؤسسة بروكينغز. حصل على العديد من الجوائز ولديه الكثير من الإصدارات وآخرها كتاب "المشهد من دمشق: الدولة والمجتمع السياسي والعلاقات الخارجية في سورية القرن العشرين".
إيتامار رابينوفيتش
المصدر: ورقة تحليل رقم 19 الصادرة عن مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط في معهد بروكيغز
مركز المعطيات والدراسات الاستراتيجية