يكثر الحديث هذه الأيام في الصحافة وعلى صفحات الفيسبوك عن مسلسل "باب الحارة".
جميع الكتابات والتعليقات تقريبا تتّفق على أنّه مسلسل متخلف ورديء ووقح ومثير للريبة.
وهذا من وجهة نظري صحيح بالمطلق .
وكان من الطبيعي أن تتوجه اصابع الاتّهام والسخط والغضب نحو الكاتب والمخرج والممثّلين وشركات الانتاج ..مضافا اليهم أو على راسهم الرقابة الرسمية في الهيئة العامة للاذاعة والتلفزيون ..وهذا ايضا حق وصحيح بالمطلق .
ولكن اسمحوا لي هنا ان اوضح شيئا لاكتمال الصورة .فعلى احد ما ان يقول الحقيقة .
قبل الحرب بعامين تقريبا وصل الى يدي نص "باب الحارة"لرقابته كوني قارئ نصوص مكلف في الهيئة منذ اكثر من عشر سنوات .في تقرير القراءة قلت عن ذاك النص كل ما تقولونه اليوم وقد صار في جزئه التاسع..تخلف .انحطاط فكري واجتماعي .تزوير تاريخ .تحقير المرأة .الخ..
وأضفت :عمل شديد الخطورة يدعو الى تفكيك مكونات المجتمع السوري وانغلاقها وعزلتها .ويروج لفكرة امكانية تدمير الدولة ليحل محلها زعيم الحارة والشيخ والعكيد والقبضاي والمموّل في محميات وحارات منعزلة تناصب جاراتها العداء .
وقتها لم أكن ولا حتى في الخيال يمكن ان يخطر ببالي أن هذا المشهد السوريالي سيتحقق ويصبح واقعا نعيشه اليوم بكل تفاصيله ..(التقرير موجود في وثائق التلفزيون طبعا ).
حتى اليوم هذا المسلسل مرفوض رقابيا في دائرة النصوص وكل عام تنشب حوله معارك ساخنة لا ينقصها سوى السلاح الابيض .
فما الذي يحدث في الدراما اذا؟؟.
للايضاح فقط ..
هناك جهتان رسميتان معنيتان برقابة المسلسلات: دائرة النصوص المعنية برقابة السيناريوهات قبل تصويرها. ودائرة المشاهدة المعنية بمشاهدة المسلسلات الموافق عليها بعد تصويرها والتأكد من تطابقها مع تقارير رقابة النصوص بملاحظاتها وتعديلاتها.
الشيء النافر وغير المبرر هو تشكيل"لجان خاصة" عند الضرورة لإعادة قراءة النصوص المرفوضة ومعالجةأسباب رفضها. وطوال هذه السنوات لم يحدث أن رفضت هذه اللجان أي عمل قمنا برفضه. وسمحت بها جميعاً. هذا يعني أن هذه اللجان وجدت
لتمرير الأعمال المرفوضة . مثلاً قصص زنى المحارم ماهي ضرورتها الاجتماعية الآن. تلميع صورة اليهودي الدمشقي على أنه سوري أصيل ماهي ضرورته السياسية الآن. الفكر "الاخونجي" السلفي الذي يرتدي الطقم وربطة العنق المبثوث في هذا المسلسل أو ذاك.لماذا توقيته الآن ؟. أربع مسلسلات من البيئة الشامية أنتجت وعرضت تضمنت خطوطاً درامية مخصصة لتلميع صورة وشخصية اليهودي وتقريبه من النفوس قام بأدوارها عمالقة الفن السوري وأكثرهم شهرة وجاذبية. فعندما نعلم أن من شروط قبول الكتابة والإنتاج التي تفرضها المحطات وشركات التوزيع الشارية أن يكون في كل عمل من هذه الأعمال خط درامي يتحدث عن حضارية الانسان اليهودي ووطنيته ..ألا يعني هذا دون لبس الترويج للتطبيع مع اسرائيل وتسويقه؟.
الجميع يعرفون من هي شركات الانتاج الدرامي السوري ومن هم أصحابها وممولوها ومصادر أموالها.فالدراما هي جزء حيوي من نشاطات سلطة المال التي تحدثت عنها في منشوراتي السابقة. تلك السلطة التي لاتستطيع أن تنام وهناك منطقة يمكن أن يتنفس فيها انسان خارج سيطرتها المالية. وبالطبع من السهل عليها التغلغل في هذه المناطق عبر شراء الضمائر والأنفس وهذا الأغلب أو التهديد بلقمة العيش وهذا الأقل.
جميع المسلسلات التي تشاهدونها منذ خمس سنوات ( مرحلة انحطاط الدراما السورية ) والتي تتسم بالضعف الفني او الغثاثة الفكرية . او التي تحمل فكرا سلفيا اخوانيا ( البيثة الشامية ) او ثقافة الابتذال او الانحلال الاخلاقي .. او .. او .. جميعها مرفوضة في دائرة الرقابة او مطلوب تعديلها واعادة صياغتها . ولكنها جميعها مررت واشتريت بمال الدولة وابصرت النور بفضل اللجان الخاصة ومسايرة دائرة المشاهدة في الهيئة .
نعم .. نحن دولتان في دولة واحدة !!
ولكم ان تسخروا اكثر من ذلك حين تعلمون ان كثيرا من النصوص تصور وينتهي تصويرها قبل ان ترسل لنا النصوص لمراقبتها . ( حكم الهوى لشركة قبنض الذي يعرض حاليا مثال على ذالك ). رغم ان القوانين تقضي لهكذا مخالفة بعقوبة حرمان الشركة من الانتاج لمدة عامين . المخالفات تتكرر كثيرا ., لكن ولا شركة واحدة مخالفة طبقت عليها هذه العقوبة . مراكز المال فوق المساءلة والدولة في غيبوبة .
اتحدث عن الدراما وهي ليست هدفي الان . وجدتها مادة اضيء بها علاقة سلطة المال النافذة بالحكومات وتعاملها معها الشبيه بتعامل الاغا مع اجنحة الخدم في قصوره اوالأجراء في اسطبلات مزرعته .
ابعد من هذا .. قبل اسبوع تقريبا راقبت نصا لبرنامج ديني تلفزيزني يسوق فيه الكاتب قولا لذاك المافون ابن قيم الجوزية . . يبارك فيه قتل الكافرين من غير المسلمين ويثني على هذا القتل لانه يقصر حياة الكافر فيقلل من آثامه وبالتالي يخفف عنه عذابات الاخرة !! .
هذه رسالة دين سماوي ام فلسفة رسول متسلل من خاصرة الجحيم ؟! .
للكاتب الحق ان يتبنى الفكر الذي يشاؤه .. ولكن سيبدو الامر صادما ومستهجنا عندما نعلم ان النص قدم لنا مرفقا بمذكرة تسمح بانتاجه وعرضه ممهورة بختم وزارة الاوقاف !!.
هذه الوزارة التي تدعي الاسلام الوسطي والاسلام الشامي المعتدل ويصدع وزيرها رؤوسنا باطلالاته التلفزيونية بمناسبة او دونها واعظا بالتشبث بالاسلام والحكمه والتسامح .. هذه الوزارة لم تعد تطيق المناورة والتنكر خلف الاقنعة .. ولا بد من تغطية هذه التنظيمات التكفيرية وماتقوم به من جراثم وفظائع فاقت كل همجيات العصور بالشرع والاصول الدينية ....ليمارسوا النفاق السياسي..ولكن ليس على حساب دمنا ...
اخطر من ذلك ..
يتبع...
إضافة تعليق جديد