
اللحم والحرية: مقارنة في استهلاك ما كان محرّمًا
أعمل في مؤسسة تُعنى بمرافقة الوافدين الجدد في خطواتهم الأولى نحو الاستقرار. نتابع تفاصيل يومهم من ضمنها أنماطهم الاستهلاكية. ولكن ثمّة تفصيل صغير، ظلّ يتكرّر أمامي حتى تحوّل إلى سؤالٍ اجتماعي أكبر: لماذا يُقبل الوافد الجديد في أشهره الأولى على شراء كميات كبيرة من اللحم؟ ولماذا يبدو هذا السلوك مشتركًا بين جنسيات وخلفيات مختلفة؟
لسنا هنا أمام خيار غذائي فقط، بل أمام بوابة لفهم أعمق لآلية التحوّل من ثقافة الندرة إلى ثقافة الوفرة، من الكبت إلى الإمكانية، من قمع الحواس إلى انفلاتها.
ومن هنا، انتقلتُ لملاحظةٍ أخرى، في مجال آخر، لكن تحمل الجذر ذاته: سلوك السوريين، خاصة بعد سقوط النظام الأسدي، في فضاء التعبير. انفجار في اللغة. سيلٌ من الآراء والشتائم والانفعالات والشتائم المضادة. صخب غير مسبوق، يوازي، بل يتفوّق على ما نراه في أسواق اللحم.
هكذا وُلدت هذه المقارنة.
أولًا: اللحم – عن الرغبة حين تتحرّر من نفيها
لا أحد يُعدّك لصدمة الوفرة. أن تنتقل من بلدٍ كان اللحم فيه يُشترى بالحبة أو يُؤكل في المناسبات، إلى مكان تستطيع فيه، لأول مرة، أن تشتري ما شئت، متى شئت.
لكن اللافت ليس فقط الشراء، بل طريقته:
– يُشترى اللحم من محلات محدّدة، غالبًا ليست من شبكات السوبرماركت بل من الجزارين المتخصصين.
– الكمية تشبه الشراء بالجملة: ٤ أو ٥ كيلو دفعة واحدة، أحيانًا أكثر.
– لا يُشترى ليؤكل، بل يُشترى ليُخزَّن، ليكون موجودًا، كأن غيابه جريمة لا تُغتفر.
ليس هذا سلوك ترف، بل ذاكرة قهر تتحرّك.
ما يحصل هنا هو تعبيرٌ عن تحوّل داخلي: الوافد الجديد لا يثق بعد بأن الوفرة ستستمر. فيشتري وكأن المتجر سيُغلق غدًا.
ثانيًا: الكلام – عن الحرية حين تنفجر فجأة
في المقابل، حين نرصد ما يجري اليوم في فضاء السوريين بعد زوال النظام الأسدي، نلحظ ظاهرة مشابهة: حرية التعبير، بعد أن كانت تهمة تؤدي إلى السجن والتعذيب والاختفاء، باتت فجأة مفتوحة بلا ضوابط.
لكن بدل أن تُمارَس كحق، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى حلبة صراخ.
– عبارات طائفية، تخوين، كراهية، شتائم، تشفٍّ، حتى في أكثر المواضيع وجعًا.
– أشخاص يكتبون وكأنهم يريدون أن يُفرغوا أمعاءهم من الصمت القديم.
– صفحات كاملة تتحوّل إلى ميادين للانتقام الرمزي من ماضٍ لا يمكن استعادته.
ومثل اللحم، لا يُكتب الكلام ليُقرأ، بل ليُرمى.
ثالثاً:حين يغيّر الجوع شكله – نحو فهم آلية “النهم الرمزي”
الجوع، حين يطول، لا يبقى في المعدة. ينتشر في الجسد، يصعد إلى الرأس، يتحوّل إلى أفكار. ثم يتخفّى في السلوك: في الشراء، في الكلام، في طريقة الوقوف، حتى في البكاء.
وهذا الجوع لا يشترط أن يكون ماديًا. أحيانًا، يكون جوعًا للكلمة. للرأي. لأن يقول لك أحدهم: “أنت موجود.”
حين نتأمّل سلوك الوافد الجديد في سوق اللحم، وسلوك السوري الجديد في سوق الحرية، نكتشف شيئًا واحدًا: كلاهما يتعامل مع المتاح الجديد وكأنه لن يستمر.
– الوافد لا يأكل… بل “يخزّن”.
– السوري لا يعبّر… بل “يفجّر”.
كأن أحدًا في داخله يهمس:
“خذ الآن… فقد لا يُتاح غدًا.”
من الحاجة إلى الإشباع النفسي
– في علم النفس الاجتماعي، يُقال إن الإنسان لا يستهلك الأشياء فحسب، بل يستهلك الدلالة التي تحملها. فلا فرق بين من يشتري ساعة رولكس لأنه يحب الوقت، وبين من يشتريها ليقول: “أنا مهم.”
– في التحليل النفسي، هناك ما يُسمى بـ”التحويل التعويضي”: حين يُمنع دافعٌ ما من التحقق، يُعاد توجيهه نحو سلوك بديل. كأن يُحوَّل الخوف إلى سخرية، أو العجز إلى استهلاك.
فهل ما نراه من سلوكيات نهم – غذائيًا أو تعبيريًا – هو إلا تحويلٌ لتعويض قهرٍ سابق؟
بنية الاستهلاك الطارئ
ثمة بنية نفسية مشتركة تظهر في كلا المثالين (اللحم/الحرية)، نلخّصها كالتالي:
١. الحرمان الطويل: تعويد داخلي على أن “المتاح” نادر، مهدد، محفوف بالخطر.
٢. الفرج المفاجئ: توفّر المادة أو المساحة بشكل مفاجئ، بلا تمهيد ولا تأطير.
٣. النهم الفوضوي: استهلاك متسارع، غير محسوب، لا عقلاني، يحكمه الخوف من زوال الفرصة.
٤. التراكم والإرهاق: وصول الجسد أو النفس إلى درجة الإنهاك من الوفرة، فتبدأ المراجعة.
٥. التوازن المتأخر: إذا توفرت البيئة الآمنة، يبدأ الإنسان بإعادة بناء العلاقة مع الشيء الذي أُفرط فيه.
هذه البنية تُعيدنا إلى المقارنة:
– الوافد الجديد، وهو يشتري اللحم بكثافة، لا يتصرّف عن جشع، بل عن غريزة قديمة اسمها: “الخبز كان حلمًا، فلا تضيع هذه اللحظة.”
– والسوري، حين يملأ الفضاء الإلكتروني بصراخ وهجوم وتشفٍّ، لا يفعل ذلك لأنه لا أخلاق له، بل لأنه لم يُسمح له بأن يبني لغة.
لكن الخطر يكمن هنا:
إن لم تتح الفرصة لتجاوز هذه المرحلة، يتحوّل النهم إلى سلوك دائم، ويتحوّل الجوع الرمزي إلى هوية.
ما الذي يصحّح هذا المسار؟
١. الزمن: لأن النفس لا تهضم الحرية أو الأمان بسرعة، بل تحتاج وقتًا لتثق أن الكارثة لن تعود.
٢. الاعتراف: أن يُقال للناس: ما تمرّون به مفهوم، وأنكم لستم مرضى بل ناجين.
٣. التأطير الهادئ: لا بالإملاء، بل بالمرافقة، أن نخلق مساحات تعلم لا سجونًا بديلة.
٤. التجربة: لا شيء يُربّي الإنسان أكثر من خيبة ناتجة عن نهمه نفسه. حين يشبع السوري من الصراخ، سيفتح الباب للمعنى.
ما يبدو مفرطًا، فوضويًا، مزعجًا، ليس دائمًا علامة مرض… بل أحيانًا، هو العلامة الأولى على خروج النفس من الغيبوبة.
نعم، يشتري الوافد الجديد كثيرًا. نعم، يصرخ السوري أكثر مما يُحتمل. لكن كِلَا السلوكين، إن تُركا في بيئة تسمح بالتطوّر، سيتحوّلان من فعل دفاعي، إلى ممارسة ناضجة.
الإنسان لا يُولد حرًّا… بل يُفلت من السجن أولًا، ثم يبدأ في تعلّم الحرية.
*ملاحظة : في هذا النص، نستخدم مصطلح الوافد الجديد بدلًا من اللاجئ، احترامًا لتجارب الأفراد وابتعادًا عن أي تصنيف قد يُختزل فيه الإنسان.