
شركات تنوي الإستثمار,وتثير الجدل
ثمة صورة باتت تتكرر في المشهد السوري، تصدرها السلطات السورية الانتقالية عبر أذرعها الإعلامية إلى الداخل والخارج، وتظهر فيها أن “الدولة تسعى” إلى إنعاش الاقتصاد المدمّر وتحسين الواقع المعيشي للمواطنين. وبين الفينة والأخرى، يخرج مسؤولو الحكم الجديد في دمشق معلنين عن توقيع اتفاقيات استثمارية “ضخمة” تقدر بمليارات الدولارات.
وفي هذا الصدد، شهد القصر الرئاسي أو قصر الشعب في دمشق، اليوم الأربعاء، توقيع 8 مذكرات تفاهم استثمارية مع عدد من الدول، بقيمة وصلت إلى 14 مليار دولار أميركي. وتشمل هذه المذكرات مشاريع في مجالات النقل، والبنية التحتية، والإسكان، والخدمات.
وكان من بين هذه الشركات، وفق الإعلام الرسمي، هي شركة تركية تدعى Polidef، والتي قيل إنها ستتولى إدارة مطار دمشق الدولي. إلا أن بحثا بسيطا يكشف أن الشركة شبه مجهولة الهوية، إذ لم يتوفر كامل المعلومات عنها وعن مشاريعها السابقة.
شركة “وهمية” ستدير مطار
وبالتدقيق في هوية الشركة التركية نفسها، تبرز علامات استفهام جدية، في مشهد يمكن وصفه بـ”غياب الشفافية”، ووجود مؤشرات على “شركات وهمية” أو ربما أنشئت خصيصا لهذا النوع من العقود.
فالموقع الإلكتروني للشركة (polidef.com) تم تسجيله حديثا بتاريخ 9 تموز/يوليو 2024، ولا يحتوي سوى على معلومات عامة ومبهمة. لا وجود لها على منصات مهنية مثل LinkedIn، ولا يوجد ما يشير إلى أي مشاريع سابقة نفذتها، أو حتى طاقم عمل يمكن البحث عنهم والتعرف على أعمالهم أو خبراتهم.
كما أن عنوانها المدرج على الموقع في إسطنبول، لا يطابق سجلات الشركات العاملة في نفس المبنى. كما أن رقم الهاتف المدرج على موقع الشركة التركية، مستخدم أيضا في موقع إلكتروني آخر يعود لشركة تدعى FALK Mühendislik İnşaat Sanayi ve Ticaret LTD، وتم تسجيله بتاريخ 11 تشرين الأول/أكتوبر 2024، ويستخدم القالب ذاته للموقع الأول.
والموقع الثاني يقدم نفسه كواجهة لشركة إعمار، لكنه يخلو من أي معلومات حقيقية أو أعمال سابقة، ما يعزز فرضية أن الحديث يدور عن شركة جديدة لم تنفذ أي مشاريع من قبل، ما يعزز فرضية أن الشركة قد تكون مجرد “شركة واجهة” (Shell Company) أنشئت خصيصا لتوقيع هذا العقد أو لإخفاء هوية الأطراف الحقيقية وراءها، وسط الغياب الكامل للشفافية من الجانب السوري الرسمي.
ورغم أن المعلومات المتوفرة ليست مؤكدة، إلا أن غياب الشفافية الكاملة من جانب السلطات السورية الانتقالية بشأن تفاصيل صفقاتها الاقتصادية، يدفع إلى الشك والتساؤل عمّا يتم تداوله علنا، ويثير تساؤلات جدية عمّا يخفى خلف الأفنية.
كذلك، أثيرت الشكوك حول شركة إيطالية أخرى تدعى UBAKO، كانت من بين الجهات التي وقعت مذكرات تفاهم استثمارية في قصر الشعب، حيث يفترض أن تتولى تنفيذ مشروع “أبراج دمشق” بقيمة ملياري دولار.
ما أظهرته السجلات الرسمية الإيطالية والمعلومات المتاحة على الموقع الإلكتروني للشركة، فإن UBAKO تأسست في 1 حزيران/يونيو 2022، ويبلغ رأسمالها المسجل 16 ألف يورو فقط.
وإن الشركة سجلت في عام 2020 خسائر تشغيلية سنوية بقيمة 3300 يورو، وبلغت إيراداتها السنوية في عام 2023 نحو 209 آلاف يورو، في حين لم يتجاوز عدد موظفيها الرسميين في عام 2025 موظفا واحدا فقط.
كما تفتقر الشركة لأي معلومات واضحة حول هيكلها الإداري أو الجهات المالكة لها، حيث يقتصر الظهور العلني على اسمين فقط: Giovanni Rossi بصفته الرئيس التنفيذي، وAlessia Conti كمديرة للعمليات. والمفارقة، أن رابط “فيسبوك” الموجود على موقع الشركة يحوّل المستخدم إلى صفحة شخصية لرجل يدعى بسام السبع، يعرّف نفسه بأنه يملك شركة مقاولات في دمشق “درجة ممتازة”، ولديه شركات في أميركا ولبنان، ما يثير مزيدا من التساؤلات حول مدى مصداقية الشركة وصفقة الملياري دولار.
هيمنة رجال “هتش” على الاقتصاد
في المقابل، بدا أن بعض الشركات الإماراتية والقطرية المشاركة في الاتفاقيات الموقعة اليوم في القصر الرئاسي، تتوفر عنها معلومات كافية وواضحة.
لكن اللافت أيضا، هو مشاركة عدد من الشركات السورية المتمركزة حاليا في إدلب، وهو مؤشر إلى أنه يمكن أن تكون بعض الجهات الفاعلة في دمشق لا تزال تحتفظ بشبكات مصالح اقتصادية تعود إلى مرحلة سيطرة “هيئة تحرير الشام/جبهة النصرة سابقاً” على شمال غرب البلاد، ما قد يشير إلى استمرار الولاءات أو الشراكات السابقة، وتطبيقها على عموم البلاد.
في العموم، تبدو مشروعات إعادة الإعمار أو تطوير البنية التحتية في سوريا، أقرب إلى واجهة سياسية من كونها مسعى اقتصاديا حقيقيا، في ظل غياب الشفافية، والرقابة، واستمرار التدهور المعيشي للسوريين في الداخل المأزوم على جميع المستويات.
وكما هو معروف أن “هيئة تحرير الشام/جبهة النصرة سابقا” (هتش) أسست منظومة اقتصادية خاصة بها في مناطق سيطرتها (إدلب)، وأي نشاط تجاري عمل في إدلب خلال فترة حكم الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، المعروف سابقاً باسم “أبو محمد الجولاني” يعد بشكل أو بآخر، مرتبطا بـ”الهيئة” أو مملوكا لها.
أرقام فرص العمل تثير الشكوك
وتم توقيع الاستثمارات اليوم الأربعاء في القصر الرئاسي بدمشق بحضور الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع والمبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توم باراك.
وقال رئيس هيئة الاستثمار السورية، طلال الهلالي، إن الاتفاقيات تشمل تنفيذ 12 مشروعا استراتيجيا في عشر محافظات سورية، مؤكدا أنها تهدف إلى “إحداث نقلة نوعية في البنية التحتية والحياة الاقتصادية في البلاد”، وفق “الإخبارية السورية ” الرسمية.
وأضاف الهلالي خلال كلمته: “اجتماعنا اليوم ليس مجرد مناسبة رسمية، بل هو إعلان واضح وصريح أن سوريا منفتحة على الاستثمار، وعازمة على بناء مستقبل مزدهر، ومستعدة للعمل جنبا إلى جنب مع شركائنا الموثوقين لكتابة فصل جديد من النهوض والبناء”.
وأبرز المشاريع الموقعة: تطوير مطار دمشق الدولي باستثمار قدره 4 مليارات دولار. تنفيذ مشروع مترو دمشق باستثمار 2 مليار دولار. أبراج دمشق باستثمار 2 مليار دولار. أبراج البرامكة باستثمار 500 مليون دولار. مول البرامكة باستثمار 60 مليون دولار. إضافة إلى مشاريع بنية تحتية وتنقل حضري لم تفصح الحكومة عن تفاصيلها.
من جانبه، أعلن محافظ ريف دمشق، عامر الشيخ، أن مشروع “مدينة أبراج دمشق” سيبنى وفقا لمعايير عالمية، وسيتضمن 60 برجا من 25 طابقا لكل منها، إضافة إلى أربعة مولات تجارية ومنشآت رياضية، مع مراعاة شروط الاستدامة البيئية.
وقال الشيخ إن هذه المشاريع ستوفر ما يقارب 200 ألف فرصة عمل، كما يجري العمل على إعداد مخططات لإعادة إعمار المناطق المدمرة في المحافظة نتيجة سنوات الحرب.
ورقم 200 ألف فرصة عمل يثير العديد من التساؤلات والشكوك، مثل الرقم الذي قدمه رئيس الهيئة العامة للطيران المدني عمر الحصري حيث تحدث عن توفير مليون فرصة عمل عبر مشاريع النقل الجوي، متجاهلا أن هذا الرقم يمثل نحو 10% من مجمل اليد العاملة في البلاد، في حين أن قطاع الطيران في دول كبرى مثل ألمانيا لا يشغل أكثر من 120 ألف شخص.
ووفق البيانات الرسمية الصادرة في أيار/مايو 2025، بلغ عدد العاملين في قطاع الطيران بجميع فروعه في الولايات المتحدة الأميركية — وهي الأكبر عالميا في هذا المجال — نحو مليون و11 ألف موظف. وبالتالي يتساءل السوريون: “هل تعتقد الحكومة السورية الانتقالية حقا أنها تنافس أكبر سوق طيران في العالم بإعلانها عن مليون فرصة عمل في هذا القطاع؟ أم أن ما يجري ليس إلا فصلا جديدا من فصول بيع الوهم والتضليل الاقتصادي؟”.
هذا النوع من التصريحات يلخص تماما جوهر الأخبار الاستثمارية ومذكرات التفاهم التي تعلن عقب كل كارثة ترتكبها الحكومة السورية الانتقالية. وتماما كما أن مذكرات التفاهم تلك لا تترجم إلى واقع، فإن هذه الأرقام أيضا لا تعدو كونها وعودا فارغة تكرر لبيع الوهم، لا أكثر.