شيئا فشيئا احتلت مواقع التواصل الاجتماعي الجهات الأولى التي يقصدها ملايين المتصفحين للشبكة في العالم ,وباتت تلعب دورا في إثارة الانتباه لعناوين وقضايا ووقائع من الحياة لم يكن من الممكن تتبعها على المواقع التقليدية وعلى اساليب الميديا الأخرى .
وباتت هذه المواقع هي المفضلة سواء أكان المستخدم بسيطا يستعملها كمنصة لاستعراض صوره ومناسباته ,أو فنانا للدعاية لفنه ,أو كاتبا كبديل عن الجريدة والكتاب بعد أن أصبحت موضة بائتة,أو سياسيا لإطلاق مواقف معينة.
وبدأ هذا الأمر يتضح منذ العام 2010 وما تلاه, وفيما يتعلق بمنطقتنا فجميعنا نعلم أن ما دعي ب (الربيع العربي) قد نسب لمواقع التواصل الدور الأبرز فيه ,حتى أنه في مصر رفعت لافتات تمجّد الفيسبوك مثلا.
وآخر ما نسب لهذه المواقع هو ما يجري في أمريكا من تحقيقات بشأن أثر آلاف الحسابات الوهمية على مواقع التواصل التي أثرت في الانتخابات الأمريكية.
و تبين أن لمواقع التواصل الاجتماعي دورًا تلعبه يتعدى التعارف والصداقة، و اجتذبت جحافل من المهمشين والمهملين الذين باشروا في تشكيل الفضاء السيبراني من جديد.
وفورا اقتحم رجال الدين هذا المجال واحتلوا الفضاء الإلكتروني ففي احصائية مصرية ورد:" تنامى حجم المواقع المحسوبة على المنظمات المتطرفة في العالم العربي من 28 موقعًا إلكترونيًا في عام 1997، إلى نحو150 ألفًا"..
إن مواقع التواصل تتيح من حيث المبدأ المنصات للتعبير عن الرأي بحرية بعيدا عن العناوين المعلبة وعن القيود المفروضة في وسائل الإعلام التقليدية .
ولكن هذا السيل الجارف من الكلام بعيدا عن كل القيود ساهم أيضا في تسطيح الفكر وتضييع الحقائق .
والأخطر من هذاهو أنها باتت تشكل وسيلة بيد الجهات العالمية للتأثير في الرأي العام ,وأيضا وسيلة لنشر التطرف الكراهية والتفرقة الطائفية.
ويتسائل العديد من المفكرين والباحثين في هذه الظاهرة عن من يملك ضخّ المعلومات عبر مواقع التواصل ويوجه الشارع؟
من يطرح (الهاشتاغات)ويسلط الأضواء على قضايا وأفلام وأغان وأخبار بعينها ومن يتحكم في آليات الوصول والنقاش..؟ من يخفض الوتيرة ويزيدها ؟
الأمر الذي جعل المفكر والكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو يصفه ب(غزو الحمقى)ويقول في حوار صحفي ردا على سؤال:
هل أنت على الخط؟ على تويتر؟ ما هو اسمك على وسائل التواصل؟
لا، لا أنا مستهلك قديم للورق.
. أنا لست على فايسبوك و لا على تويتر أستعمل الأنترنت، البريد الإلكتروني . و مع وجود 7 مليار شخص يعيشون على هذه الأرض، هناك كمية كبيرة من المعتوهين و الحمقى، حسنا. في الماضي كان هؤلاء يعبرون عن أنفسهم مع أصدقائهم أو في الحانة بعد تناول كأسين أو ثلاثة من مشروب ما، ثم يقولون كل سخافة و الناس يضحكون. الآن لديهم الإمكانية لإظهار أنفسهم على الأنترنت. و هناك إلى جانب ما ينشره الكثير من الناس المثيرين و المهمين – حتى البابا يكتب على تويتر- لدينا كمية كبيرة من الحمقى. المشكلة الكبيرة من الأنترنت هي كيف نصفي المعلومة، كيف نرمي جانبا ما هو غير موثوق أو ما هو سخيف، و الحفاظ فقط على المعلومات المهمة. .
هذه المقولة التي انتقدتها الصحافة وبعض الكتاب ووجدوا فيها الكثير من الاستعلائية النخبوية، والاحتقار للجماهير ولكنهم بعد التجربة وبعد مضي عدة سنوات عليها وجد العديد منهم أنفسهم متفقين معه .
وهذا الموقف السلبي من (العامة)ليس جديدا فالتاريخ مليءبالأمثلة من سقراط وعلي وصولا لابن الراوندي والحلّاج والجاحظ وابن رشد.
إن أي متابع للنقاشات التي تدور في مواقع التواصل، سيجد كيف يتحوَّل الحوار إلى شتائم واتهامات شخصية ، وتحزبات طائفية وعنصرية. وقد تفاجىء العديد من المثقفين العرب بالردود المستفزة وبالتفسيرات التي لم تخطر لهم على بال، وحتى على موقع(اليوتوب) قد لا تمرأغنية لفيروز مثلا من ردود غريبة تحمل الشتائم والعنصرية والمناطقية والطائفية.
ولا بد لهذا المتابع من أن يلاحظ أسلوب المبالغة والمغالاة وغياب الموضوعية ,وباتت العناوين المثيرة والشاذة وغير المنطقية والبعيدة عن العلم هي التي تشد الإنتباه .وبات كل يستأثر بمريديه ويتقبل أخطاءهم ويتغاضى عن (سخافاتهم) أحياناحتى لا يخسرهم ,مع أنه في الحياة الحقيقية قد يحاول تجنبهم قدر الإمكان وهكذا هم أيضا,والمفارقة المريرة في الأمر هي أن الإنسان الذي يهرب من المجاملات والنفاق الإجتماعي في حياته يجد نفسه (متورطا)شيئا فشيئا في حملة مجاملة لاتنتهي ,الأمر الذي جعل علماء نفس يضعون الأمر تحت خانة(الإدمان).
قد لا يستطيع أي باحث أن يصدر أحكاما واستنتاجات نهائيةعلى هذه الظاهرة في الوقت الحالي,وعلى أثرها المستقبلي البعيد فالتجربة مازالت معاشة ,ولكن نستطيع ببساطة أن نلاحظ أن مواقع التواصل هي حقيقة لا يمكن تجاهلها أو نبذها وإهمالها,ومن جهة أخرى فهي على الرغم من تلك الحسنات التي تقدمها فإنها تحوي الكثير من الضجيج والغبار اللذان يشوهان الرؤية ,الأمر الذي يشوّش الحقائق ويؤثرعلى قدرة التفكير المنطقي والجدلي وبالتالي إمكانية الوصول لأية معرفة أو ثقافة حقة.
إضافة تعليق جديد