يكشف الباحث البريطاني مارك كيرتس في كتابه «العلاقات السرية» عن شعار يتكرر في ملفات الحكومة على مدار عقود كثيرة، وخلال عقدين من عام 1952 حتى عام 1970، جاء هذا التهديد في صورة القومية العربية التي دعا إليها عبد الناصر؛ ومنذ عام 2005، جاء ذلك في صورة إيران أحمدي نجاد. وقال في لقاء مع «الشرق الأوسط»: «حتى اليوم.. في سياستها الخارجية، لا تزال بريطانيا تستخدم القوى الإسلامية أو تعمل من خلالها». وأضاف أنه في احتلال جنوب العراق، وقفت بريطانيا بصورة أساسية مع المسلحين الإسلاميين من الشيعة، المتصلين بالمجلس الأعلى الإسلامي للعراق، من أجل السيطرة على المنطقة وضمان خروج «مقبول». إلا أنه تحدث عن تغيير في سياسات لندن مع «لندنستان» والمتطرفين الأصوليين الموجودين في العاصمة البريطانية بقوله: «يرجع هذا التغير في المقام الأول إلى أن بريطانيا نفسها أصبحت هدفا للإرهاب. ففي السابق، كان التفاهم هو أن السلطات ستتيح للجماعات الراديكالية بالعمل ما دامت بريطانيا نفسها ليست مستهدفة، وهو ما يسمى (ميثاق الأمن)». وكان هذا بمثابة «ضوء أخضر» واقعي من وايتهول إلى الإرهاب في جميع أنحاء العالم. إلا أنه أعرب عن اعتقاده أنه من الممكن تفسير التسامح الحالي من جانب النخبة البريطانية مع الجماعات المنشقة في لندن جزئيا باستغلال هذه الجماعات في صالح سياساتها الخارجية. وجاء الحوار معه على النحو التالي:
o ما الفترة التي قضيتها في كتابة الكتاب الأخير لك «العلاقات السرية: تواطؤ بريطانيا مع الإسلام المتشدد»؟
o لقد استغرقت عملية تأليف هذا الكتاب أربع سنوات. لقد بدأت الكتابة فورا عقب هجمات لندن، في نهاية عام 2005. واستغرق الأمر عدة شهور من البحث في الهيئة الوطنية للأرشيفات بين عشرات الآلاف من الوثائق السرية، التي تحتوي على ملفات سرية للحكومة تم الكشف عنها.
o هل فكرت في طباعة هذا الكتاب باللغة العربية؟
o نعم، يبحث الناشر الخاص بي عن ناشر عربي، لكن هذا الأمر لم ينته بعد.
o هل تعتقد أن مصطلح «لندنستان» لا يزال موجودا أم أنه انتهى؟ هل انتهت لعبة استخدام الإسلاميين في بريطانيا أم أنها لا تزال مستمرة في وجهة نظرك؟
o تم حظر الجماعات والأفراد الذين تربطهم صلات بالإرهاب والذين تسامح معهم البريطانيون في تسعينات القرن الماضي، وفي بعض الحالات عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، أو تم القبض عليهم. ويرجع هذا التغير في المقام الأول إلى أن بريطانيا نفسها أصبحت هدفا للإرهاب. ففي السابق، كان التفاهم هو أن السلطات ستتيح للجماعات الراديكالية بالعمل ما دامت بريطانيا نفسها ليست مستهدفة، وهو ما يسمى «ميثاق الأمن». وكان هذا بمثابة «ضوء أخضر» واقعي من وايتهول إلى الإرهاب في جميع أنحاء العالم. بيد أنني أعتقد أنه من الممكن تفسير التسامح الحالي من جانب النخبة البريطانية مع الجماعات المنشقة في لندن جزئيا باستغلال هذه الجماعات في صالح سياساتها الخارجية، وهو الأمر الذي وثقته في الكتاب، حيث إنه بمقدورهم العمل كدعامات أو بطاقات تفاوض مع حكومات أخرى، على سبيل المثال. وبصورة خاصة، كان لبريطانيا مصلحة دائمة في الحفاظ على الانقسامات في منطقة الشرق الأوسط وجعلها تحت سيطرة سياسية منفصلة، ويعد ذلك إحدى صور سياسة «فرق تسد» الدولية التي كان يُنظر إليها على أنها مهمة من أجل ضمان أنه لا يوجد هناك أي قوة فاعلة وحيدة في الشرق الأوسط مسيطرة على المنطقة، ولا سيما ثروات النفط بها، ضد رغبات لندن (أو واشنطن). وهذا شعار يتكرر في ملفات الحكومة على مدار عقود كثيرة. وخلال عقدين من عام 1952 حتى عام 1970، جاء هذا التهديد في صورة القومية العربية التي دعا إليها عبد الناصر؛ ومنذ عام 2005، جاء ذلك في صورة إيران أحمدي نجاد. وفي سياستها الخارجية، لا تزال بريطانيا تستخدم القوى الإسلامية أو تعمل من خلالها. ففي احتلال جنوب العراق، وقفت بريطانيا بصورة أساسية مع المسلحين الإسلاميين من الشيعة، المتصلين بالمجلس الأعلى الإسلامي للعراق، من أجل السيطرة على المنطقة وضمان خروج «مقبول». كما كانت تطور علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر وسورية وفي أماكن أخرى، ربما كوسيلة لتأمين نفسها عند تغيير النظام الحاكم في القاهرة ودمشق. وتواصل تحالفاتها الاستراتيجية العميقة مع المملكة العربية السعودية وباكستان. ويأتي ذلك على الرغم من التعليقات (الدقيقة) لديفيد كاميرون بشأن دعم باكستان للإرهاب في الهند، لكننا سنرى ما إذا كان ذلك سيقود إلى تغير في السياسة الفعلية لبريطانيا تجاه إسلام آباد أم لا.
o هل من وثائق تدعم الادعاء بأن التمويل البريطاني لجماعة الإخوان المسلمين في مصر بدأ في أربعينات القرن الماضي؛ وأنه خلال العقد التالي كانت بريطانيا متواطئة مع الجماعة لاغتيال عبد الناصر؟
o نعم، يوثّق الكتاب ملفات بريطانية سرية تم الكشف عنها، والتي تبين أن بريطانيا بدأت تمويل جماعة الإخوان المسلمين سرا في عام 1942. وقال تقرير بريطاني: «سيتم دفع الإعانات لجماعة الإخوان المسلمين سرا من جانب الحكومة (المصرية)، وسيطلبون بعض المساعدات المالية في هذا الشأن من السفارة (البريطانية)». وستقوم الحكومة المصرية بالزج بعملاء موثوق بهم داخل جماعة الإخوان للإبقاء على مراقبة وثيقة لأنشطتها «وسيجعلنا (السفارة البريطانية) ذلك نحصل على المعلومات من هؤلاء العملاء. ومن جانبنا، سنجعل الحكومة مطلعة على هذه المعلومات التي تم الحصول عليها من مصادر بريطانية». وكان الهدف من هذا التمويل هو إحداث الانقسام داخل الإخوان، «مما يساعد على تفكيك (الإخوان)» عن طريق دعم فصيل منها ضد الآخر. وفي منتصف خمسينات القرن الماضي، يوثق الكتاب بعض المعاملات السرية بين البريطانيين و«الإخوان». وبعدما استولى عبد الناصر على الحكم عام 1952، بعدها مباشرة اختلف مع «الإخوان»، ونظرت بريطانيا إلى «الإخوان» على أنهم معارضة مفيدة لهذا النظام الحاكم ذي التوجهات القومية العربية. وعقد مسؤولون اجتماعات مع قادة الإخوان المسلمين كأداة ضد النظام الحاكم في مفاوضات بشأن إجلاء القوات العسكرية البريطانية من البلاد. وفي عام 1956، عندما قامت بريطانيا بغزو مصر ضمن ما يعرف بالاعتداء الثلاثي، كان هناك مصادر جديرة بالثقة تشير إلى أن بريطانيا قامت باتصالات سرية مع جماعة الإخوان وغيرهم من الشخصيات الدينية كجزء من خططها للإطاحة بعبد الناصر أو اغتياله. لكن لسوء الحظ، لا تحتوي هذه الملفات السرية التي تم الكشف عنها أي تفاصيل أخرى بشأن ذلك. وما تبينه هذه الملفات هو أن المسؤولين البريطانيين كانوا يعتقدون أن هناك «إمكانية» أو «احتمالية» أن يقوم «الإخوان» بتشكيل الحكومة الجديدة بعد الإطاحة بعد الناصر على أيدي البريطانيين. وفي شهر مارس (آذار) عام 1957، كتب تريفور إيفانز، المسؤول بالسفارة البريطانية الذي قاد اتصالات سابقة مع «الإخوان»، قائلا: «إن اختفاء نظام عبد الناصر... ينبغي أن يكون هدفنا الرئيسي». وتجدر الإشارة أيضا إلى أن الخطط البريطانية السرية للإطاحة بالأنظمة القومية في سورية عامي 1956 و1957 كانت تنطوي أيضا على تعاون مع جماعة الإخوان المسلمين، التي كان يُنظر إليها على أنها وسيلة مفيدة في خلق الاضطرابات في البلاد تمهيدا لتغيير النظام الحاكم.
o الكاتب في سطور
o بدأ كيرتس دراسته في مدرسة لندن للاقتصاد، ثم عمل باحثا لدى المعهد الملكي للشؤون الدولية. وسبق له العمل كمدير بـ«الحركة الإنمائية العالمية». بعد سنوات كثيرة من عمله مع منظمتي «كريستيان إيد» و«أكشن إيد» غير الحكوميتين، حيث عمل مديرا لقسم «السياسة وجهود الضغط» لدى «كريستيان إيد» ومديرا للشؤون السياسية في «أكشن إيد»، أصبح يعمل الآن كاتبا وصحافيا ومستشارا مستقلا. ويعد من المشاركين بانتظام في النقاشات السياسية ويكتب مقالات في الكثير من الصحف بينها «غارديان» و«ريد بيبر» و«إندبندنت» داخل المملكة المتحدة، و«زنيت» في الولايات المتحدة، و«فرونتلاين» في الهند، و«الأهرام» في مصر. كما أنه أستاذ شرفي بجامعة ستراثكلايد. وعين من قبل باحثا زائرا بالمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في باريس وDeutsche Gesellschaft fuer Auswaertige Politik في بون. عام 1998، ألف كيرتس كتابه «الخداع الأكبر: القوة الأنغلو - أميركية والنظام العالمي»، وحمل الكتاب هدفا معلنا تمثل في إلقاء الضوء على الكثير من الخرافات المرتبطة بالقوة الأنغلو - أميركية في حقبة ما بعد الحرب الباردة. وحاول كيرتس إظهار كيف ظلت المملكة المتحدة شريكا محوريا في جهود الولايات المتحدة لتعزيز هيمنتها عالميا، وحلل ما وصفه بالعلاقة الخاصة بين البلدين وخلص إلى أن هذا الوضع ترتبت عليه تداعيات خطيرة على كليهما.
(الشرق الأوسط)