عبور تحت الفصل السابع
ما يجري في سورية اليوم ليس خلافاً على سلطة، ولا نزاعاً بين تيارات، بل هو عبورٌ محفوفٌ بالشروط نحو مستقبلٍ لا يزال غامض الملامح. عبورٌ لا يملك السوريون ترفَ رفضه، ولا القدرة على رسم حدوده، لأن ملامحه تُكتب هذه المرة في أروقة الأمم المتحدة، لا في شوارع المدن المدمّرة.
في السادس من نوفمبر 2025، اتخذ مجلس الأمن الدولي قراراً بدا، للوهلة الأولى، وكأنه طيٌّ لصفحة الحرب عبر رفع اسم أحمد حسين الشرع (أبو محمد الجولاني)، رئيس الحكومة السورية الانتقالية، ووزير داخليته أنس حسن خطاب، من قوائم الإرهاب الدولية. غير أن هذا “العبور” لم يكن بريئاً ولا مجانياً، بل جاء مشروطاً ومقنناً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ليضع سورية الجديدة أمام امتحانٍ صعب عنوانه: هل تستطيع الدولة الناشئة أن تُثبت أنها دولة قانون، لا بقايا تنظيم؟
القرار، الذي صاغته الولايات المتحدة وعدّلته روسيا والصين ليمرّ دون فيتو، لم يكن مكافأة سياسية، بل أداة ضبطٍ واستتباعٍ ذكية. فقد اشترط النص الأممي على الحكومة الانتقالية أن تتعامل “بشكل فوري وشفاف” مع ملف المقاتلين الأجانب داخل الأراضي السورية — أولئك الذين يُقدَّر عددهم بعشرات الآلاف — عبر نزع سلاحهم، أو ترحيلهم، أو إخضاعهم لبرامج إعادة تأهيل تحت إشرافٍ أممي مباشر. أي أن الشرع وخطاب لم يُنزعا من قوائم الإرهاب إلا ليُدرجا في قائمةٍ أخرى أكثر دقّة: قائمة المراقبة القانونية الدولية.
ولم يأتِ الإجماع الدولي دون أثمان. فقد اشترطت الصين ضمانات مكتوبة تتعلق بالمقاتلين الأويغور المنتمين إلى حزب تركستان الإسلامي، فيما طالبت روسيا بتدابير تحول دون عودة الشيشان والداغستانيين إلى القوقاز كقنابل موقوتة. أما واشنطن، فحافظت على النصّ الأهم في القرار: أن أي إخفاق في تقديم تقارير مفصّلة عن وضع المقاتلين الأجانب سيؤدي تلقائياً إلى إعادة إدراج الشرع وخطاب في القوائم السوداء، وتجميد أصولهم، وفرض حظر سفر دولي فوري — وكل ذلك تحت مظلة الفصل السابع الملزم قانوناً.
بذلك تحوّل قرار مجلس الأمن إلى وثيقة عبور مشروط: بوابة تفتح باب الاعتراف، لكنها تترك مفتاحها في يد المجتمع الدولي. فالمهلة المحددة بستة أشهر لتقديم تقرير شامل إلى لجنة العقوبات (1267) ليست مجرد إجراء بيروقراطي، بل عدٌّ تنازلي سياسي يحدد إن كانت دمشق الجديدة ستنجو من عزلتها، أم ستُعاد إلى المربع الأول.
وزير الداخلية، أنس خطاب، يقف في قلب هذا الامتحان. فبصفته المسؤول عن الأمن الداخلي، وضبط الحدود، ومراكز الاحتجاز، سيكون أول من يُحاسَب إذا فشل برنامج نزع السلاح أو ظهرت أي مؤشرات لتورط عناصر في تهريب أو دعم لوجستي للمقاتلين. فالفصل السابع لا يمنح فرصة ثانية؛ ومنطقه بسيط وواضح: “الامتثال أو العقاب”.
في المقابل، تحاول دمشق الانتقالية كسب الوقت وتخفيف الضغط عبر سلسلة اتصالات مع الإنتربول وعددٍ من الدول الأوروبية لترحيل المقاتلين، لا سيما الأوروبيين والتونسيين، كإشارة إلى الانضباط والجدية. لكنّ هذا المسار نفسه يكشف حجم هشاشة الدولة الجديدة، إذ يُظهر أن سيادتها أصبحت مشروطة بقدرتها على تنفيذ إرادة الخارج قبل أن تُعيد بناء إرادة الداخل.
وهنا يكمن الخطر الحقيقي: أن يتحول “العبور المشروط” من نافذةٍ نحو الشرعية إلى قيدٍ جديدٍ على القرار الوطني. فكل بند من بنود القرار الدولي يحمل في طياته سؤالاً وجودياً: هل سورية ما بعد الحرب قادرة على أن تكون فاعلة أم ستظل مفعولاً بها؟ وهل يمكن أن تنجو من وصمة الماضي دون أن تفقد حقها في تقرير مستقبلها؟
اليوم، أكثر من أي وقتٍ مضى، يحتاج السوريون إلى وعيٍ جماعيٍّ يدرك أن معركة السيادة لا تُحسم بالبيانات ولا بالولاءات، بل بالقدرة على بناء دولة مؤسسات تُقنع العالم بأنها شريك مسؤول لا موضوع مراقبة. الصمت بحجة “النجاة” لم يعد نجاةً، بل استسلاماً مؤجلاً.
إن سورية تقف اليوم عند مفترق طرقٍ تاريخي: فإما أن تُثبت أنها جديرة بالعبور إلى الشرعية الدولية بكرامةٍ ووضوح، أو تُترك رهينةً لشروط الخارج وتناقضات الداخل. وما لم يتوحد السوريون على مشروع وطنيٍّ جامعٍ يتجاوز الانقسامات، فإن العبور المشروط سيتحول إلى عبورٍ مراقَبٍ نحو المجهول.
بقلم: د. ياسين العلي
*باحث اقتصادي وناشط سياسي