
الحرية ليست هناك
لم أنتم يوما لميدان ولم أصطف أبدا وراء حشد، وكنت أرى نفسي صغيرا كلما وجدتني رقما مجهولا في طابور حاجة لا أرى فيه أمامي غير مسبحة ممتدة من الرؤوس المنبعجة تسد عني رحابة الأفق. كنت أرى الانتماء للفكرة وأد غير مشروع للحرية، وكنت أتعامل مع الأفكار كما تتعامل لجان الرقابة الغذائية مع السلع، فما صلح منها استبقيته، وما انتهت صلاحيته ألقيته في سلة المهملات دون أسف على ما أنفقته من ليال طوال.
ظللت أبحث طوال عمري عن أطلال حرية أستفيء بظلها وأرعى في مروجها وأقف درويشا على أعتابها، وحين انفتحت أمامي كوة فجأة، رأيت عشاق الحرية من كل لون يصدحون بتراتيل الثورة وينشدون أناشيدها، فخلعت نعلي قبل أن أدخل ميدانها الفسيح تاركا ورائي تراثا من الاستقلالية غير قليل. وقنعت بتقبيل العلم وتقبيل الرؤوس المتناثرة هناك وكأنني عائذ بأستار الحرية من وثنية التبعية التي ورثها أهلونا كابرا عن كابر.
كنت أردد أشعار المبتهلين هناك وكأنها فرائد نظم مقدس، وأستمع إلى منظري الثورة بعين شاخصة وقلب مخلوع، وكأنني في محراب حقيقة لا تقبل النقض أو المداولة. وشيئا فشيئا، تخليت عني، وصرت خزان وقود مليء بكافة أنواع المتفجرات الذهنية، قادرا على هزيمة أي متبار في ميادين اللجاج، وكنت كمتيم ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار تنسكا لحرية ولدت بعد معاناة .
ومرت الأيام، وتواترت الأحداث بسرعة مريبة، وفجأة، انتبهت لأصوات أخرى قادمة من مكان آخر، فسألت من حولي من الطائفين حول تماثيل الشمع هناك، وعلمت أن أصواتا أخرى تهفو للحرية وللحياة .
مررت عليهم سريعا ’رأيت هناك نفرا ممن كانوا معنا، وعرفتهم بسيماهم، وسمعتهم يرددون الأناشيد ذاتها، ويهفون لوطن عزيز حر، فعدت سريعا إلى المكان الأول، وناديت الواقفين بين الحجيج هناك أن الواقفين في المكان الآخر أقوام أمثالكم ,فقراء مثلكم يزأرون كما تزأرون، ويهتفون كما تهتفون، وينشدون الحرية التي خرجتم لأجلها ، فناداني صوت من بعيد أن هؤلاء قوم مُبعدون، لأنهم تنكروا لآلهتنا وانفضوا عنها وصافحوا أئمة الفسق الذين أفسدوا وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون.
عندها قررت التكفير عن ظن السوء ، وخلعت نعلي وبدأت الطواف حول المبادئ القديمة، لكنني لمحت في إحدى الزوايا رأسا أنكرته، وبعد الجولة الأولى من السعي رأيت وجوها أخرى. وأخرى وأخرى…عندها تسمرت قدماي ، وصهلت بأعلى صوتي مناديا رفاق الحرية ليروا بأعينهم كيف تحول المكان إلى بازار على مستوى الوطن، وكيف أنهم متورطون حتى النخاع في عبادة مزيفة، لأنهم يحجون إلى نفس القبلة التي يلوي لها المفسدون أعناقهم،ويمارسون ذات الطقوس. فناداني أحدهم أن الثورة تحتاج إلى بعض التجاوزات والتحالفات كي تنجح، وأنه على الباغي تدور الدوائر. فسألته دهشا: “على من تثور الميادين في بلاد ما وراء الثورات إذن؟” لكنه آثر الصمت وأكمل الطواف.
عندها خلعت ثياب التمرد وألقيتها خلف الصارية ، ولبست ثوبي الذي كدت أنساه وراء المنصة التي خرجت على صواريها هناك. وعدت محزونا إلى رأسي القديمة لأمارس شعائر الحرية والليبرالية في فسحة من الوعي. وكفرت بالميادين كافة لأنها تشتري رؤوسنا ببعض التعاويذ لتتاجر في جماجمنا النخرة بعد تحولها إلى فوهات عظمية خاوية.