ديوك العولمة
تنبني نصوص”ديوك العولمة”برمتها على فكرة أساسية هي العلاقة بين العرب والغرب، وبخاصة الأميركي، في ضوء التطور الهائل لتكنولوجيا الاتصالات وللكشوف العلمية المماثلة المتعلقة بالاستنساخ والخريطة الجينية واكتشاف الفضاء الخارجي. وهي علاقة ملتبسة الى حد الانفصام باعتبار أن العرب لا يتصلون بالتكنولوجيا إلا من حيث الاستهلاك والانتفاع لأنهم منقطعون تماماً عن روح العصر وعن جوهر هذه الروح المتصل بالعلم والحرية واستخدام العقل.
ولما كانت المفارقة بين ظاهر الأمور وباطنها هي في أساس الكتابة لدى المؤلف فقد بدا بيضون متربصاً بها حيث وجدت وحريصاً على تتبع وجوهها وأشكالها في كافة النصوص. وهي قد بدت جلية بشكل صارخ في شخصية أبي خليل الذي قرر بعد لأي أن يغادر القرن العاشر باتجاه الألفية الثالثة دون أن”يتعولم”، وذلك من طريق احتفاظه بهويته العربية وما يتصل بها من قيم وتقاليد من دون تعديل يذكر.
فهو يستخدم الكومبيوتر، على سبيل المثال ويختار لنفسه موقعاً على الانترنت عنوانه مستلهم من المقامات وهو”الموقع الجليل والسجل الطويل في تطلعات أبي خليل”. أما البكاء على الأطلال فيتحول الى بكاء على شاشة الحاسوب.
انه باختصار دون كيشوت العربي الذي يقدمه المؤلف على الوجه التالي:”كان أبو خليل يعتمر قبعة كاوبوي أميركية جداً فوق كوفية مزركشة بألوان برز منها الأحمر والأسود والأخضر على أرضية بيضاء ويلبس بنطال جينز من أرقى الماركات الأميركية مشدوداً على كرشه العامر بحزام عريض وينقل شبشباً يذكرك بسلاطين بني عثمان ويعلق برقبته كمبيوتراً صغيراً حديثاً جداً يبرز فوق صدرية واقية من الرصاص ويحمل بيديه سيفاً وترساً”.
مقابل شخصية أبي خليل المتأرجح بين الانتماء الى العولمة وبين الحفاظ على تراث الأجداد تذهب شخصية أبو محمد بعيداً في الانقلاب على الموروث والهروب من التخلف من طريق الهجرة الى أميركا والنأي بنفسه عن كل ما يذكره بماضيه. ويحرص بيضون في أكثر من موقع على استخدام أبي محمد كمعبر عن الكثير من أفكاره المتعلقة بالاستبداد والقمع والتكفير ومصادرة الرأي والرقابة على الأفكار والاعتقالات التعسفية وما سوى ذلك من وجوه الحياة العربية.
أما تعلق أبي محمد بالنساء والحب فكان شكلاً آخر من أشكال الاحتجاج على الواقع العربي والانسحاب الى حيث الهناءة والحبور والدفء وهو ما يقوله المؤلف شعراً فكاهياً بلسان بطله:
“أطبّب بالغواني ما أعاني/
طريحاً بين غانية وأخرى/
أحابيل السياسة جندلتني/
فتهت”بكارها”وسجنت دهرا/
الى حرية العربية باب/
يضيق بكل رأس حاز فكرا/
سأقضي رغم أنف العمر عمراً/
طليقاً لا تفارقني الفياغرا”.
سافر« ناجي بيضون داخل اهله المشطرين بين مقيم مغترب ومغترب مقيم، فاتخذ من بعضهم شخصيات محاوراته الطريفة حول السياسات الدولية عموماً وما يخصنا منها او ينعكس علينا خصوصاً. ادار المعارك بين »ابي محمد« و»أبي خليل« وجعل نفسه حكَماً، فهو »يشعل النار وينادي: حريقة«… ثم يتبرع بشرح التحولات السياسية الكونية والمبتكرات والاختراعات ولغة الاسواق المالية المستحدثة، وتأثيرات ذلك كله »علينا، يا العرب«، وكيف نحار بين ان نلغي انفسنا ونحن نحاول ان نتعلمها، او نتسابق الى هضمها واستيعابها تمهيداً لأن نستخدمها في معاركنا المفتوحة مع »الغرب« المتقدم، وعنوانه الاسرائيلي في ارضنا، فلا نظل نموت بجهلنا او بعجزنا عن التطور.
ولانه محام، فهو قد اكسب »موكله« »أبا محمد« »الدعاوى« جميعاً، تاركاً لـ»أبي خليل« مجال الاعتراض والاستئناف بشرط ان يعرف، أخيراً، شروط »التمييز«.وعملاً ببعض نصائح »ابي محمد« الشعرية، لن نتعمق، وان كان مفيداً نشر بعض أبياتها:
»يا أيها الكتّاب لا تتعمقوا
صفوا كلاما للأنام ونمقوا»
كونوا كما كان الأوائل رددوا
أقوال أقوام جفاها المنطق..»
يا ايها الشعراء لا تتسابقوا
الا لتقديم المدائح واتقوا
غدر الزمان فإن شطراً واحداً
من بيت شعر ألفَ بيت يُغلق
ونختم بهذا المقطع:
أدخل في رأسك حاسوباً/ يُفتيك حلالاً وحراما/ خاطب حاسوبك يا ولدي/ واسأله قعوداً وقياما/ واحسب إن شئت مغازلة/ وتحسّب إن شئت غراما/ أمياً يصبح يا ولدي/ من يجهل للرقم مقاما
كتاب”ديوك العولمة” ,تأليف د.ناجي بيضون ,إصدار دار رياض نجيب الريس2008.