الشباب الذين ظهروا أمس في ڤديو الاعتداء على جمهور نادي تشرين هم وللأسف العيّنةُ الأكثرُ حضورًا من حيث العدد ومن حيث الفعل في بيوتنا وفي شوارعنا ومدارسنا وملاعبنا ... وساحات تصفية حساباتنا.
إنهم "المستقبل" الذي ضاعَ وشبعَ ضياعًا خلال السنوات العشر الماضية، إنهم التجسيد الحيّ للأزمة التي يعيشها كلّ بيتٍ وأسرة، إنهم التعبير الصريح الفاقع عن حالة الفشل واليأس والعجز وانهيار القيم التي تكشّفت عنها حقيقتُنا خلال سني الأزمة، والتي كانت مخبوءةً تحت غُلالةٍ رقيقةٍ من الادّعاءات والمزاعم، لم تلبث أن تمزّقت لتفضحَ بشاعتَنا وهزالَنا وتفاهتَنا.
أجلسُ على "برندة" بيتي الأرضي أو خلف نافذتي المطلّة على الشارع، فأراهم يسرحون أمامي ألفَ مرةٍ في اليوم الواحد، ذاتُ الوجوه وذاتُ الصيحات وذاتُ القهقهات العابثة، ذاتُ الحركات البذيئة، ذاتُ الشتائم المقذعة، ذاتُ المظهر الصفيق المتباهي برعونته وفجاجته.
غالبيتهم يدخّنون، وغالبيتهم يرتادون محلّ الـ "سناك" القريب ويرجعون منه بسندويشات وعلب عصائر، فيلتهمونها ويرمون الفوارغ والأوراق تحت أقدامهم كتيوسٍ داشرة ؛ من أين يأتون بالمال الذي يشترون به علفَهم ؟! سؤالٌ محيّر ! .. فهم جميعهم تلاميذ وطلاب ودون العشرين ولا أحد منهم يمارس عملًا سوى التسكّع والتباري بالجحشنة ؛ أستنتجُ دون عناءٍ بأنّ الكارثةَ الأصليةَ هي أهاليهم، وأنهم هم "التجلّي" الذي تتمظهرُ عليه تلك الكارثة !..
في ساعة انصراف طالبات مدرسة البنات تتفاقمُ مظاهر الحيونة حتى لتبلغَ حدّ "الإجرام" أو "الشروع فيه" ..
لا تنجو فتاةٌ من المضايقة، وبسبب عدم انتماء الفتيات إلى "كوكبٍ آخر" فإنّ أساليبَ المضايقة تتطوّر، ويتبادلُ الجنسان عند الاحتدام ألفاظًا ونعوتًا لا تصلح للنشر، وفي أحسن الأحوال يلتئم الفريقان فيقضيان في الطريق من المدرسة إلى البيت ساعةً من الوقت تتخللُها وقفاتٌ طويلةٌ وأحاديثٌ بالغةُ الأهمية ولا يمكن تأجيلُها ..
منذ أسبوعين خرجتُ إلى الرصيف على بعض اللغط لأجدَ فتًى يحتجزُ فتاةً جانبَ سور منزلي ويمنعُها من متابعة طريقها إلى البيت، الفتى لم يبلغ السادسة عشرة في ظني، والفتاة تصغره ببضعِ سنوات، عندما رأياني ارتبكا وتأهّبا لي، سألتهما : ما بالكما ؟! و .. ما الذي يستوقفكما هنا ؟!
سارعت الفتاة إلى الاشتكاء من الولد وقالت لي : إنه يمنعني من متابعة طريقي ..
سألته : لماذا تمنعها من متابعة طريقها ؟!..
وبكلّ الجرأة والوقاحة وعدم المبالاة أجابني : إنها حبيبتي !
"لا، أنا ماني حبيبتك" قالت له بحزم.
قلت لها : امشي، وأنا رح شوف كيف بدّو يمنعك ..
سارت الفتاة ..
حاول الفتى الانطلاقَ خلفها فأمسكتُ به بيديّ اللتين تحتفظان بشيءٍ من القوة، وقررتُ (دون تفكير) أن ألقّنه درسًا ..
كنتُ أضغطُ على أصابعه مسبّبًا له ألمًا شديدًا، وكنتُ أحسّه يتلوّى، لكنّه بقي يكابر، وأثناء إطباقي على يديه ومنعه من الحركة كنتُ أُسمِعُه "بهدلةً" تليق به وبلحية أبيه ..
وعلى سيرة أبيه، فكّرتُ فيما بعد في موقف أبيه وما سيكون ردّ فعله لو تطوّر الأمر بيني وبين الفتى واضطررتُ إلى ضربه ؛ .. لحسن الحظ، تحلّقَ حولنا ثلّةٌ من زملائه وطلبوا مني تركه باعتباره "مجنونًا" وفقًا لتعبيرهم، فتركته وأخذوه معهم بعد أن كانت الفتاة قد نجت واختفت.
كيف يقضي جيل شبابنا هؤلاء وقتهم ؟!
وخلافًا لأنشطة الشارع، ماذا تراهم يبدعون ؟!
هل يقرؤون كتابًا ؟!
هل يتابعون برنامجًا علميًا أو ثقافيًا على التلڤزيون ؟!
جميعهم يحملون موبايلاتٍ حديثة، فهل يرتادون بواسطتها مواقع الموسوعات والمكتبات ؟!
بل، وهل يمارسون الرياضة ؟!
هم يتفرّجون على اللاعبين ويتحمّسون ويتعصّبون .. نعم، لكنهم لا يمارسون أيّ نوعٍ من أنواع الرياضة، والرياضة في الحقيقة لا تعنيهم إلا كمثيرةٍ للشغب والتعصّب الذي يجدون فيه متّسعًا للتعبير عن أنفسهم دون موهبةٍ ولا مجهودٍ ولا تكلفة !..
وأساسًا، وفي غالبية مدارسهم، حصة الرياضة هي حصة "فراغ" ينفلتون فيها إلى الشوارع ويمارسون فيها رياضتهم المفضّلة : التسكّع.
الرياضة المدرسية هي آخرُ هموم الوزارات والإدارات والحكومات، فلا ملاعب ولا كرات ولا تجهيزات ولا اهتمام ولا محاسبة، و ....
ما يجلب الاهتمامَ وتُنفَق عليه الأموال ويحظى بتغطية الإعلام هو فقط : دوري كرة القدم، الملهاة التي تستقطب أكبر الجموع وتشغلُها عن كلّ ما سواها، فلا أزمات ولا فقر ولا تخلف ولا جهل ولا غدٌ مجهولٌ ولا بطالةٌ شائعةٌ ولا طاحونةُ دمٍ تدور، كل ذلك يترك مكانه لكرة القدم وفرقها المحلية التي تركلُ وتركلُ وتركلُ .. من أجل رفع اسم الوطن عاليًا فوق ما هو مرتفعٌ أصلًا ...
ما فعله شبابُنا أمس مع ضيوفهم جمهور تشرين هو النموذج الوحيد الذي يختزل مستواهم المعرفي والأخلاقي على حدٍّ سواء، وهم عاجزون تمامًا عن تقديم أنفسهم بصورةٍ أقلّ شناعةً، والأمرُ في نظري لا يتصلُ بالمباراة ونتيجتها ولا بلعبة الكرة ولا حتى بالرياضة، بل بحجم التشوّه والانهزام والخواء الذي يعانون منه وهم ممتلئون بالطاقة وفيض الهورمونات الذكرية اللعينة، الطاقة التي تتحوّل عندهم إلى بركانٍ من الغضب المدمّر والعجز القاتل.
جبلة هي اللاذقية، واللاذقية هي حمص وحلب ودمشق و....، .. فالحالُ واحدٌ والآفةُ واحدةٌ والشبابُ الضائعُ المتسكّعُ المتباهي ببهيميته والفاقدُ لطريقه إلى المستقبل، .. أيّ مستقبل، ... هو ذاتُه
التعليقات
الجيل
إضافة تعليق جديد