آخر الأخبار

خواطر عن الدراما السورية(3)

لمع نجم الدراما في سماء المشهد السوري لعقدين من الزمن في ظل ثلاث ظواهر مهلكة : الجفاف السياسي والتصحر الثقافي ..وسأكون مهذبا" واسمي الظاهرة الثالثة بالاستبداد المالي .
منذ عقدين من الزمن لم أدخل وزارة الثقافة الا وينتابني الشعور بأنني اسير في مقبرة مهجورة وثمة حارسة عجوز مجعدة الوجه تقمط شعرها الشبيه بالمكنسة بخيط من القنب وترتدي معطفا باليا مغبرا تجلس على كرسي متهالكة تحيك الصوف بصنارتين وعند رجليها يتمدد هرّ ضجر
ينظف فروته من الفسافس الارضية بلسانه .
في الحرب انتظرنا أن تغير المأساة شيئا" من تفكير وسلوك هذه الوزارة ولكن لافائدة .."مجتمع في حالة سكونية افضل من مجتمع مشاغب يسبب اوجاع الراس".
التغيير الوحيد الذي حدث العودة الى هرج المهرجانات وأضواء الاحتفالات لاضفاء الرونق والبهجة الزائفة على المشهد الثقافي القاحل .
كنا في السنة الثالثة للحرب على ماأذكر . جاءني مخرج من المؤسسة العامة للسينما وطلب مني سيناريو فيلم سينمائي عن الحرب وقال انه حصل على موافقة المدير العام للمؤسسة وكان وقتها يشغل هذا المنصب الاستاذ محمد الاحمد وزير الثقافة الآن .
كتبت السيناريو وقدمه المخرج للمؤسسة . بعد أيام اتصل بي الاستاذ محمد الاحمد هاتفيا وقال لي وهو يقفز فرحا" : " أخ قمر .. وبشرفي لي أحد عشر عاما مديرا لهذه المؤسسة لم يقع بين يدي سيناريو فيلم بهذه القوة والروعة . يارجل هذه هي قصة الحرب الحقيقية . خلال أيام سنرى كيف نبدأ العمل " .
الأيام صارت أسابيع ولا علم ولا خبر عن السيناريو . ذهبت الى السيد الأحمد ( وهو صديقي على كل حال ) وطلبت منه توضيح الأمر .قال لي : " لجنة رقابة السيناريوهات أثنت على العمل وأشادت به . ولكنها للأسف اقترحت تأجيل انتاج الفيلم الى وقت لاحق . اكتب سيناريو آخر غيره " .وقدم لي تقرير الرقباء لأقرأه .
قلت له : ماالأمر أخ محمد ؟ انت قلت لي ان السيناريو يروي قصة الحرب الحقيقية والرقباء أثنوا وأشادوا به وهذا واضح في تقريرهم . فماالذي حدث ؟ هناك شيء غير مفهوم !!
قال محرجا :" ماذا أفعل ؟ هكذا قرر الرقباء حتى أنه طرحت في النقاش فكرة اذا جاء هيثم مناع رئيسا للوزراء كيف سنبرر هكذا فيلم امامه ؟ " .
وطار صوابي . لم أعد أرى محدثي على ضخامته . ماهذا الخلط ؟ ماهذا الهراء ؟ . هل تتوقعون مني وأنا أكتب عن مأساة انسانية سيضرب بها المثل على مدى قرون , وحرب ذاهبة بنا الى جهنم بأسرع مما تظنون , أن أضع في خيالي هيثم مناع أو سواه ؟ طالما أن هذا السيناريو يروي قصة الحرب الحقيقية فلماذا تعملون على حجب هذه الحقيقة وتغييبها ؟ هل تعتقدون أن على الفن بعد هذه المحنة ان يتوجه الى الناس ويقول لهم : ابتهجوا أيها المواطنون رغم أنكم لاتملكون قمصانا" وتتسولون الطعام الأممي على قارعات الطرق . يجب أن تكونوا مبتسمين ومشرقين دائما لأننا وعدنا كل بيت من بيوتكم بميتة رائعة ؟ أي شيطان يدير هذه اللعبة وما لون قرنيه ؟
كل هذا الاستهجان .كل هذا القرف .كل هذا الغضب من الدراما السورية وصانعيها ، متوقع ومفهوم وله مبرراته . ( دراما صينية ) ..هكذا بتنا نسميها في دائرة الرقابة لسوئها وهزالها ورخصها . دراما باتت تلامس مستوى الحضيض وتتعامل مع الجمهور السوري كقطبع من القاصربن عقليا .ﻻتتجنب الخوض في مشاكله وهمومه وأوجاعه وحسب بل وتبثه سمومها ايضا" .وعلى الناس أن يدفعوا ثمن هذه السموم مرتين .مرة عندما تقوم دولتهم بشراء هذه السموم من جيوبهم ومرة عندما تفرض عليهم أن يستنشقوها .
هل هذا دون مغزى ؟
جميع القائمبن على هذه الصناعة هم السبب في ترديها . ﻻعذر لمسؤول في أن يفاجأ بتدني مستواها .منذ سنوات طويلة ونحن نقارع وجها لوجه ونحذر بأن هذه السياسة اللامبالية المائعة الممالئة لرؤوس الأموال السوداء ستودي بهذه الدراما الى حتفها .ولم يصغ لنا أحد . الكلمة اﻻولى واﻻخيرة للمتنفذين الماليين القادمين من الأعمال الحرة والأصول المالية المشبوهة .
الجميع بصورة الوضع .وتلك الخرافة التي روجها الدراميون عن ان المحطات العربية ﻻتستطيع الاستغناء عن الدراما السورية ﻻنها صارت جزءاعضويا من لياليها ورمضاناتها ..أو تلك الكذبة التي اخترعوها بأن الدراما المصرية صارت وراءنا بمسافات بعيدة ولن تعود قادرة على المنافسة ..فقد تهاوتا وتهشمتا ومجرد النقاش حولهما يعد مسخرة .لقد نهضت الدراما المصرية وأخذت مكانتها اللائقة بفضل رعونة هؤﻻء وقرار الرئيس السيسي الذي اعتبر الدراما والسينما المصريتين جزءا من خمسة اجزاء للأمن القومي المصري الى جانب نهر النيل .
والسؤال المهم هنا :هل العقل السوري الأرعن الذي عجز عن احتمال القليل من الشهرة والتفوق وبطر الفنانين وجشع الشركات وفساد اﻻجهزة الرقابية ..هي التي قادت الى هذا الواقع الكارثي أم أن الأمر أبعد وأعقد من ذلك بكثير ؟
بقناعتي التامة .ومن خبرتي وتجاربي الشخصية الامر أبعد وأخطر من ذلك بكثبر .
وفي يقيني أن هناك من يخطط في الداخل والخارج لكي ﻻيكون لهذه البلاد مستقبل .او في احسن الأحوال ان تتحول الى بلد من بلدان الموز أو الى محمية مسخة غارقة في مستنقعات الجهل والتخلف والفتن والتفاهة والعهر ..ومعادية تماما للحياة ومعقمة من نبل الروح ونقاء المشاعر والذائقة الجمالبة .

إضافة تعليق جديد