
شهداء الغار
حدثت منذ يوم ٦ آذار المشؤوم حوادث عدة في المدن ذات الأغلبية الإسماعيلية (القدموس ومصياف وسلمية)، وآخرها قصة المعارض الشاب عرفان الشيخ حيدر (هو قريب لعائلتنا)، وهو المعتقل السابق في المخابرات الجوية، والمنشق المتواري من الجيش، والذي خسر مستقبله إيماناً بحلم الثورة والحرية والتغيير، ليجد نفسه فجأة موضوعاً في مصاف مجرمي الأسد، فأحرق ورقة التسوية في حالة ألم وانفعال,والقصة أصبحت معروفة.
كنتُ حريصاً منذ أن وعيتُ وتثقفتُ في مطلع حياتي، وهذا ما تجلى بعمق بعد الثورة، على عقلنة الهوية الموروثة (هوية النسب بالولادة)، ليس من باب التنصل منها، على العكس من ذلك؛ إنما لقناعتي أولاً أن الإنسان هو مجموعة من الهويات المركبة والمتراكبة والمتشابكة، وأن هويته الموروثة بالولادة تغتني وتتسع بقدر انقتاحها على الهوية المكتسبة وتفاعلاتها في الحياة والثقافة والحرية، فلا تناقض في وجود جملة من البنى الهوياتية المكونة والمتفاعلة ما دامت الذات حرة.
وربما كنتُ محظوظاً بالانتماء إلى بيئات كثيرة منذ طفولتي بدءاً بالجذور القدموسية لعائلتَيْ (أبي ابن مصياف، وأمي ابنة سلمية)، مروراً بمسقط رأسي اللاذقية التي أعد نفسي منتمياً إليها روحاً وتجربة ووعياً، فضلاً عن عملي سنوات طويلة كمعيد في جامعة حمص المدينة الأخاذة والساحرة بروحها وطبيعة أهلها، وانتهاء بمدينة المدن وعاصمة القلب والعقل وحبل سرة التاريخ دمشق.
لم أقبلْ يوماً أن أُختَزل في هوية فرعية، ولا أقبل أن يكون خطابي الحياتي والثقافي والسياسي إلا خطاب الإنسانية المنفتحة المتجددة، والهوية الوطنية الجامعة، لذلك لم أكتب ولا مرة عن حدث سلبي يخص مدن هويتي الموروثة، ولا يعني هذا رفضي لمن يكتب عن ذلك، على العكس من هذا: ينبغي أن لا يسكت أحد عن أي انتهاك أو تجاوز، فلكل شخص وطني منا دور وواجب ومسؤولية، لكن علينا أن نحذر دائماً من ازدواحية المعايير الإنسانية والأخلاقية والوطنية، ومن تهافت تفضيل دم على دم، أو تجاهل جريمة وإضاءة جريمة أخرى.
ذات يوم خلال الثورة صدر بيان تهديدي وتكفيري لسلمية وأهلها، فأرسل لي صديق قديم مؤيد (موجود على صفحتي حالياً) نصّ البيان، واستبقَ تعليقي قائلاً: “ما تقلي هادا شغل مخابرات النظام”، فأجبته: “يا صديقي الغالي حتى لو البيان حقيقي فرضاً أنا لم ألتحق بهذه الثورة العظيمة كي أقيم دولة إسماعيلية”.. صمت بعد أن قرأ جوابي هذا، واختفى من دون أي تعليق.
لا أدعي المثالية او الطهرانية، فأنا ابن هذا البلد ومصائبه، وابن هذا المجتمع وأمراضه، لكنني أحاول أن أدقق في المفاهيم والخطابات، وأن أوجد العقل الوطني الجامع في التفكير والسلوك والفعل بعيداً عن روح الثأرية والغرائزية والشعبوية، وهذا أمر ليس سهلاً على الطبيعة البشرية على نحوٍ عام، فما بالنا بأناسٍ حرموا تاريخياً من الممارسة السياسية، ومن الحرية والفضاء العام والحياة المدنية الطبيعة، وكذلك من الثقافة والتعليم العصري في ظل الاستبداد والسلطة العنفية الأمنية التي رسخت كل بنى التخلف والفوات التاريخي، وهي التي اشتغلت على توسيع الشروخ الاحتماعية والتناقضات واستثمارها من أصغر حي أو قرية إلى أكبر مدينة.
جريمة قتل هذين الشابين اليوم في ريف اللاذقية (جامعي الغار الفقيرين والمكافحين) هي جريمة تكسر القلب، وتمس في الجوهر كل وطني سوري من دون استثناء، فلا مساومة أو مفاضلة في الدماء، ومن يظن أن الصمت على حدث كهذا، وعلى تكراره يمنحه مساحة الأمان، هو مخطىء تماماً، وقد بات الكلام مملاً حول فكرة أننا في مركب وطني واحد فإما ننجو معاً، أو نغرق معاً.
نعم,العدالة لا تتجزأ، والاستقرار لا يتجزأ، ومشروع بناء الدولة لا يمر إلا باحترام كرامات الجميع من دون استثناء، والبقاء على مسافة واحدة من كل مواطني البلد، وأتمنى أن تركزوا على مصطلح (المواطنين)، وما يعنيه حقوقياً وقانونياً ودستورياً، وقبل ذلك أخلاقياً وإنسانياً، والمسؤولية تقع حكماً ومن دون تأويل أو تسويف أو مواربة على عاتق السلطة في إنهاء هذه الكوارث المتراكمة أولاً وأخيراً بحكم كل المفاهيم والمنظومات المعمول بها في العالم، وفي محاسبة المجرمين، وضبط الأمن.
قريبي بالوراثة والهوية الطائفية (عرفان) حماه الله وأطال في عمره، ليس أقرب لي من شهداء تفجير إعزاز منذ فترة، ولا أقرب لي من شهداء كنيسة مار الياس في الدويلعة، ولا أقرب لي من شهيدي الغار في ريف اللاذقية ولا.. ولا.. (رحمهم الله جميعاً).
نحتاج جميعاً إلى العقل والأخلاق والخطاب البنَّاء والجامع، لا إلى التحريض الغرائزي الذي سيحرق الجميع في وطن محطم يحلم أبناؤه بالأمن والأمان أولاً وأخيراً، وبالعدالة والرفاهية والحرية ثانياً وثالثاً وعاشراً.. حمى الله سورية والسوريين الذين تكسرت نصال الوجع على نصال الوجع في أرواحهم المكلومة منذ عقود طويلة.
مازن أكثم سليمان