
هل أصبحنا عبيد ثقافة الإستهلاك؟
مع حلول شهر رمضان، يراودني تساؤل يتكرر كل عام: كيف يتوافق السلوك الاستهلاكي في هذا الشهر الكريم، الذي يُفترض أن يكون شهر العبادة والتقوى والشعور بالفقراء والاكتفاء بالقليل، مع ما نشهده من إفراط في الإتفاق على الطعام والشراب، واحتفالات هنا وولائم هناك، وهدر يزيد النفقات الشهرية المعتادة لتصل إلى مستويات تتجاوز ضعف المعدلات المعتادة؟ .
نعم، لقد تحول رمضان، لدى كثيرين، إلى شهر الاستهلاك المفرط والمظاهر الباذخة بدلًا من أن يكون شهر الاعتدال والزهد والتقشف والتكاتف الإنساني في أقوى وأجمل صوره.
ولا يقتصر هذا السلوك على رمضان فحسب، بل يمتد إلى العديد من المناسبات الوطنية والاجتماعية والشخصية، حيث يُنظر إلى الإسراف والبذخ على أنه تعبير عن الفرح والتقدير، وكأن قيمة المناسبة تُقاس بحجم الإنفاق، وحتى المناسبات العائلية باتت تخضع لنفس المنطق، حيث أصبحت التكاليف الباهظة والتباهي جزءًا أساسيًا منها، في سباق غير مبرر للإنفاق والإسراف.
في الماضي، كان الناس يشترون ما يحتاجونه فقط، ويحرصون على استخدامه حتى أقصى حد ممكن. أما اليوم، فقد أصبح الشراء هدفًا بحد ذاته، حيث يتم استبدال الأشياء بأحدث الطرازات قبل أن تستهلك فعليًا. سواء كان ذلك في الملابس، السيارات، أو الأجهزة الإلكترونية، لقد تحول أفراد المجتمع إلى أسرى لنمط استهلاكي لا ينتهي، وكأن شعار العصر أصبح: “ما أجمل الجديد، ما أجمل الشراء”.
نعم، تحول الاستهلاك والبذخ إلى وسيلة للتفاخر والتباهي وإظهار المكانة الاجتماعية. فكثيرون يشترون أشياء لا يحتاجونها، فقط لإبهار الآخرين أو لمجاراة المعايير الاجتماعية المستجدة. أصبح امتلاك سيارة فاخرة أو هاتف حديث أو عطر باهظ الثمن أو إقامة الحفلات والولائم معيارًا للنجاح، حتى لو كان ذلك على حساب الراحة المالية والاستقرار المعيشي للأسرة.
لقد أسهمت وسائل التواصل والإعلام الاجتماعي في تعميق هذه الظاهرة، وانتشارها، حيث أضحت منصات لعرض الممتلكات والحفلات والمناسبات والتفاخر بها، مما يخلق ضغوطًا اجتماعية تدفع الآخرين لاسيما الشباب لمجاراة هذا النمط، حتى لو لم يكن ضروريًا لهم. وهكذا، ينشأ شكل من النفاق الاجتماعي، يختبئ فيه الناس خلف قناع من الاستهلاك الزائف، تمامًا كما هو الحال في الاستخدام المفرط للمستحضرات والإجراءات التجميلية التي تنتهي غالبًا بمضاعفات صحية وخسائر مالية دون جدوى حقيقية، رغم أن الإنفاق عليها في مجتمعاتنا كما تفيد التقديرات تجاوز عشرات المليارات من الدولارات سنوياً.
تتجلى أهم الآثار السلبية لهذا النمط الاستهلاكي في تراجع القيم الحقيقية الاجتماعية مثل البساطة والرضا، وتقدير العلاقات الإنسانية والعائلية لصالح أمراض حب الظهور والبذخ والاستعراض. لقد تحوّل المجتمع إلى مستهلك غير واعٍ، يقيّم الأفراد بناءً على ما يملكون وليس على قيمتهم وقيمهم الإنسانية الحقيقية.
للأسف، يعتقد البعض أن امتلاك المزيد من الأشياء يجلب المزيد من السعادة، لكن الدراسات تؤكد أن زيادة الاستهلاك لا تعني بالضرورة تحسن جودة الحياة، فمع كل شراء جديد، يتلاشى الشعور بالفرح والمتعة بسرعة، ليبدأ سباق جديد نحو استهلاك المزيد، والمزيد فيما يشبه إدمان الشراء. وهكذا، يتحول الإنسان إلى خادم لنزعة استهلاكية لا تنتهي، سرعان ما تنتقل إلى باقي حاجات الإنسان وسلوكه، وتؤثر بدورها على المجتمعات، خاصة في قدرتها على تحقيق التوازن بين الرفاهية والقيم، والاستدامة.
ولأنها قضية اجتماعية مجتمعية، لا يقتصر الحل على الأفراد فقط، بل هو أيضًا مسؤولية المجتمع والدولة. فالاستهلاك المفرط هو نتيجة سياسات اقتصادية وإعلامية وتسويقية وعادات تشجع على الشراء بلا وعي ومسؤولية، لذا، يجب أن تضع الحكومات معايير للاستهلاك الرشيد، وتحدّ من تأثير الإعلانات المضللة، وتواصل الرصد والتحليل والتقييم، وتوجه المجتمع نحو الاستهلاك المسؤول من خلال حملات منظمة بدلًا من ثقافة “اشترِ وارمِ”. كما أن تعزيز التربية المالية والاستهلاكية في المدارس يمكن أن يساعد الأجيال القادمة على اتخاذ قرارات أكثر حكمة، كذلك دعم وتشجيع منظمات المجتمع المدني للقيام بدورها المنشود في هذا المجال، وتعزيز الاستهلاك المسؤول، وأعتقد أن دورها لا يزال دون المطلوب ويحتاج إلى المزيد من الدعم.
في هذه العجالة، لابد من العودة إلى بعض المسلمات، فالإسراف هو صرف الشيء فيما لا ينبغي، زائدًا على ما ينبغي، وفي الوقت الذي يصاب فيه ملايين البشر بالسمنة، ويهدر فيه نحو ثلث الأغذية، يعاني أكثر من مليار نسمة من الفقر المدقع والجوع!
ووفقًا لإحصائيات الأمم المتحدة المتعلقة بهدر الأغذية على سبيل المثال:
• يُهدر العالم أو يُفقد حوالي ثلث الطعام المنتج للاستهلاك الآدمي سنويًا، أي ما يقارب 1.3 مليار طن.
• في الدول الغنية، يهدر المستهلكون نحو 222 مليون طن من الطعام، أي ما يعادل تقريبًا الإنتاج السنوي لمنطقة جنوب الصحراء الكبرى (230 مليون طن).
• الهدر الغذائي يتسبب أيضاً في فقدان هائل للموارد، بما في ذلك المياه، الأراضي، الطاقة، والعمالة، بالإضافة إلى انبعاث الغازات الدفيئة التي تؤدي إلى تغير المناخ.
• في الولايات المتحدة، تُلقى 30% من الأغذية في النفايات سنويًا، بقيمة تصل إلى 48 مليار دولار.
وللأسف هناك الكثير من هذه الأمثلة في بعض مجتمعاتنا العربية.
ولابد من التذكير أن هدر الأغذية لا يضر بمصالح الفقراء فقط، بل ينعكس سلبًا على اقتصادات الدول أيضًا. فتقدّر تكاليف هدر الطعام عالميًا بنحو 750 مليار دولار سنويًا.
ومن الأضرار الاقتصادية الأخرى للاستهلاك الزائد:
• تكاليف علاج الأمراض المرتبطة بالسمنة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم، وأمراض المفاصل وغيرها والتي تصل إلى مليارات الدولارات سنويًا. فعلى سبيل المثال، تنفق الولايات المتحدة أكثر من 150 مليار دولار سنويًا على علاج السمنة.
وعلى طريق التغيير، يلعب المربون والقادة الاجتماعيون والنخبة المجتمعية دورًا أساسيًا في توجيه المجتمع نحو الاستهلاك الواعي. فالمعلمون، على سبيل المثال، يمكنهم غرس ثقافة التوازن المالي عبر التعليم، بينما يعزز القادة الاجتماعيون والدينيون قيم الاعتدال وتجنب الإسراف. أما الإعلام والمثقفون، فبإمكانهم تسليط الضوء على مخاطر النزعة الاستهلاكية، والترويج لأنماط حياة أكثر استدامة.
كذلك الاستفادة من تجارب وعادات وتقاليد بعض مجتمعاتنا في ترسيخ القيم الاجتماعية الإيجابية ومحاربة مظاهر الترف والبذخ والاستهلاك ووضع القيم الإنسانية على رأس الأولويات، وأذكر في هذه العجالة بعض عادات وتقاليد البساطة ورفض البذخ أو حب الظهور والتباهي في بعض المجتمعات السودانية المحلية وغيرها مما يجدر بنا تسليط الضوء عليها وتعميمها.
ولا تزال بعض المنظمات العلمية والثقافية والدينية تقدم نموذجًا عمليًا في هذا المجال، إذ تشترط على العاملين فيها عدم استخدام الدرجة الأولى في الطائرات أو الفنادق والصالات والسيارات الفاخرة، حتى لا يظهروا بمظهر البذخ والترف أمام المجتمعات التي يخدمونها ويعملون معها. وعندما استفسرت عن سبب هذا النهج، كان الرد واضحًا: “لا نريد أن نُرى كمسرفين، بل كعاملين وشركاء بجد لإحداث تغيير حقيقي”.
من الجهود الناجحة أيضاً ما تقوم به الجمعيات المهنية وغيرها في مصر وفلسطين إذ تقيم المناسبات الناجحة والخدمات المميزة لأعضائها بشكل لائق دون هدر أو إسراف.
في النهاية، الاستهلاك بحد ذاته ليس مشكلة، لكن الإفراط فيه وتحويله إلى غاية بدلاً من وسيلة، هو ما يجعلنا نعيش في دائرة لا نهائية من الرغبات غير المشبعة.
حقاً، التغيير يبدأ بقرار فردي: أن نكون صادقين مع أنفسنا، وأن نستهلك بوعي، لا بإفراط.
إن تداعيات ثقافة الاستهلاك والإفراط لا تقتصر على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية فحسب، بل تمتد إلى صميم المنظومة القيمية الإنسانية، فهي تغيّر نظرتنا إلى النجاح، وتؤثر على طريقة تقييمنا للذات والآخرين، بل وتعيد تشكيل مفهوم السعادة الحقيقية التي نفتقدها في حياتنا. فالانغماس في دوامة الشراء والاستهلاك غير الواعي يحوّل الإنسان إلى كائن مدفوع بالرغبات التي لا تنتهي، لا بالاحتياجات الحقيقية، ويجعل المجتمعات أكثر سطحية، حيث تصبح القيمة الإنسانية مرهونة بالماديات بدلًا من الأخلاق والقيم والمواقف والعلاقات الحقيقية.
إن السعادة الحقيقية لا تكمن في امتلاك المزيد، بل في إيجاد التوازن بين الضروري والمبالغ فيه، واستعادة البساطة والبراءة التي تمنحنا الطمأنينة، واستثمار مواردنا لا لإبهار الآخرين، بل لتحقيق جودة حياة حقيقية تضمن لنا الاستدامة والرضا والتكافل. إن بناء ثقافة استهلاكية مسؤولة ليس مجرد خيار، بل مسؤولية فردية ومجتمعية، وضرورة أخلاقية وإنسانية لضمان مستقبل أكثر وعيًا وإنصافًا لنا وللأجيال القادمة.