
دمشق-بيروت يا جيرة “الهم والهمم”
مع نهاية عام ٢٠٢٤، شهدت لبنان وسوريا تحولات سياسية كبرى. انهار نظام بشار الأسد في دمشق، بينما أدت الهجمات الإسرائيلية على حزب الله في لبنان إلى تحول جذري في ميزان القوى في بيروت، مما أدى إلى بروز قيادات جديدة ذات توجهات سياسية مختلفة.
اللافت للنظر أن الرئيسين الحاليين في كلا البلدين، أحمد الشرع في سوريا وجوزيف عون في لبنان، كانا حتى وقت قريب قائدين عسكريين على طرفي نقيض في صراعات أزهقت أرواحًا كثيرة. واليوم، يُمثل كلاهما رمزًا للتغيير، بعد أن أطاحا بالقوى السياسية المهيمنة في بلديهما. كما تُمثل قيادتهما ابتعادًا واضحًا عن النفوذ الإيراني في لبنان وسوريا، مما يُشير إلى تحالفات جديدة مع الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.
مع ذلك، يبقى السؤال المشروع: هل ستؤثر التوترات السابقة التي فرّقت بين الشرع وعون الآن على العلاقات بين البلدين؟ أم أن الرجلين قادران على بناء علاقة متينة بين الجارتين، ربما لأول مرة في تاريخ لبنان وسوريا؟
تدخلت المملكة العربية السعودية للمساعدة في التقريب بين لبنان وسوريا بعد سنوات من العلاقات المتوترة. وجاءت خطوة رمزية عندما التقى وزيرا دفاع لبنان وسوريا في الرياض في مارس الماضي. كما دعمت المملكة العربية السعودية زيارة رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام إلى دمشق في أبريل، وساعدت في ترتيب مكالمة هاتفية بين عون والشرع في فبراير. وجرت مكالمة ثانية بين الرجلين خلال زيارة عون إلى باريس في أواخر أبريل، والتقيا على هامش القمة العربية الاستثنائية في القاهرة في منتصف مايو. أدت هذه الخطوات إلى الحديث عن فرص جديدة للتعاون الاقتصادي والسياسي بين البلدين، وخاصة بعد إعلان الولايات المتحدة رفع العقوبات عن سوريا. ومع ذلك، وعلى الرغم من التفاؤل، لا تزال هناك شكوك حقيقية للغاية حول مدى إمكانية وصول العلاقات اللبنانية السورية.
لا تزال العديد من المشاكل دون حل. إحدى القضايا الرئيسية هي مطالبة سوريا لبنان بتسليم السجناء المحتجزين حاليًا في السجون اللبنانية. رفض لبنان القيام بذلك، بحجة أن الأفراد المطلوبين كانوا متورطين في هجمات ضد الجيش اللبناني. تضم السجون في لبنان، ولا سيما سجن رومية، أكثر من 2100 معتقل سوري، وكثير منهم محتجزون دون محاكمة لسنوات. ومن بين هؤلاء الأفراد أعضاء سابقون في الجيش السوري الحر وآخرون متهمون بالمشاركة في اشتباكات عرسال عام 2014. أفادت منظمات حقوق الإنسان أن بعض المعتقلين تعرضوا للتعذيب والاعترافات القسرية. في أوائل عام 2025، أعلنت سوريا ولبنان عن اتفاق لإعادة عدد معين من السجناء السوريين. ومع ذلك، بعد تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة، لم تُتخذ أي خطوات محددة لتنفيذ الاتفاق، الذي لا يزال متعثرًا.
كما تواصل سوريا التعبير عن إحباطها من التهريب على طول الحدود مع لبنان، متهمة السلطات اللبنانية بالفشل في اتخاذ الإجراءات الكافية. من المنظور السوري، لا يُعد التهريب مجرد قضية أمن حدودية؛ يُشير هذا، من وجهة نظرهم، إلى غياب التزام حقيقي من جانب بيروت بالتعاون الجاد.
وهناك مشكلة أخرى تتمثل في طبيعة التزام الحكومة اللبنانية بنزع سلاح جميع الأطراف في لبنان. فوفقًا لمصادر مقربة من الإدارة السورية، بينما يبدو لبنان حازمًا في مسألة مصادرة أسلحة حزب الله الثقيلة الموجهة ضد إسرائيل، إلا أنه اتخذ نهجًا أكثر مرونة تجاه الأسلحة الخفيفة والمتوسطة التي تستخدمها الأطراف اللبنانية في الاشتباكات مع سوريا. ويعتقد المسؤولون السوريون أن بيروت لا تبذل جهودًا كافية لمعالجة هذه المسألة، ويرونها علامة على ضعف في إنفاذ القانون أو تردد سياسي.
كما ساهمت سياسات الحدود في تعميق انعدام الثقة. فقد توقعت الحكومة السورية الجديدة أن يُخفف لبنان القيود الحدودية، ولكن عندما لم يفعل، شددت دمشق أيضًا إجراءات دخول المواطنين اللبنانيين. كما شدد لبنان قيود دخول السوريين – وخاصة عبر مطار بيروت – وفرض رسومًا حدودية على السوريين الداخلين إلى لبنان، قبل أن يتراجع عن قراره. وتخشى السلطات اللبنانية من أن يُؤدي تسهيل حركة العبور عبر الحدود إلى مزيد من زعزعة استقرار لبنان، لا سيما في ظل وجود ما يقرب من مليوني لاجئ سوري في البلاد واستمرار حالة عدم الاستقرار في سوريا. وتتفاقم هذه المخاوف بسبب المعارضة السياسية المحلية المتزايدة لوجود اللاجئين، وتفاقم الصعوبات الاقتصادية، وتزايد المخاوف الأمنية.
برزت لحظة أخرى مثيرة للجدل عندما التُقطت صورة لعون وهو يصافح الشيخ موفق طريف في حفل تنصيب البابا ليون الرابع عشر في مايو. وطريف هو الزعيم الديني للطائفة الدرزية في إسرائيل. وأوضح المكتب الإعلامي لعون لاحقًا أن عون لم يكن على علم بهوية طريف. إلا أن مصدرًا مقربًا من الحكومة السورية وصف الحادثة بأنها خطأ دبلوماسي ذي تداعيات رمزية، نظرًا لسعي إسرائيل الدؤوب لتفتيت الطائفة الدرزية السورية.
وبرزت أوضح إشارة على أن الأمور ليست على ما يرام خلال خطاب ألقاه الشرع في 14 مايو، بعد وقت قصير من رفع معظم العقوبات الدولية رسميًا عن سوريا. ففي خطاب متلفز، شكر علنًا قائمة طويلة من الدول – من دول الخليج إلى تركيا ودول شمال إفريقيا – على دعمها خلال المرحلة الانتقالية في سوريا. ومن اللافت للنظر أنه لم يذكر لبنان، على الرغم من استضافته عددًا كبيرًا جدًا من اللاجئين السوريين منذ بداية الصراع السوري. وكان هذا الإغفال مقصودًا بوضوح. لم تكن العلاقات بين لبنان وسوريا يومًا بسيطة أو متوازنة. لذا، تُفسَّر حتى الأحداث الصغيرة اليوم من منظور طائفي وسياسي. هناك رأي سائد بين اللبنانيين مفاده أن سوريا تنظر إلى بلادهم كجار ضعيف، ينبغي أن يخضع لنفوذ دمشق. في المقابل، يعتقد السوريون أن لبنان يتصرف بطريقة غير محترمة تجاه القيادة السورية الجديدة. ووفقًا لمصدر سوري، فإن وراء كل هذه التوترات الطائفية غير المعلنة، لا تزال تُشكّل مواقف كلا الجانبين.
علاوة على ذلك، يُؤدي هذا التوتر أيضًا إلى انقسامات سياسية داخل القيادة اللبنانية نفسها. اتخذ عون موقفًا حذرًا وحازمًا تجاه سوريا، بينما يدفع رئيس الوزراء نواف سلام وفريقه نحو نهج أكثر انفتاحًا وعمليًا. يعتقد معسكر سلام أن التعامل مع سوريا – حتى لو تطلب ذلك تقديم بعض التنازلات – يمكن أن يُساعد لبنان على النمو سياسيًا واقتصاديًا. ويُجادل بأن موقف لبنان تجاه سوريا يؤثر على نظرة دول الخليج وتعاملها مع بيروت، ويُفسّر سبب عدم دعوة لبنان إلى القمة الخليجية الأمريكية. القمة التي استضافتها المملكة العربية السعودية في 14 مايو/أيار، خلال زيارة الرئيس دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط.
ردًا على ذلك، ووفقًا لمصادر مقربة من سلام، حذّر فريق عون من أن الرضوخ للمطالب السورية قد يُهدد سيادة لبنان. ويخشون أن يفتح ذلك الباب أمام تجدد النفوذ السوري في البلاد، وإن كان بشكل مختلف عما كان عليه في الماضي. كما يُشيرون إلى مخاوف بشأن وضع اللاجئين السوريين والتهديدات الأمنية المحتملة المرتبطة بسوريا.
في النهاية، تُعدّ علاقة لبنان بسوريا مسألة سياسة خارجية ومسألة خلاف داخلي بين الرئاسة اللبنانية ورئاسة الوزراء، حيث يسعى كل منهما إلى تحديد تحالفات لبنان. يحدث كل هذا في وقت لا يكون فيه الوقت في صالح لبنان، وفي ظلّ أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية متفاقمة.
(carnegieendowment)