ذات مساء كنا نحضر حفلة موسيقية على مدرج جبلة الأثري. الحفلة جزء من فعاليات مهرجان جبلة الذي كانت تقيمه جمعية العاديات صيف كل عام قبل الحرب بإدارة وتنظيم الأستاذ جهاد جديد صديقي وأستاذي في المرحلة الثانوية.
آلاف الناس بوجوههم المشرقة وملابسهم الأنيقة المعطرة يتقاطرون الى الساحات والصالات الثقافية والقلعة الأثرية ليحضروا أمسية شعرية هنا أو محاضرة فكرية هناك. ليشاهدوا فيلماً سينمائياً هنا أو حفلة موسيقية تحييها فرق فلكلورية سورية أو فرق عربية شهيرة على مسرح القلعة.
أكثر من ألف شخص كانوا يحضرون تلك الحفلة. يحتشدون جلوساً فوق الأدراج الحجرية كتفاً إلى كتف وقلباً إلى قلب. يتلألؤون تحت الأضواء المزدهرة ويستنفذون أشواقهم بسماع لحن ما أو أغنية ما أو رقصة شعبية.
فجأة أمطرت السماء مطراً ليس كالمطر..مطراً من حجارة !!.
تزلزل المدرج. مطر الحجارة يحطم الرؤوس ويدمي الوجوه. تندفع الحشود منسحبة نحو أروقة القلعة الداخلية. تتعثر الأرجل في الزحام فتتساقط الأبدان داخل أخاديد المدرج وتجاويفه العميقة.. ويعلو الصراخ. وفوق خشبة المسرح يلوذ الموسيقيون وراقصات الفرقة بآلاتهم الموسيقية فوق رؤوسهم مصعوقين بمشهد لا يفهمونه.
الذي حدث في ذلك اليوم هو أن وزير الداخلية وقتها_وهو أحد أبناء المدينة !! _اصدر قراراً بمصادرة الدراجات النارية في المدينة ليقضي إجازته بعيداً عن الضجيج وتعكير الصفو. الدراجات النارية بالنسبة لأصحابها الفقراء ليست وسيلة نقل أو خدمة منازل وحسب .. هي قطعة من اجسادهم وإن شئتم هي قطعة من أرواحهم أيضاً.
الشعب الغاضب بحاجة إلى أن يوجه غضبه نحو أحد.. وكان هذا الأحد المحتفلين في القلعة .. لم يكونوا يحتفلون بمناسبة وطنية ترعاها الدولة الجائرة ولا بعيد ميلاد وزير الداخلية.. كانوايحتفلون بأجمل ما فيهم: الحنين إلى لحن ما أو أغنية ما أو رقصة شعبية .. لقد اختار اولئك المحتجون "العدو" الخطأ في المكان الخطأ للأسف.
في ذلك المساء الكئيب شعرت بأن زمن شوارع موحشة وأوراق جافة يقترب . أعبر الشوارع اليوم فتقفز تلك القلعة كغيمة سوداء في وجهي. لقد اغلق المسرح أبوابه في وجه الزوار. لم يبق سوى تزيينات خشبة المسرح الحزينة بعد أن يكون رحل الممثلون وسحر المسرحية وسحرالكواليس قد انتهى.
لم يعم الظلام الكلي بعد..فثمة في السماء قمر يبكي.
إضافة تعليق جديد