القوة مخرجا
بعدما اسننفدت امرأة كافة الحيل في تهذيب طفلها، وباءت كل محاولاتها لإعادته إلى جادة الصواب بالفشل، قررت أن تلجأ إلى الحكيم ديوجين طلبا للنصح، فما كان من الرجل ذي اللحية الكثة والعينين الزائغتين إلا أن قام من مقامه وحدق فيها قليلا وصفعها صفعة شديدة أدمت خدها الأسيل.
لا تصلح مكبرات الصوت أحيانا لإصلاح ما أفسدته السياسة .. هكذا يقول ديوجين. وأمام منعطفات التاريخ الخطرة، تحتاج الشعوب إلى من يجمع شتاتها بكف يلملم ما تبقى في مفاصلها من عافية . لكن العبرة تبقى باللكمات لا بالكلمات .. هكذا يقول الحجاج بن يوسف الثقفي، والقانون صنيعة الأقوياء .. هكذا تصدر أمريكا فتاواها الفوضوية إلى عالمنا المشحون بالكراهية.
ذات تاريخ، عاد موسى من لقاء ربه غضبان أسِفا ليمسك بلحية أخيه ورأسه لأن هارون وضع الكلام موضع السيف، فضلت خراف بني إسرائيل وتخلت عن الكليم لتسجد لإله الشهوة وتعبد عجل الذهب. هكذا تفرق الكلمات اللينة والموعظة الحسنة من كان في قلبه مثقال ذرة من زيغ. وهكذا تُحرف الكلمات عن مواضعها لتلقى في مكبات الفتن فتؤجج المشاعر وتطيح بسلطان الذاكرة.
لهذا لم يؤمن النمرود بعد سقوطه في حمأة اللجاج بعدما عجز عجزا فاضحا عن إثبات ألوهيته المفتراة بالحجة، بل ازداد طغيانه وظلمه، وأصر على لف حبل الكلمات الطيبات حول معصمي نبي الله إبراهيم ليلقيه فوق كومة حطب يابس ويشعل فيه النار.
السيف أصدق أنباء من المقابلات الفارغة والمؤتمرات الباذخة، وحين تفشل ترع الشهوات في الالتقاء عند نهر وطن مهدد بالجفاف من كل مصب، تقف الكلمات عاجزة عن الحسم، ولا يتبقى أمام المولعين بالخصام إلا الدخول طوعا أو كرها في عصمة الوطن.
لم يبق إلا السيف إذن أيها الحجاج بن يوسف بعد أن شقت عصا الطاعة على التاريخ ونصبت الطواطم في ميادين الشقاق ولامست الشفاه الغليظة نفير حرب أهلية توشك – معاذ الله – أن تقع. ففي سوق الكلام، تباع كل القيم ويأكل كافة الفرقاء السياسيين بأثدائهم، وتخرج النخب عارية تطوف بأرجاء أنانيها المفرطة حجا وعمرة، ولا يتبقى إلا القوة مخرجا محتملا من واقع منقسم على ذاته.
في بلاد خرجت على أبجديات المعتقد والتاريخ والمنطق رافعة راياتها السود عند الميادين وخواصر المدن.السيف أصدق أنباء من التحذير والتسويف حتى تعود حناجر نعيق غربان الكلِم إلى عصمة معتصم وعصمة دماء وحرمات وعقائد.
اليوم نقف على أعتاب الفشل الكبير أنتصر زيد أو فاز عمرو. ففي نصر أيهما هزيمة لوطن ظل بعافية على مدى آلاف السنوات العجاف قبل أن تسقط شرعية الأخوة لتحل محلها شرعية التكفير.
أعمل سيفك أيها العبسي في الخارجين على قانون الإنسانية والمبشرين بالعنف. ولا تأخذك بدعاة الفتن الواقفين على يمين الوطن وشماله رأفة ولا شفقة. ولا تنصت لأراجيفهم ولا تسمع لزيفهم، فكل الخارجين على وحدة التراب سواء، وكل المروجين لبضاعة الكراهية والدماء ملة واحدة. لا تنتظر نشوب الحرائق لتتحرك، لأنه ليس لديك من عمال الإطفاء ما يكفي لإخماد حريق بحجم هذا الوطن، ولن يكفي عمال نظافة ما بعد الحرب لتطهير ساحاتها من حجارة الكراهية ومولوتوف البغض.
أعترف أنني لم أكن يوما معك، و أنني ضد صهيلك السلطوي . لكنني اليوم مضطر للقبول بسيفك المسلول ونجومك اللامعة، ومضطر أن أجر منطقي القديم الذي ظللت عمرا مخلصا له من قفا الطرقات لأفسح المجال لخيلك ورجلك ليعيدوا خرافك الضالة إلى حظيرة العقل بعد أن صارت القوة مصدرا وحيدا للحسم، وبعد أن فقدت الشعارات براءتها وبوصلتها وضل بحارة الوطن مرافئهم.