
ما يشبه التجريف..
تُعوّد القراءة والكتابة المرء أن يضع من يحب في أرق وأرقى ما يملك من نص، وأن يمنح من للغير غير محب، من اللغة قوتها، ويعجن من أدوات ضعف الآخرين حجارة لبناء كرامتها على الأقل، ويزين من أشيائهم بيتا زخرفياً فقط يليق بهم، ولا يتسع لمن دونهم. القراءة والكتابة أيضاً، قد تعلمان البعض غير ذلك.
ورغم أن الأفكار لا تُناقش بالأشياء، والأشياء لا ينبري لها إلا أشخاص، والأشخاص لا يتصدى لهم إلا أمثالهم؛ إلا أن البعض لا يفرقون بين نقد الأفكار، والسخرية منها عند مقارنتها بأشياء. ففي الأولى تُناطح الفكرة فكرة، وفي الثانية تكون المقارنة قاصرة حين نقيس الأفكار ببعض نقود أو أكل وشرب.
فمثلا، قد تكتب ساخراً من ظاهرة أو موقف أو مشهد، – والسخرية باب أخير يمكن الدخول منه لقلوب الناس حين تستعصي المشكلات على الحلول، ويتحول الحديث عنها إلى نادرة سياسية تستبطن معارضة لأطرافها – فيرد عليك أحدهم، ما هكذا تعالج الظواهر الجدية، وعليك أن تهتم بأكلك وشربك وما تجمعه من نقود!
وكان أن كتبت الشهر الماضي عن آخر صيحات الانقسام بين فتح الضفة وحماس غزة فقلت: الفلسطينيون يحملون في أيديهم ساعتين.. واحدة لفتح وأخرى لحماس! ، ساخراً بألم من الانقسام على ضبط الساعة بين الضفة الغربية وقطاع غزة. وكتبت سابقاً عن غزة بقلبي فقلت: غزة تنشد حباً فترى حرباً ، ثم كتبت عنها بعقلي حين قلت: حماس اليوم ، و فتح وفسادها . وهذه كلها أفكار، يستحيل نقدها بالحديث عن أشياء سبق ذكرها، وشخصنة ليس لها محل من الإعراب في أدبيات النقاش.
أقول ذلك مقدراً أن غزة تعيش روحاً داخل أهلها ممن يعيشون خارجها جسداً، لكن كثيراً منهم، خصوصاً من لم يطؤها أبداً، يسومهم الإعلام يومياً سوء العذاب المعلوماتي، يُذبّح أفكارهم، ويستحي عقولهم، ويأسر عواطفهم.. بكلمات وبعض صور. رغم ذلك، نتفهم سخريتهم من أفكارنا عندما يقيسونها بأشيائهم، ونغفر لهم دعواتهم المتكررة لنا بـ الصمود ، وكأن أهلها الأصليين يفعلون غير ذلك!
إبحار في الأشياء..
وطالما أن البعض لا يفقهون إلا لغة الأشياء فسأناقش فيها، لأرى إن كنت أجيد هذا الشيء الذي لا أحبه أصلاً، ولأجرب إن كنت أجيد التعامل مع أشيائكم أم لا، أقله في صياغة نص عنها، وليكن الحوار باللغة التي تفهمون: الأشياء وأخواتها.
لنستبدل مثلاً فلسطينياً ولد في إحدى الدول الأوروبية أو الخليجية، بآخر لم يغادر غزة أبداً، ولنختبر الصمود. طفل نبت في غزة، ترى هل سيكون بذات الصحة والعافية وحتى البياض، لو ولد لأبويين فلسطينيين عاشا ردحاً من الزمن – على الأقل – في أوروبا أو إحدى الدول النفطية؟ هل سيرى الأخير مع أولى خطواته إلى الشارع مسلحاً وتكون أولى كلماته رصاص و طخ وصواريخ ؟ هل يحتمل النوم يومياً على صوت الطائرات الهادرة التي لا تغادر السماء؟ هل يستطيع أن يتعايش مع أصوات القصف المدفعي الذي يبقيه مثل الملسوع طيلة يومه؟ هل سنقضمه له كي لا يتبول لاإرادياً خوفاً من أصوات الانفجارات المتكررة؟ هل ستلاحقه مشاهد الرعب يومياً حتى في أحلامه؟
وفي الأشياء، نسأل أصحابها، هل يقوى أحدكم على العيش دون كهرباء نصف ساعة، إذ يشتاق الناس في غزة إليها في اليوم ولو لسويعات؟ تصحو من النوم، فتجد الماء مقطوعة، الآن هل يمكنك تخيل جدول أعمالك في ذلك اليوم؟ يتألم طفلك، فلا تجد له علاجاً في أي مستشفى. يئن والدك العجوز فيتأسف لك أصحاب كل صيدليات غزة عن عدم وجود دواء لمرضه على أرففها. يدخل صديق لك مستشفى لإجراء عملية بسيطة، استئصال الزائدة مثلاً، فتترحم عليه مسبقاً لأن العملية ستجرى بطرق وأدوات بدائية جداً بسبب نقص المعدات. ثم تكتفون بالتراتيل تحسراً علينا، وكأنها خُلقت لشرح معاناتنا والتباكي علينا، تتبعونها بدروس لنا عن الصمود، وكأن ما سبق من مشاهد وغيرها مظاهر ترف.
غزة لم نقرأ عنها، ولم نشاهدها من وراء شاشات البلازما السينمائية، بينما تجلسون أنتم على فرش وثيرة، وتلسع جلودكم الناصعة وأظافركم البراقة حرارة مدافئ الشتاء، وتقرصكم لذة مكيفات الهواء المنعشة صيفاً. قد يقول أحدكم، علينا أن تلوم الاحتلال، لا أن نجلد ذواتنا؟ هذه صحيح، لكنه نصف الحقيقة، فقد كرّسنا احتلالنا بأيدينا، فبتنا محتلين مرتين: إسرائيل ومن تحكمه إسرائيل، ثم عززناه بثالث: انقسام مقيت، يعترف القادة المنقسمون أن الاحتلال المستفيد الأول والأخير منه، ولا يعملون بما يقولون.
من وحي المخيمات
ميزة أبناء المخيمات الذين لم يولدوا وفي أفوههم ملاعق من ذهب، يرون في أي خطوة يخطونها إنجاراً لا يتوانون للحظة في إخراج كل ذخائرهم بصدق وصراحة للدفاع عنها، حتى وإن بدت في نظر الآخرين تافهة. لهذا السبب، فقد آثرت أن تكون هذه الرسالة علنية في قضية يتسلح بها أي أبناء من المخيمات بكل أدوات النصر اللازمة لها مبكراً.
السؤال الآن: هل يتحلى الخصوم بنفس الجرأة؟ وهل لديهم القدرة على المواجهة بذات الأدوات: الكتابة وسلاحها القلم، لا الأشياء والشخوص؟ فالكتابة هي واحدة من هذه الساحات التي يكتشفها أبناء الأزقة الضيقة مبكراً، ويجيدون خوض غمارها، إن ليس لشيء، فإنه انتصار لأنفسهم وللآخرين ممن فقدوا الكلام وبلعوا ألسنتهم ظلماً، وحرموا حق التعبير عن ذواتهم.
وهؤلاء – أبناء المخيمات – يعلنون أن ليس لديهم ما يخسروه، ويتحلون بجرأة لا يندمون معها على كل كلمة يقولونها أو يكتبونها في صحائفهم، ولا يخجلون أو يملون عند سرد تفاصيل مشاهدها. صحيح أنهم قصار القامات، إلا أن إجبارهم على الدخول في معركة نقاش الأشياء لن يزيدها أو ينقصها مليمتراً واحداً.
سأنشر هذا المقال على فيسبوك، وكل تعليق يصلني عبر الايميل أو أي وسيلة أخرى سأنشره ممهوراً باسم صاحبه تعليقاً عليه، لأختبر نفسي إن كنت أجيد مناقشة الأشياء.
دبي
9 أكتوبر 2011