
لينا التي …
هنا، يتساقط ثلج خفيف يجبرني على الابتسام وأنا أمر بباب بيتها، أو البيت الذي كان بيت لينا، غير بعيد من هنا سقطت لينا أخرى وما زال دمها حسب أقوال الشاعر يغني رغم أن الغناء في جو المدينة الحالي هو بأحسن الأحوال غير مستحسن
في مكان قريب أيضا (باعتبار أن كل الأماكن قريبة في مدينتنا) ترقد شادية أبو غزالة* في قبر مهمل يتوارى بين أشجار المقبرة (عثرت عليه أو عثرت به ذات مرة صدفة أثناء هروب عبر المقبرة) على مبعدة من تجمع قبور الشهداء فتنساه الأكاليل ويفوته المهرجان الخطابي الذي تتقاسمه التنظيمات يوم العيد، وما زال بالإمكان تبين نقش العلم الفلسطيني الصغير الذي زينه يوم كان هذا العلم تهمة يعاقب عليها القانون (قبل أن نطفح به بهذا الشكل الفج في كل وثائق السلطة ومهرجانات المبايعة)، وبقايا عبارات نقشت على الحجر
أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح
…….
يعيدني البياض إلى يوم ثلجي آخر عرفته مدينتنا
كانت أول أيام 1992، وأول مرة يرى فيها أبناء جيلي الثلج يغمر المدينة، فقمنا بتقليد ما كنا نعرفه فقط عبر شاشات التلفاز، فتتطاير الكرات الثلجية في معاركنا السلمية (النادرة في تلك الأعوام)، ونحتار في كيفية بناء رجل ثلج، وكان جنود الاحتلال أيضا فرحين بالثلوج فباتوا أكثر أريحية فاستغللنا الموقف وتجرأنا على الالتفاح بالكوفية دون خوف من كسر أحد الأطراف وطبعا كان هذا التجوال الحر بالكوفية دافعا أقوى لالتقاط الصور من الثلج نفسه
يومها التقطت لها، غصبا، الصورة اليتيمة التي تختفي أحيانا فلا أجدها عندما أبحث عنها في مطاردة للذكريات، أو أجد أثناء البحث صورا أخرى تنكأ بدورها أجزاء أخرى من الذاكرة، لتعود تلك الصورة بالذات وتفاجئني في موضع وزمان آخرين فتنفض غبار النسيان وتنكأ جرح العار
لينا كانت أشجعنا في تلك الأعوام التي تبدو في الذاكرة كلها شتوية، ربما لأن رائحة الكوفيات الرطبة التي خبّأناها في المزاريب وفتحات الجدران وبللها المطر، ورائحة المطر عندما يختلط بدخان الإطارات المشتعلة والغاز المسيل للدموع تعلق لمدة أطول بالألبسة، وبالذاكرة
عينيّ لينا التي كانت آخر من يهرب عندما نختار هدفا سهلا كسيارة الجيب الثلاثي المكشوف (الصرصور)** فتفاجئنا دورية المشاة، فلا تدير ظهرها قبل أن تستقبلهم بحجر أو اثنين
لينا التي،
لينا التي ما كادت تكتمل أنوثتها وينمو ثدياها حتى انقضت عليها وتناهشتها “الفهود السود” و”النسور الحمر”، ولم نلاحظ نحن السذّج ابتعادها التدريجي عن عالمنا البريء، ربما لانشغالنا بمراقبة كل شيء وتسليم التقارير الأمنية والأخلاقية، للفهود وللنسور
ربط والدها جدائلها الشقراء بقضبان النافذة وانهال عليها لكما وصفعا، وتم (حسب ما قيل) تزويجها لقريب يعمل في السعودية، وطويت صفحتها، عائليا
ونحن؟ نحن خذلناها. لم نعد نتكلم عنها، وبقي القادة هم القادة، وواصلنا تنفيذ أوامر الفهود والنسور، ولم أعد أتمهل في السير عندما أقترب من باب بيتها (كما كنت أفعل طيلة السنين السابقة أملا بأن تكون على العتبة أو في الفناء فأحادثها قليلا)، وخبّأت الصورة في مكان بعيد عن عينيّ أمّي وأيدي أخوتي الصغار
ومرّت التسعينيات والأصفار، وازداد المكان كآبة
الفهود والنسور السابقون يجوبون اليوم شوارع الوطن الذي لم يتحرر في زي رجال الشرطة والأمن، و بجيباتهم التي ترفرف عليها أعلام ضخمة رباعية الألوان لا تذكرني بأعلام تلك الأيام، ومذياعها يبثّ أغاني غريبة، ويرتدون نظاراتهم السوداء ويقبضون أيضا على بنادق الكلايشنيكوف
أما لينا التي تفاجئني دوريا عبر صورتها أو مع أولى طلائع الثلج، فقد ترقد مقطوعة الرأس في قبر مجهول في مكان ما، أو على الأغلب تحت زوجها أيا كان، يهرب إلى حرارة جسدها من رطوبة المكان الخانقة، وربّما تهرب هي من الرطوبة، ومن جسدها، إلى ذكريات أيام المطر
أنظر إلى الثلج يغطي بالتدريج شجرة الصنوبر المقابلة، وأتذكر الانكسار العقائدي الأول
*
كان الجيب الصغير المكشوف ذو العساكر الثلاثة هدفا سهلا باعتبار سهولة الهرب، حيث يستحيل أن يلاحقك جندي بمفرده، كما لا يمكن أن يلاحقك اثنان تاركين الثالث لحماية السيّارة لوحده، على عكس العربات الكبيرة التي قد يخرج منها عدة جنود يمكنهم الركض خلفك إلى ما لا نهاية أو بالطبع دورية المشاة التي لا ترتبط بعربة وتتمتع بحرية حركة أكبر