
بورباكي-2: نشوء التنظيم السري.
قام فيل بدعوة ثمانية من أصدقائه -إذن كان المجموع تسعة رياضيين- من
خريجي النورمال لاجتماع خلال شهر تموز (يوليو) للعام 1935 بهدف التخطيط
للعمل المطلوب. لن أذكر كل الأسماء -خصوصا و أن البعض منهم سرعان ما
ترك العصابة، فقط سأذكر أن فيل كان يلعب دور القائد -من دون مبالغة: هم
جميعا كانوا من الرياضيين العظام-، و كارتان هو من سهل لهم نشر
موضوعاتهم العلمية لأن والده كان عضوا في الجمعية الفرنسية للعلوم، و
أخيرا سأذكر اسم جان ديودونيه لأنه كان أشدهم إنتاجا، و كان أشدهم
بذاءة لسان: يا ويل ويل من كان يرتكب خطأ (رياضيا) بحضور ديودونيه
.
سرعان ما اتضحت خطة العمل: كتابة منهاج في التحليل الرياضي يقوم على
مبدأ التبسيط المطلق -بمعنى: التخلي عن الفرضيات التي لا تلزم- و يتم
بناؤه بشكل منطقي صارم، من المقدمات باتجاه النتائج…
لكن سرعان ما ظهرت مشكلة بسيطة: التحليل الرياضي لا يقف معلقا في
الهواء، لكنه يستند لمجموعة علوم رياضية أخرى، أهمها نظرية
المجموعات… إذن؟ ما الحل؟
فتقرر أن يتم البناء كما يلي: مقدمة تشمل “المنطلقات النظرية” تتضمن
مبادئ نظرية المجموعات و ما يلزم من الجبر و الهندسة، ثم المنهاج بحد
ذاته، و بحيث يكون المجموع يتراوح بين 1000 إلى 1500 صفحة، لا أكثر…
إذن تشكلت المنظمة… لكن لم السرية؟
السرية كانت ناتجة من طريقة عملهم: فحين كانوا يقررون كتابة فصل ما،
كانوا يعطونه لواحد منهم ثم يجتمعون بعد عدة شهور فيقرؤون ما كتبه، و
ينهالون عليه بالنقد، لا بل بالشتائم أحيانا، و يروحون يسجلون
اعتراضاتهم، ثم في النهاية يعطون العمل لشخص آخر، و يطالبونه بأن يصححه
بناء على ملاحظاتهم، و طبعا بعد عدة شهور يكون دوره هو كي يتلقى النقد
و الشتائم، و يتابعون حتى يحصلوا على نسخة متفق عليها بالإجماع…
فيكون الكتاب بذلك نتيجة عمل جماعي… فلا يجوز طبعا أن يكتبوا اسم
واحد منهم… لكن و بملاحظة أنه كان هناك دائما أعضاء يرحلون و أعضاء
يأتون… فهل يعني سيكتبون اسم كل من ساهم و عبر؟ يعني عشرين اسما
مثلا؟ طبعا لا!
فاتفقوا أن يكتبوا تحت اسم مستعار، و سرعان ما اتفقوا أن يكون
“بورباكي”، انطلاقا من المزحة الشهيرة من ايام دراستهم…
لكن سرعان ما أعجبتهم لعبة السرية، و في الحقيقة السرية كانت ملائمة
لنوع العمل الذي يمارسونه: ذلك أن أول كتاب نشروه كان عام… 1954!
يعني بعد 19 عاما من تأسيس عصابتهم… فبدون السرية كان الضغط الإعلامي
عليهم سيمنعهم و بكل تأكيد من إنجاز عملهم…
طيب يعني فهمنا القضية: مجموعة رياضيين اجتمعوا و قرروا أن يكتبوا
كتابا في التحليل الرياضي، ثم لم يخبروا بذلك أيا كان، فأين القضية؟
يعني شو هالشغلة؟ و لماذا هذا الحديث الفارغ عن “فضلهم” المزعوم على
طلاب سوريا؟
هذا ما سأحاول الإجابة عنه في الحلقات المقبلة… فلي عودة، بل
عودات…
ملحق:
في مقال سابق كتبت أن كتب الرياضيات الفرنساوية في مطلع القرن العشرين
كانت تعاني من مشكلتين هما:
”
– أولاهما: الإبتعاد عن الحالات العامة، السهلة، الواضحة و التركيز على
كل حالة خاصة على حدة…
– و منه ثانيتهما: الإمعان في التكرار: فالنظرية الواحدة كانت تكرر عدة
مرات، وفقا لعدد الحالات الخاصة…”
و زعمت أن الحل هو:
”
كتابة منهاج في التحليل الرياضي يقوم على مبدأ التبسيط المطلق -بمعنى:
التخلي عن الفرضيات التي لا تلزم- و يتم بناؤه بشكل منطقي صارم، من
المقدمات باتجاه النتائج…”
لإيضاح ذلك سألجأ لمثال يعرفه الجميع: لقد قال سقراط “كل إنسان فان”
(أو يزعمون أن سقراط هو القائل، مش مهم)..
جملة سقراط صحيحة، لا غبار عليها…
لكن تخيل معي لو أن سقراط قال: “كل إنسان أشقر فان”…
هذه الجملة أيضا صحيحة، و لا غبار عليها سوى أنها… تأخذ حالة خاصة:
حالة الشقر!
فهي تبتعد عن الحالة العامة (كل إنسان فان)… و منه فكي نصل لمستوى
المعرفة الذي تعطينا إياه الحالة العامة يتوجب علينا أن نكرر:
كل إنسان أسمر فان… كل إنسان ذو شعر أحمر فان… كل إنسان أبرص
فان… كل إنسان أسود فان… إلخ و لا نخلص!
فبذلك تتضح المشكلتان: مشكلة الحالات الخاصة و مشكلة التكرار…
و الحل؟ الحل بالتخلص من الشرط غير اللازم: لون الشعر، يعني أن نقول
ببساطة:
كل إنسان، أيا كان لون شعره، فان.
و هذا يكافئ قولنا: كل إنسان فان…
أخيرا، فيما يخص البناء المنطقي الصارم فقد تحدثت عنه حين تحدثت عن
شروط أفلاطون لإنشاء الهندسة، و هي شروط صالحة لكل أنواع البناء
المنطقي…
*هذه المقالة هي جزء من مجموعة مقالات كان قد زوّدنا بها بها الكاتب الراحل عمرو الخيّر (1965-2009)
.وقد ضاع الأصل لمدة إلى أن عثرنا على نسخ منها في محفوظاتنا القديمة وسوف تنشر تباعا ..لقيمتها أولا ووفاء للكاتب الصديق معتذرين عن هذا الـتأخر الطويل …