بعد عام:رفع الدعم ,واستثمارات على الورق
بعد عام من سقوط النظام، تحركت عجلة الاقتصاد خطوات صغيرة نحو الأمام، خصوصًا في النجاح السريع الذي حققته الحكومة بالنسبة لتوفير كافة السلع، وأهمها الغاز والمحروقات، فضلًا عن زيادة رواتب الموظفين الحكوميين بنسبة 200%.
لكن على المقلب الآخر، لا تزال المفاصل الكبيرة للاقتصاد تعاني من الشلل الواضح؛ فالسوق المالية تعاني من تجفيف السيولة وعدم استقرار الليرة، وتم رفع الدعم الاجتماعي عن المواطن من دون أخذ التفاوت الكبير بين حجم المداخيل والتكاليف المعيشية والخدمية بعين الاعتبار، بينما لم تدخل معظم مذكرات التفاهم الموقعة خلال العام الماضي حيز التنفيذ.
تحرير التجارة يوفر السلع
يرى الوزير السابق في الحكومة السورية المؤقتة، الدكتور عبد الحكيم المصري، أن النظام الأسدي تسبب بتدمير الاقتصاد السوري بكامل قطاعاته وبناه التحتية، بدءًا من قطاع النفط والغاز وصولًا إلى الزراعة والسياحة، وليس انتهاءً بالقطاع التجاري الداخلي والخارجي.
ولفت الوزير السابق إلى أن عملية التدمير هذه أوجدت عبئًا كبيرًا على عاتق العهد الجديد، خاصة مع التأثيرات الجسيمة للعقوبات الدولية التي تم رفع بعضها وتعليق البعض الآخر. ورغم هذه الكوارث الاقتصادية، يلاحظ المصري توفر جميع السلع وحوامل الطاقة في السوق منذ سقوط النظام، الأمر الذي يعد إحدى الإيجابيات التي تحسب لصالح العهد الجديد.
بدوره، اعتبر الباحث الاقتصادي، محمد علبي، أن تحسّن توفر المحروقات خلال العام الماضي، قائم على ترتيبات ظرفية أكثر مما هو قائم على بنية مستقرة. ولفت إلى أن جزءًا من هذا التوفر يعود إلى التفاهمات المؤقتة مع شرق الفرات، وجزءًا آخر ناتج عن المساعدات الخارجية والباقي يتعلق بعودة إمكانية الاستيراد بالطرق التقليدية.
لا تزال المفاصل الكبيرة للاقتصاد تعاني من الشلل الواضح؛ فالسوق المالية تعاني من تجفيف السيولة وعدم استقرار الليرة
ومع ذلك، يرى علبي أن البلاد ما زالت من دون سياسة طاقة وطنية واضحة، ومن دون مصافٍ عاملة بكفاءة أو شبكة توزيع قادرة على مواجهة الاختناقات. أما السلع الغذائية فتعكس وضعًا أكثر خطورة، إذ شهد الإنتاج الزراعي تراجعًا كبيرًا هذا العام، ما جعل السوق المحلية أكثر هشاشة أمام الصدمات الخارجية، وأقرب إلى الاعتماد شبه الكامل على الاستيراد في تأمين احتياجاتها الأساسية، في حين كان توافر بعض السلع التي يُنتجها الصناعي أو المزارع السوري ضارًا ببنية الإنتاج في سوريا.
الدولرة المعلنة حاجة ملحة
من جانب آخر، جرت عملية موسعة تخص عملة التداول، وهي ظاهرة الدولرة المعلنة للسلع والخدمات وجزء من الرواتب. ويعد الدكتور المصري هذه الظاهرة تطورًا مهمًا وملحًا، نظرًا لما تمنحه هذه الدولرة من استقرار اقتصادي وجدوى استثمارية وتجارية. وأضاف أن هذه الدولرة تعتبر أمرًا طبيعيًا في ظل حالة عدم الاستقرار التي تطاول الليرة الوطنية، حيث من المعتاد في هذه الحالة اللجوء إلى عملة مستقرة وأهمها الدولار، الذي يضمن حقوق التجار والمستثمرين، في ظل تحرير التجارة وأسعار السلع.
من جانبه، يوضح علبي أنه بعد عام على سقوط النظام يمكن القول إن الدولرة لم تعد مجرّد ظاهرة اجتماعية أو خيارًا اضطراريًا، بل تحوّلت إلى بنية تشغيلية للاقتصاد السوري. وأشار إلى أن ما حدث لم يكن خطوة إصلاحية تهدف لخلق استقرار نقدي، بقدر ما كان اعترافًا مباشرًا بفقدان القدرة على حماية العملة أو إصلاح السياسة النقدية. ومع تآكل الثقة بالمؤسسات واستمرار الانقسام المالي بين ثلاث سلطات نقدية بحكم الأمر الواقع (المركزي/شمال غرب/شرق الفرات)، أصبح اعتماد الدولار وسيلة لتسيير الحياة الاقتصادية، لا مشروعًا نقديًا منظمًا.
هذا التحوّل، بحسب ما يضيف علبي، يعكس في جوهره ضعف السيادة النقدية، ويبقي الباب مُشرعًا لسلوكيات ضارة جدًا بالنقد والاقتصاد كالمضاربة على العملة، وتغيب حتى الآن ملامح الإصلاح النقدي، وهي التي يجب أن تسبق خطوة حذف الأصفار المُزمعة، وذلك يؤدي حُكمًا إلى حالة من عدم الثقة، قد تؤدي بدورها إلى فشل العملية برمّتها.
إسدال الستار على الدعم الاجتماعي
إلى ذلك، شهد العام الذي تلا سقوط النظام البائد استئناف العهد الجديد للملف الذي كان النظام الأسدي قد بدأه، وهو إيقاف الدعم الاجتماعي الذي كان سمة الاقتصاد السوري على مدار عقود، وقد تم إسدال الستار الأخير على هذا الدعم بعد تحرير كافة السلع، وأهمها المحروقات والمواد التموينية، فضلًا عن رغيف الخبز وتعرفة الكهرباء.
تعليقًا على ذلك، ينتقد الدكتور المصري الرفع الكامل للدعم الاجتماعي عن المواطن، وإن كان ذلك حالة طبيعية، كما يرى، غير أن وجه هذا الانتقاد يتمثّل في أن على الدولة قبل الإقدام على هذه العملية، أن تقوم بالعمل على توفير حد أدنى من المداخيل تمكن المواطن من الحياة الكريمة.
وبناء على ذلك، يرى المصري أن رفع الدعم الاجتماعي كان يجب أن يتزامن مع رفع الرواتب والأجور بشكل يتناسب مع الغلاء المعيشي مع إلزام كل الجهات، بما فيها القطاع الخاص، بحد أدنى من الأجور يكفي العائلة السورية معيشيًا وخدميًا، مع إعفاء هذا الحد الأدنى من الضرائب بشكل كامل.
بدوره، يعتبر الباحث الاقتصادي علبي أن رفع الدعم لم يأت ضمن رؤية إصلاح شاملة تأخذ في الاعتبار أوضاع الأسر ومستوى الفقر، بل جاء استجابة لضغوط مالية خانقة تواجهها الدولة. ويلاحظ أن هذه الخطوة، التي كان يمكن أن تكون جزءًا من إعادة هيكلة اقتصادية متوازنة، تحولت عمليًا إلى عبء اجتماعي أعاد صياغة الخريطة المعيشية للفئات الأكثر هشاشة.
ويوضح أن غياب شبكة حماية فعالة، وعدم توفر بيانات اجتماعية دقيقة، وغياب برامج تشغيل حقيقية، كلها عوامل جعلت رفع الدعم خطوة قاسية من دون أدوات تعويض. والنتيجة كانت تآكلًا سريعًا في القدرة الشرائية، وانتقالًا إضافيًا للثروة نحو الفئات المستفيدة من الاحتكار وتجارة المحروقات والسلع (غير الأساسية منها) والتي أغرقت السوق المحلية.
28 مليار للاستثمار.. على الورق
وعلى مدار الأشهر الماضية، وقعت الحكومة الجديدة عشرات مذكرات التفاهم والاتفاقيات الاستثمارية في قطاعات عديدة، وقدّر حجم هذه الاستثمارات بـ28 مليار دولار.
ولفت الدكتور المصري إلى أن معظم الاستثمارات التي وقعتها الدولة منذ سقوط النظام كانت عبارة عن مذكرات تفاهم لا اتفاقيات ملزمة، وذلك نتيجة التخوف لدى المستثمرين والفاعلين الاقتصاديين من حالة عدم الاستقرار في سوريا وتأثيرات العقوبات، وأهمها عقوبات قيصر، إضافة إلى سياسة سحب السيولة وعدم الانفتاح الكامل للبنية المصرفية والمالية مع الخارج.
أما الباحث الاقتصادي علبي، فيؤكد أنه على الورق شهدت البلاد حركة نشطة من الاتفاقات ومذكرات التفاهم، لكن التنفيذ الفعلي بقي محدودًا للغاية. لافتًا إلى أن معظم هذه الاستثمارات ما يزال معلقًا في انتظار بيئة سياسية وقانونية أكثر وضوحًا، فالمستثمر لا يستطيع الدخول في سوق يجهل فيها من يملك القرار ومن يتحكم بالقواعد.
ويشير في ختام حديثه إلى أن استمرار العقوبات الأميركية وفوضى المؤسسات عوض إعادة بنائها، وانقسام الاقتصاد بين ثلاثة منظومات مستقلة عمليًا، وغياب نظام مصرفي قادر على التعامل مع العالم الخارجي، كلها عوامل تمنع هذه الاتفاقات من التحول إلى مشاريع قائمة. ورأى أن بعض ما وُقع لم يكن استثمارًا بالمعنى الاقتصادي أصلًا، بل كان جزءًا من حملات دعائية (سواءً للسلطة نفسها أو للمُستثمر)، والتي وصفها بأنها “حملات لا تمت للحقيقة بصلة”.
محمد كساح (ultrasyria)