
يا ولاد محارب
بعيد هو ذاك الزمان الذي ذهبنا فيه لآخر مرة إلى العيد ,حتى أنه لم يعد بالذاكرة..
والعيد في طفولتنا كان يعني لنا الملابس الجديدة, والعيدية,والحلويات المختلفة من السيوا إلى الغريّبة والمعمول
وفي الخارج المأكولات والمشروبات من مثل: الفولة والترمس,والهيلاطية , المخلل بزومه الأحمر..
وكان أول شيء نشتريه حال وصولنا إلى العيد هو أدوات الإرهاب ..من مسدس الإرهاب إلى فرودة الفلين والمسدس البكرة والطقطاق ..والفتيش .
ثم نعرج على الألعاب المنوعة وبعضها نوع من ألعاب القمار الصغيرة ,لعبة الثلاث ورقات والسحبات والأرقام,
وإذا كنت ماهرا في التصويب ببارودة الضغط وأصبت الهدف وهو عبارة عن عقب سيجارة تفوز بربع ليرة.
كان يعني لنا باختصار الانفلات من جميع النصائح والتعليمات الصارمة,وكان فسحة لممارسة الممنوعات
لنعود بعدها إلى الحياة الروتينية المملة بانتظار عيد آخر.
-2-
فيما مضى كان يقام العيد في ساحة جامع السلطان إبراهيم وفي الحديقة أمامه , حيث تنتصب المراجيح والقلابات
وأكشاك البيع المتنوعة..
وبقي الأمر على هذا النحو لفترة طويلة ولم يحدث أي تطور يذكر ..إلا في نهاية السبعينيات حيث تم جلب حيوانات مختلفة ووضعها في خيم مغلقة ..لكن التطور النوعي كان احضار سيارات كهربائية صغيرة شكلت بحق ثورة بالنسبة إلى الألعاب التقليدية..
وكان الدخول إلى السينما من الطقوس والتقاليد التي لا يكتمل العيد بدونها …
فنتزود من عند سليم بكمية مهولة من بزر الميّال دوار الشمس ..ونتجمع في صالة الانتظار على الإيقاعات الصاخبة لأغاني عبد الحليم وخاصة زي الهوى ..وقلوبنا تكاد تنخلع إن كان من الموسيقى الصاخبة ..أو من رهبة الإنتظار لفتح الأبواب والدخول إلى هذا العالم السحري.
كانت حفلة الساعة الثالثة ظهرا مخصصة للعائلات ..وكنا نتجمع على صفين أمام مخرج السنما انتظارا لخروج الفتيات اللواتي كن يمشين بتؤدة متمايلات مزهوات .
-3-
خطر ببالي اليوم أن أشق على العيد وبي لهفة لأرى عن كثب كيف أصبحت تجري الأمور الآن .
اصطحبت ابنتي الصغيرة وذهبت إلى تجمع العيد والذي كان أمام المركز الثقافي خلف الملعب البلدي .
أول ما قابلني هناك كانت رائحة السماق الأخاذة والمتصاعدة من حلل الفولة ..مشيت قدما بتؤدة بين الجمع الذي بدا بحركته العشوائية مثل خلية نمل ..
ولفت انتباهي اختفاء المراجيح والقلايات الخشبية التي كانت على أيامنا وحلول المعدنية مكانها..
وكذلك لم ألاحظ أي من أصحاب هذة الألعاب وكان معظمهم من الشبان يتعب نفسه بترداد الأهازيج والأغاني التي كان أقرانهم الأكبر سنا منهم يرددونها على أيامنا من مثل:
يا ولاد محارب …شدوا القوارب
قوارب زيني .. شغل الفلينة
… أو التي كنا نحن نرددها ..
بكرة العيد ومنعيّد
ومندبح بقرة السيّد
والسيد ما لو بقرة
مندبح مرتو هالشقرا..
وعلمت بوجود عيد آخر ..على أول طريق البازار ..فشددت الرحال إلية مستغربا الأمر .
قابلتني نفس المشاهد تقريبا ..إنما مع وجود زحمة أكبر.
-4-
استغربت ما هو المبرر لوجود عيدين ..وبدا الأمر على الأرض وكأنه تقسيم طائفي وهو كذلك فعلا .
وكبر السؤال : من هو هذا العبقري الذي طلع بهذة الفكرة المخيفة والتي لا تبشر بخير؟
عندما تنقسم أحزان الناس وأفراحهم …وعندما يفرضون التقسيم حتى على الأطفال فما الذي سيبقى؟
وكيف يمر هكذا أمر بهذة السهولة دون أن يلفت انتباه المعنيين ..أم أنهم مشغولون بقضايا أهم ..
وما هو الأهم …فلان انتقد وفلان تكلم ..وفلان لم يدفع العيدية وآخر لم يجلب الهدية!!
…..
كانت مدينة جبلة من المدن القلائل في سوريا التي لم يحدث فيها ولا حادثة طائفية واحدة ..إبان حوادث الإخوان المشؤومة ..
لم تراق فيها أية نقطة دم طائفية ..وفي ظل اشتداد الأحداث بقيت أكبر من الأحداث ..وأنقى من الطوائف.
وحدث أن زارها الرئيس الأسد وصلّى في جامعها المشهور جامع السلطان ابراهيم ..وطاف موكبه في سيارة مكشوفة في شوارع جبلة وقدم لها معونة محرزة في أواسط الثمانينيات ..امتنانا وعرفانا لها.
والآن وبعد كل هذة السنوات على تلك الأحداث ..تعاقب جبلة ,
بالإهمال..والفوضى ,والمخالفات,ونقص الخدمات ..بل وهذا الأدهى ..بتقسيم الناس وتفريقهم .
-5-
أخذت ابنتي ..وغادرت الساحة متجها ناحية الغرب ..إلى البحر كان لونه رماديا على غير العادة ..
أقلقني صمته المريب ..وكأنه يخبّىء شيئا ما ..
وفي الشرق كانت الجبال تتلفح بالغيوم بحيث تكاد لا تبين …
وثمة نذر في الأجواء تنبىء بقدوم عاصفة.