الوحدة الوطنية في سوريا مفتاح السلام الإقليمي
لقد اتخذت دمشق بالفعل خطوات ملموسة في هذا الاتجاه، لكن المساعدة الاقتصادية الدولية المكثفة والوساطة السياسية ستبقيان عاملين حاسمين، حيث يمكن للأخيرة أن تستفيد من العناصر ذات الصلة في نموذج الحكم في العراق.
شكّل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة المرحلة الأخيرة في عملية إعادة تشكيل جذرية لمشهد الشرق الأوسط. فبعد الهزيمة الساحقة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) كقوة سياسية رئيسية عام 2019، أصبح التهديد الرئيسي المتبقي هو إيران، التي تغذي شبكتها الإقليمية من الوكلاء الحروب في سوريا واليمن، ومنذ عام 2023 في غزة، مدعومة ببرنامجها النووي وشبكاتها الإرهابية وترسانتها من الصواريخ الباليستية.
لكن بحلول منتصف عام 2025، تضاءل هذا التهديد الإقليمي على نحو كبير، على الأقل في الوقت الراهن، إذ انهار معظم وكلاء إيران في المنطقة باستثناء الحوثيين. أسفر ذلك عن شرق أوسط يغدو، للمرة الأولى منذ أعقاب تحرير الكويت، خاليا من أي تهديد إقليمي مباشر وطنياً أو أيديولوجيا. وهذا يفتح الباب أمام تحول واسع، لا في السياسة الإقليمية فحسب، بل أيضا في حياة مئات الملايين، كما أوضح ترامب في خطاباته في الرياض والقدس وشرم الشيخ.
لذا، قد يشبه مستقبل المنطقة واقع أمريكا الجنوبية خلال العقود الثلاثة الماضية، إذ تغدو إلى حد كبير خالية من العنف بين الدول والعنف الأيديولوجي، مع تحقيق قدر متزايد من الرفاه العام. بيد أن لحظات الأمل السابقة في المنطقة، أي بعد حرب عام 1973 وتحرير الكويت، أعقبتها موجات من التطرف والعنف.
يبقى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والوضع غير المستقر في سوريا مجالين تسودهما احتمالات اندلاع مواجهات عنيفة. بيد أنه مع تهدئة الأول نسبيا بفضل وقف إطلاق النار في غزة، قد تبرز سوريا بوصفها العقبة الأهم أمام تحقيق استقرار إقليمي بعيد المدى.
لذا شدد المراقبون الدوليون، ومنهم كبار المسؤولين الأمريكيين، على ضرورة الحفاظ على وحدة البلاد باعتبارها شرطاً مسبقا للاستقرار وإعادة الإعمار على المدى البعيد. لكن هؤلاء المراقبون أنفسهم يشيرون إلى أهمية حماية حقوق الأفراد وصون التقاليد الثقافية للأقليات، فضلا عن قبول مبدأ الحكم المحلي والأمن الذاتي في بعض المناطق على نحو محدود.
ومع ذلك، لن يكون التوفيق بين هذه المتطلبات مهمة سهلة، بيد أنه يمكن البدء من الشمال الشرقي الذي يهيمن عليه الأكراد، حيث أدى اتفاق الوحدة الموقع في أذار/مارس إلى جولات تفاوضية، لكنها لم تحقق تقدما يذكر. من المفترض أن يبدأ الأكراد العملية بخطوة رمزية تتمثل في الاعتراف بسيادة دمشق على منطقتهم، مع مواصلة الحوار حول القضايا الأكثر تعقيدا مثل الحكم المحلي وتكامل الأجهزة الأمنية.
يمكن اعتبار الدستور العراقي وممارسات الحكم منذ عام 2005 نموذجاً محتملاً للمضيّ قُدُماً. ولا يُقصد بذلك الحالة الخاصة بإقليم كردستان، إذ أن ذلك النموذج لا يصلح لتطبيقه في سوريا، بل المقصود هو النظام الأوسع الذي يُوزّع الصلاحيات بين الحكومات المحلية والمركزية في سائر أنحاء العراق، مع تسامح الدولة تجاه القوات الأمنية التي تعمل بشيءٍ من الاستقلالية مع بقائها مرتبطة بالحكومة ارتباطاً غير مُحكم.
تاريخ من الاضطرابات
تمتلك سوريا بلا شك تاريخ طويل من الاضطرابات الداخلية والإقليمية، حيث خاضت حروبا ضد ثلاثة من جيرانها، وهم إسرائيل والأردن ولبنان، واستضافت لفترة طويلة زعيم “حزب العمال الكردستاني” التركي المصنف إرهابياً. خلال الحرب الأهلية السورية التي امتدت بين عامي 2011 و2024، برزت سوريا حاضنة لـ”تنظيم الدولة الإسلامية” “داعش”، الذي مثل النسخة الثانية من تنظيم القاعدة، فيما شُكلت الدعامة الأساسية لشبكة إيران من الوكلاء الإقليميين المسماة بالهلال الشيعي. هذا التاريخ، إضافة إلى عدد سكانها الكبير من المتعلمين، ومكانتها التقليدية في العالمين العربي والإسلامي، وموقعها الجغرافي في قلب بلاد الشام، يجعل نجاح دمج البلاد وشعبها في نظام إقليمي جديد ومستقر أو فشله أمرا بالغ الأهمية لمستقبل الشرق الأوسط بأسره.
حققت سوريا تقدماً لافتاً في عهد رئيسها الجديد أحمد الشرع، ولا سيما بالنظر إلى الحرب الأهلية الوحشية التي استمرت أربعة عشر عاماً، والتي أدت إلى نزوح نصف السكان ومقتل أكثر من خمسمئة ألف شخص، وتدمير معظم المدن السورية، واستمرار العقوبات الاقتصادية القاسية. وقد حافظت البلاد على تماسكها منذ سقوط نظام الأسد قبل نحو عام، بفضل قيادة الشرع ودعم المجتمع الدولي، الذي توحد إلى حد كبير خلف الحكومة الجديدة في دمشق. تشكل إسرائيل عاملاً حاسماً في المشهد، لكن مفاوضاتها مع حكومة الشعار ووقفها للضربات العسكرية يشيران بوضوح إلى أن القادة الإسرائيليين – بضغط من واشنطن – مستعدون لمنح سوريا الجديدة فرصة. تمثل هذه الوحدة الدولية نقطة تحول حاسمة، إذ إن غياب موقف موحد سابقاً بين تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة والدول العربية والأوروبيين والأمم المتحدة حال دون التوصل إلى مقاربة مشتركة خلال الحرب الأهلية، ساهم في إطالة أمدها.
التحديات الرئيسية
يتمثل التحدي المباشر الذي تواجهه سوريا في تحقيق وحدتها الداخلية، نظراً إلى وجود مناطق مسلّحة منفصلة تخضع لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”. بقيادة الأكراد، وإدارتها المدنية المستقلة لشمال وشرق سوريا (AANES) في الشمال الشرقي، إضافة إلى منطقة درزية تقع على طول الحدود مع إسرائيل وتتلقى دعماً منها في الجنوب الغربي. كما تشهد المناطق العربية العلوية على الساحل بروز عدد من حركات المقاومة المسلحة ونشاطاً للمجتمع المدني. في آذار/مارس، وقع الشرع وزعيم “قوات سوريا الديمقراطية” مظلوم عبدي اتفاقاً بشأن التكامل العسكري والسياسي والاقتصادي لشمال شرق البلاد مع الدولة السورية.
بيد أن اندلاع القتال بين الأطراف المختلفة في سوريا – الحكومة المركزية والميليشيات والعلويين خلال شهر آذار/مارس، وبين الحكومة والمليشيات البدوية ضد الدروز في حزيران/يونيو، مثّل ضربة قاسية لمساعي توحيد البلاد وإظهار صورة مستقرة للدولة. أدى هذا التوتر إلى تأخير تنفيذ اتفاق دمشق مع “قوات سوريا الديمقراطية” الذي تم توقيعه في أذار/ مارس، مما أثار انتقادات دولية حادة. لكن دمشق تعاملت مع التداعيات بمرونة وقدرة على احتواء التوترات.
الأهم من ذلك أن دمشق، بخلاف نظام الأسد عام 2011، لم تلجأ إلى تصعيد الأعمال العسكرية، بل اختارت التراجع وبدء حوار مع الجماعات المتضررة، بما في ذلك إسرائيل الداعمة للدروز، التي كانت تنفذ عمليات عسكرية داخل البلاد ضد بقايا الموالين لإيران والأسلحة الثقيلة الموروثة من نظام الأسد، إلى جانب دعمها للدروز. كما أجرت الحكومة تحقيقات في الاشتباكات العنيفة، وأصدرت تقارير رسمية، واعتقلت عددا من الجناة المشتبه فيهم.
على الرغم من أن كثيرين لا يزالون يعدون هذه الخطوات غير كافية، فإنها تعكس نهجا مغايراً عما شهد سابقاً في سورياً وجيرانهاً، لبنان والعراق، خلال صراعاتهم الداخلية المختلفة. في هذه الأثناء، أجرت الحكومة الجديدة انتخابات برلمانية، رغم ما شابها من عيوب، وواصلت المحادثات مع “قوات سوريا الديمقراطية”، التي أحرزت مؤخرا تقدما في دمج القوات العسكرية وبعض القضايا الرمزية الأخرى.
أما المشكلة الثانية الملحة التي تواجهها سوريا فتتمثل في الانهيار الاقتصادي، إذ تعاني مختلف القطاعات، من الصناعة والعملة إلى الوقود والكهرباء، من أزمة حادة. ومن ثم، لن تتمكن سوريا من التعافي من الآثار الاقتصادية الكارثية للحرب الأهلية دون دعم خارجي. فضلا عن المساعدات الإنسانية المستمرة، ستحتاج البلاد إلى دعم دولي واسع لعمليات إعادة الإعمار، واستثمارات جديدة، ورفع ما تبقى من العقوبات الأمريكية والأممية.
يرتبط هذان التحديان، أي الأقليات والاقتصاد، ارتباطاً وثيقاً، إذ سيتأخر الدعم الاقتصادي الدولي، أو حتى تخفيف العقوبات، إن بدت سوريا منقسمة داخلياً ومتأرجحة على حافة الحرب الأهلية. في المقابل، فإن سوريا التي تشهد تحسناً تدريجياً في اقتصادها وتحافظ على ثقة المجتمع الدولي ستكون شريكاً أكثر جاذبية للأقليات حين تقيم رغبتها في الاندماج ودرجته.
أخيراً، فإن تعزيز الدعم الحكومي والمجتمعي للحريات الفردية الأساسية، مثل استقلال القضاء وحرية التعبير والإعلام، والحرية الدينية واللغوية، وإجراء انتخابات حرة، من شأنه تعزيز الثقة مع الأقليات، وتقوية صلات سوريا بالمجتمع الدولي، وتشجيع النمو الاقتصادي، لا سيما عبر القطاع الخاص الذي يشكل عنصرا حاسما في نهضة البلاد.
خارطة طريق الاندماج
يمكن البدء في الطريق إلى الأمام بخطوتين متوازيتين: استمرار الدعم الحكومي لتلك الحريات، بدءًا من تشكيل وسلوك البرلمان المؤقت الجديد، مقابل اتخاذ الأقليات خطوات ملموسة للاعتراف بسيادة الحكومة المركزية. والفاعل الأهم في هذا المسار هو “قوات سوريا الديمقراطية”، إذ رغم أن منطقة الدروز تطرح تحديات مشابهة، فإن صغر حجمها والدعم الإسرائيلي المقدم لها يشيران إلى إمكانية تأجيل التعامل معها إلى مرحلة لاحقة. أما الشمال الشرقي فيشكل جزءا واسعا من البلاد، يعيش فيه ملايين السكان ويحظى بثقل اقتصادي كبير.
فضلا عن ذلك، حدد اتفاق الشرع وعبدى في أذار/مارس موعداً نهائياً بحلول نهاية العام. رغم صعوبة تصور إنجاز اتفاق تكامل بهذا التعقيد في الإطار الزمني المحدد، فإنه ينبغي اتخاذ خطوات أولية لطمأنة دمشق وكسب مزيد من الصبر التركي، نظرا لاهتمام أنقرة البالغ برؤية فرع من فروع “حزب العمال الكردستاني” يندمج تدريجيا في دولة قومية ترتبط بعلاقات ودية مع تركيا.
ويمكن أن تتضمن هذه الخطوات الأولية من قبل “قوات سوريا الديمقراطية”، حسبما اقترح الكاتب في تقرير صادر عن معهد واشنطن، نقل السيطرة الإدارية والأمنية على محافظة دير الزور، ذات الأغلبية العربية، إلى الحكومة المركزية في دمشق، فضلاً عن معابرها الحدودية في الشمال الشرقي مع تركيا والعراق في مراحل لاحقة. وفي الوقت ذاته، يمكن ترسيم التجارة غير الرسمية للنفط بين الشمال الشرقي ودمشق، كما يمكن لـ”قوات سوريا الديمقراطية” تقديم التزامات مكتوبة بعدم تصدير الهيدروكربونات دون موافقة ورقابة الحكومة المركزية. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي على كل من دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية” متابعة مقترحات قائد القيادة المركزية الأمريكية بشأن تعزيز التعاون بين “قوات سوريا الديمقراطية” والجيش السوري في مجالات تبادل المعلومات الاستخباراتية والعمليات، وصولاً إلى التدريب المشترك ضد “تنظيم الدولة الإسلامية”.
العراق كنموذج بحلول نهاية العام، يجب أن تحقق دمشق والمنطقة الشمالية الشرقية تقدماً ملموساً في معالجة القضايا الجوهرية، أي الحكم المحلي، والتكامل العسكري، وتحديد مسؤوليات المحافظات مقابل صلاحيات الحكومة المركزية. وقد يكون من بين النماذج الممكنة في هذا السياق الأفكار الجوهرية المستقاة من دستور العراق لعام 2005 وتطبيقاته العملية.
في المحصلة، يمثل العراق أفضل مثال حديث لانقلاب نظام ديكتاتوري بعثي بفعل انتفاضة شعبية مؤيدة للديمقراطية. لا يقترح هنا اعتماد القسم الدستوري المتعلق بالفيدرالية، إذ يبدو أن النظام الفيدرالي غير قابل للتطبيق في سوريا، بيد أن الفصل القوي بين السلطات وتحديد الحقوق يتوافق تماماً مع نموذج حكومة سورية موحدة. كما ينبغي أن تكون التفاهمات التي يتم التوصل إليها مع الأكراد في الشمال الشرقي قابلة للتطبيق ليس هناك فحسب، بل على المكونات العرقية والدينية الأخرى في سوريا أيضا، بدءا بالدروز والعلويين.
الحقوق الفردية: يبدأ الدستور العراقي بتأكيد صريح على حقوق الأقليات في المادة الرابعة، التي تنص على أن اللغتين العربية والكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق. كما يحدد القسم الثاني منه، عبر الفصلين الأول والثاني، الحريات الأساسية، بما في ذلك الحقوق الفردية، وفصل السلطات، واستقلال القضاء.
سلطات المحافظات: تنص المادة 122 من الدستور على سلطات وامتيازات المحافظات التي لم تدمج في مناطق بموجب النظام الفيدرالي، إذ جاء فيها: تمنح المحافظات غير المندمجة في منطقة سلطات إدارية ومالية واسعة تمكنها من إدارة شؤونها وفقا لمبدأ الإدارة اللامركزية، ويتم تنظيم ذلك بموجب القانون. لا تخضع مجالس المحافظات لسيطرة أو إشراف أي وزارة أو مؤسسة غير مرتبطة بوزارة، وتحظى بمالية مستقلة.
الأهم هنا أن الحقوق والحكم الذاتي في العراق ينطبقان على المستويين الفردي والسياسي الجغرافي، أي المحافظات، وليس على المجموعات العرقية أو الدينية بوصفها مكونات رسمية للدولة كما هو الحال في لبنان. يعد هذا التمييز بالغ الأهمية لتحقيق الحكم الفعال والاستقرار العام.
القوات العسكرية: ينص الدستور العراقي على أن تكون جميع القوات المسلحة تابعة للحكومة المركزية، بيد أن ذلك لم يطبق بشكل صارم بشأن الميليشيات الشيعية المختلفة، وقوات الصحوة السنية ذات الأغلبية العربية بعد عام 2007، وعلى قوات البيشمركة منذ عام 2006. ومن الجدير الذكر أنه دمج بعض عناصر البيشمركة، خاصة الضباط ذوي الخبرة السابقة في الجيش العراقي، بشكل فردي في صفوف الجيش الوطني، بينما دمجت بعض ألوية البيشمركة كاملة ضمن القوات المسلحة الوطنية، وإن ظلت عادة متمركزة في إقليم كردستان. في المقابل، ظلت وحدات أخرى من البيشمركة تحت سيطرة حكومة الإقليم، لكن كانت عملياً تحت نفوذ الحزبين السياسيين الكرديين الرئيسيين. كما تتمتع الحكومات المحلية بسلطة كبيرة على الشرطة المحلية التي تجند من أبناء المحافظات نفسها. ومن المرجح أن تشكل مثل هذه الترتيبات نموذجا منطقيا للتطبيق على “قوات سوريا الديمقراطية.”
ينبغي للمجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة والدول العربية الرئيسية، حث كل من دمشق والسلطات الكردية وتوجيههما نحو البدء في هذه العملية، التي تعد خطوة حيوية ليس لسوريا فحسب، بل للمنطقة كلها.
بقلم:جيمس جيفري
(washingtoninstitute)