
رحيل زياد في صحف العالم
كتبت فيفيان سعد ودايانا إيوازا في نيويورك تايمز:
توفي زياد الرحباني، الملحن والكاتب المسرحي والموسيقي اللبناني الذي شكّل عصرًا، والذي صاغت أغانيه صوتًا جديدًا للعالم العربي، ووجّهت مسرحياته انتقادات لاذعة لسياسات بلاده الفاسدة، يوم السبت في لبنان بعد صراع طويل مع المرض. كان عمره 69 عامًا. أعلنت الوكالة الوطنية للإعلام التابعة للحكومة اللبنانية عن وفاته.
منذ الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، التي لم يتعافى منها لبنان تمامًا، نشأت أجيال من اللبنانيين على حفظ أغاني الرحباني التي تجمع بين الطابعين العربي والغربي، واقتباس مسرحياته الساخرة، مثل “فيلم أمريكي طويل” و”بالنسبة لبكرا شو؟”. أولئك الذين نضجوا خلال الحرب، مثل الرحباني، رأوا في كلماته الساخرة والعميقة وحشية وتناقضات بلدهم الصغير الواقع على شرق البحر الأبيض المتوسط وهو يمزق نفسه.
ظلّ محبوبًا لدى اللبنانيين الذين نشأوا لاحقًا، في ظلّ الحرب الطويلة، حين خيّم الانقسام الطائفي والفساد والضائقة الاقتصادية على الحياة اللبنانية. ينحدر زياد الرحباني من عائلة موسيقية لبنانية عريقة. والدته، فيروز، أيقونة فنية حية، تُعتبر من أعظم مطربي العالم العربي. كان والده، عاصي الرحباني، ملحنًا رائدًا، ألّف مع شقيقه منصور العديد من أغاني فيروز. بعد وفاة والده، تولّى زياد الرحباني لاحقًا مهمة الملحّن الرئيسي لفيروز، مُغيّرًا أسلوبها في أواخر مسيرتها الفنية.
في موسيقاها السابقة، ألقت فيروز والأخوين رحباني تعويذة حنينية ذهبية اللون، نسجوا رؤية مثالية للحياة في قرى الجبال اللبنانية في الأيام المزدهرة قبل أن تمزق الحرب والنزوح والاضطرابات الشرق الأوسط.
شكّلت ألحان زياد الرحباني لأمه وللآخرين نقلةً نوعيةً في الأسلوب والمضمون. ففي ألبومات مثل “هدو نسبي” و”أبو علي”، مزج الرحباني بين أرباع النغمات وآلات الموسيقى العربية التقليدية وموسيقى الجاز والفانك الغربية، ووصف موسيقاه ذات مرة لأحد المحاورين بأنها “جاز شرقي” أو “شيء يشبه الهامبرغر بطعم الفلافل”.
ومع ذلك، ورغم إعجابه بموسيقيين غربيين مثل تشارلي باركر وديزي جيليسبي، قال إن موسيقاه لبنانية. إنها موسيقى تعكس مكانة لبنان المتميزة كمجتمع عربي يحتضن أوروبا والغرب. وعلى عكس أعمال والدته السابقة، كانت أغانيه أقرب إلى الواقع الذي يعيشه اللبنانيون.
قال جاد غصن، الصحفي والمخرج الذي أخرج فيلمًا وثائقيًا عن السيد الرحباني عام ٢٠١٩: “لقد ترك ما يُسمى صورة لبنان الموحد أو دولة الوطن المثالي لدولة لبنان الحقيقي المنقسم والمجزأ”. وأضاف: “جاء بعد فيروز ليقول: كفى من الفن الرومانسي، وادخلوا إلى الفن الواقعي مع موسيقى الجاز والموسيقى المعاصرة والشعر الواقعي”.
كانت فيروز الرقيقة تحلق فوق السياسة، وهو إنجازٌ صعب في بلدٍ يُعرّف فيه معظم الناس، ويُقسّمون، مدى الحياة بناءً على خلفياتهم الدينية والعرقية. لكن ابنها زياد كان سياسيًا مُعلنًا، وإن لم يكن بالطريقة التي قد تنبئ بها هويته المسيحية الأرثوذكسية اليونانية.
زياد الرحباني، الشيوعي المُعلن، لطالما دعم السعي الفلسطيني للحصول على الحقوق وإقامة الدولة.
لكن السيد الرحباني كان يزداد مرارةً وغربةً، ويأسًا من آفاق لبنان، وعزلةً اجتماعيةً متزايدةً مع تقدمه في السن. وقال السيد غصن إنه توقف عن الرد على معظم المكالمات، وأصيب بمرض في الكبد.
وقالت صحيفة لوموند الفرنسية:
توفي الموسيقي والملحن اللبناني زياد الرحباني، نجل أيقونة الغناء العربي فيروز ورائد موسيقى الجاز الشرقي، يوم السبت 26 يوليو/تموز عن عمر ناهز 69 عامًا، بعد أن أحدث ثورة في عالم الغناء والمسرح في لبنان. وقال المستشفى الذي كان يُعالج فيه في بيروت في بيان: “في التاسعة من صباح يوم السبت، توقف قلب الفنان والمبدع الكبير زياد الرحباني عن النبض”.
أثّر الموسيقي والملحن والمخرج زياد الرحباني على أجيال من اللبنانيين بأغانيه، وخصوصًا بمسرحياته التي يحفظها الصغار والكبار عن ظهر قلب. برؤيته الثاقبة، استحضرت مسرحياته الحرب الأهلية حتى قبل اندلاعها عام ١٩٧٥، والحروب الصغيرة التي أشعلتها – فيلم أمريكي طويل عام ١٩٨٠، تدور أحداثه في مصحة عقلية – والأزمة الاقتصادية. أشاد القادة السياسيون في البلاد بـ”الطفل الشقي” في عالم الموسيقى اللبنانية، المعروف بأسلوب حياته البوهيمي والذي عانى من مشاكل صحية.
وقال موقع فرانس 24:
عكست موسيقى الرحباني التراثَ اللبناني الهجين، الذي كان حتى اندلاع الحرب الأهلية عام ١٩٧٥ بوتقةً ثقافيةً تلتقي فيها الثقافات، حيث يلتقي الشرق بالغرب. إلا أن هذه الموسيقى كانت متجذرةً بعمق في الأحداث المؤلمة للصراع الطائفي، ومعارك الشوارع الدموية بين الميليشيات المتناحرة، وثلاث سنوات من الاحتلال الإسرائيلي العنيف بعد غزو عام ١٩٨٢.
عُرضت مسرحيته المميزة “نزل السرور” لأول مرة عام ١٩٧٤ عندما كان في السابعة عشرة من عمره فقط، وصورت مجتمعًا مشوهًا بالتفاوت الطبقي والقمع. تتبع هذه الرواية المأساوية الكوميدية قصة مجموعة من العمال الذين يختطفون مطعمًا للمطالبة بحقوقهم، ليُطردوا من قِبل النخبة السياسية. مع هذا العمل الأول الجريء، كشف الرحباني عن فكرته الخالدة: أن المجتمع اللبناني ممزق ليس فقط بسبب الحرب، بل بسبب السلطة المتجذرة.
كما كتب الرحباني، وهو يساري أرثوذكسي يوناني، مسرحياتٍ وبرامج إذاعية ساخرة تُركز على بيئته العنيفة، وتسخر من الانقسامات الطائفية في بلاده. رسّخت مسرحيات الرحباني اللاحقة سمعته كصوتٍ للمُحبطين. في مسرحية “بالنسبة لبكرة شو؟” يُجسّد دور عازف بيانو مُنهك في حانة ببيروت ما بعد الحرب الأهلية، ينجرف في مشهدٍ سرياليٍّ من الأحلام المُحطّمة والفساد والعبث.
يُقدّم العمل بعضًا من أكثر موسيقى الرحباني تأثيرًا وتعليقاته اللاذعة، بما في ذلك عبارته الشهيرة: “يقولون غدًا سيكون أفضل، ولكن ماذا عن اليوم؟”
لم يكن الرحباني مُجرّد كاتب مسرحي، بل كان مُلحّنًا ذا نطاقٍ موسيقيّ مُذهل. لقد مزج الألحان العربية التقليدية بتأثيرات الجاز والفانك والكلاسيكية، مُبدعًا صوتًا هجينًا أصبح مُميّزًا على الفور. كانت عروضه الحية أسطورية، سواءً عزفه على البيانو في نوادي الحمرا المُدخنة، إحدى أهمّ المناطق التجارية في بيروت ذات الهوية المُتعدّدة الأوجه، أو تنظيمه لإنتاجاتٍ ضخمة. كانت تعاوناته مع فيروز، وخاصةً خلال أواخر السبعينيات والثمانينيات، إيذانًا بمرحلة أكثر قتامة وشحنًا سياسيًا في مسيرتها الفنية. عكست أغاني مثل “افتتاحية 83″ و”بلا ولا شي” و”كيفك إنت” ألحان زياد الكئيبة وتأملاته الغنائية.
تعرض الرحباني لانتقادات شديدة من المتمسكين بالتقاليد العربية لجهوده الرائدة في سد الفجوة بين الثقافة العربية والغربية من خلال الموسيقى. في السنوات الأخيرة، قلّ ظهور زياد على الساحة العامة، إلا أن تأثيره لم يتلاشى أبدًا. أعادت الأجيال الشابة اكتشاف مسرحياته عبر الإنترنت واستمعت إلى موسيقاه في حركات الاحتجاج. واصل التأليف والكتابة، وكثيرًا ما كان يتحدث عن إحباطه من الركود السياسي في لبنان وتدهور الحياة العامة.
وأوردت وكالة فرانس برس مقالا قالت فيه:
بشخصيته المتمردة ورؤيته الثاقبة، أنبأت أعمال الرحباني بالحرب الأهلية اللبنانية قبل اندلاعها عام ١٩٧٥، ثم عكست لاحقًا الصراع والواقع القاسي للأزمة الاقتصادية التي تلت ذلك. امتدت شهرته إلى بقية العالم العربي وخارجه.
من أشهر مسرحياته، “فيلم أمريكي طويل”، الذي قدّم تصويرًا ساخرًا للبنان خلال الحرب الأهلية، تدور أحداثه في ملجأ يسكنه شخصيات تُمثّل جوانب مختلفة من المجتمع.
الرحباني هو ابن أيقونة الموسيقى العربية فيروز، التي بلغت التسعين من عمرها العام الماضي، والملحن اللبناني الراحل عاصي الرحباني، الذي ساهم مع شقيقه منصور في تحديث الموسيقى العربية بمزج الأصوات الغربية والروسية والأمريكية اللاتينية مع الإيقاعات الشرقية.
بعد أن حظيت فيروز بإعجاب الأجيال الأكبر سنًا، أصبحت قدوة في شبابها عندما بدأ ابنها بتأليف أغاني مستوحاة من موسيقى الجاز، واصفًا النتيجة بأنها “جاز شرقي”. ورغم أن فيروز تجاوزت الانقسامات الطائفية العميقة في لبنان، إلا أن ابنها كان يساريًا متشددًا وعلمانيًا ومؤيدًا للقضية الفلسطينية ــ ولكنه كان محبوبًا أيضًا من قِبَل كثيرين على الجانب الآخر من الطيف السياسي.
وقالت رويترز:
اشتهر الرحباني بريادته في موسيقى الجاز الشرقية التي مزجت بين المعايير الغربية والنوتات الموسيقية العربية، وهو أسلوب تجسد في ألبومه “أبو علي” عام ١٩٧٨،وصفه الملحنون الذين عرفوه بالعبقري الموسيقي. كما كان عملاقًا في النقد الثقافي في العالم العربي لسخريته من المجتمع اللبناني. قال بعلبكي، قائد الأوركسترا الوطنية اللبنانية: “تشعر أنك عاجز عن فهم بعض ما فعله زياد، أو حتى عن كتابة شيء يشبهه”.
من أشهر أعمال الرحباني أغنية “أنا مش كافر” الصادرة عام ١٩٨٥، والتي أُعيد إصدارها عام ٢٠٠٨، والتي تحث كلماتها “المصلين يوم الجمعة والمصلين يوم الأحد” – أي القادة المسلمين والمسيحيين – على انتظار محنة المحتاجين. تشير أغنية أخرى إلى لجوء اللبنانيين إلى بيع الذهب والماس لتوفير الطعام خلال الحرب، بينما تُشير أغنيته “يا زمن الطائفية” إلى سهولة مرور الأموال بين المتاريس العسكرية التي تُفرق الناس.
وكتبت bbc:
يعد زياد الرحباني أحد أبرز الفنانين المجددين المعاصرين في الموسيقى العربية والمسرح السياسي الساخر في لبنان وعبر العالم العرب منذ عام 1970. ولم يكن غريبا أن يتبوأ زياد هذه المرتبة الراقية في مجال الفن على مدى حياته، فهو ثمرة زواج جمع بين أسطورة اسمها فيروز وموسيقار اسمه عاصي الرحباني مكناه من بيئة فنية متميزة.
ورغم الشهرة الفنية العربية والعالمية والسمعة اللامعة التي عاش والداه في كنفها، شق زياد طريقه الخاص في وقت مبكر من حياته مبدعا ليؤسس لنفسه أسلوبا خاصا به مزج بين العمق الفني والإبداع الموسيقي والفكاهة السوداء والتمرد والنقد السياسي الجريء.
كان زياد الرحباني في سنوات شبابه شاعرا استثنائيا وظف موهبته لوضع كلمات أغاني بسيطة حولها إلى ألحان موسيقية حديثة وتمثيليات سياسية ناقدة لواقع لبناني مؤلم بأسلوب ساخر. وأصبح أسلوبه الجامع بين العمق والتهكم حالة استثنائية في المشهد الثقافي العربي.
بعد نجاح لحنه الأول دخل زياد عالم المسرح بلعب دور الشرطي في مسرحية “المحطّة”، ثم مسرحية “ميس الريم” التي لحن مقدمتها الموسيقية. وشملت المقطوعة إيقاعات حزينة تارة وهادئة تارة أخرى، خرجت عن النسق المحافظ لمدرسة الرحباني.
وعندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، أصر زياد الرحباني على أن يعكس فنه الهموم اليومية للناس وسط عنف القتال. وقدم أعمالا مزجت بين الكوميديا السوداء والنقد السياسي اللاذع، وحول خشبة المسرح إلى مرآة تعكس بصدق انقسام المجتمع اللبناني وجروحه آنذاك.
شكلت مسرحيات زياد الرحباني محطة مفصلية في تاريخ المسرح اللبناني والعربي عموما. فزياد هو من حمل مشعل القطيعة مع المسرح الغنائي التقليدي لينتقل بالمشاهد إلى مسرح سياسي نقدي يعبر عن نبض شارع تتقاذفه التناقضات، ويؤثثه جيل ضائع في أتون الحرب وهو يبحث عن خلاص حقيقي. ويجمع النقاد على أن زياد الرحباني حطم القوالب الكلاسيكية، وقدم مسرحا سياسيا نابعا من الواقع، تناول الهوية والانقسام والفساد والمقاومة بجرأة غير معهودة.
رحل زياد لكن أعماله وألحانه ستبقى خالدة بعده بصوت فيروز، وهو الذي لحن أكثر من 15 أغنية بينها “أنا عندي حنين” و”عندي ثقة فيك” و”بعتلك” و”ضاق خلقي” و”سلملي عليه” و”وحدن” ، و”البوسطة” و”معرفتي فيك” وغيرها.
يرى نقاد كثيرون أن زياد الرحباني كان فريدا في إنتاجاته الموسيقية رفع سقف جودة اللحن ورصانته ومستوى التجديد فيه. وربط الفن باللحظة التاريخية في لبنان تحديدا ووسع من أفق الأغنية العربية عموما.
عرف عن الراحل انحيازه الدائم إلى جانب الفقراء والمظلومين، ساند القضية الفلسطينية، وفي المقاومة ضد إسرائيل موقفا صادقا وليس شعارا. رأى في الشيوعية انحيازا أخلاقيا للعدالة. كان في دعمه حقيقيا وفي نقده لاذعا. كثيرون يقولون إن زياد كان صوتا وفكرا وذاكرة وموقفا، ولربما لن يجود الزمان بمثله.
وجاء في مقالة أوردتها (يورو نيوز):
زياد، الذي يناديه أغلب الناس باسمه الأول دون تكلّف، رغم أنه كان امتدادًا لعائلة فنية عريقة قدّمت للبنان والعالم العربي عاصي ومنصور الرحباني، اللذين تعاونا مع نهاد حداد (فيروز) تلك الشابة اليافعة ذات الصوت الملائكي في أواخر الخمسينات، لم يكن غصنًا “رقيقًا” من العائلة، ولم يكن صدى يتردد خلف والديه أو يستمد منهما بريقهما، مع أنه كان يمكن له ذلك، لكنه آثر، دون جهد منه، ولكن لعبقرية قلّ نظيرها، أن يكون حالة خاصة، في موسيقاه، ومسرحياته، ونقده السياسي اللاذع، ونكتته اللماحة، وشتيمته التي لا تجرح.
زياد وفيروز
ومع ذلك، يمكن القول إن موسيقى الفنان ذي الميول اليسارية، الذي لم يكن قد تجاوز الـ17 عامًا، قد برزت خلال مرض والده عاصي (1923 – 1986)، ليس “كبديل عنه”، بل كندّ، حيث غنّت فيروز من ألحانه لأول مرة “سألوني الناس”، ثم قدّم لها بعد وفاة الرحابنة أسلوبًا موسيقيًا جديدًا يمزج بين الموسيقى الكلاسيكية الشرقية و الجاز والموسيقى الغربية الحديثة، (مع أنه لم يكن يحبّ أن يفصل بين موسيقى الشرق والغرب) في أغانٍ مثل “كيفك إنت” و”عودك رنان” و”إيه في أمل”، التي أحبّها الجمهور بقدر لا يقل عن ألحان الرحابنة، لما تميّزت به من أسلوب محكي اعتبره الناس “أبلغ من الشعر”.
وقد نال الشاب اعتراف فيروز الأيقونة، وليس الأم، وتقديرها، بل وإعجابها، حيث قالت في إحدى مقابلاتها إنها تغني له “لأنها تثق به كملحن كبير” وكان لزامًا عليها أن تتركه يشق طريقه ويختار لون فنّه.
وقد نافسته “جارة القمر”، التي يقول إنه ورث منها حس الفكاهة، في التجريب، فاتجهت إلى لون معاصر نوعًا ما معه، وبدأت تظهر في أغانيها “روح زياد”، الذي، على قدر ما كان موسيقيًا، كان سياسيًا أيضًا، فغنّت في زمن الحرب الأهلية ( 1975- 1990)”عودك رنان رنّت عودك إليّ.. عيدها كمان ضلّك عيد يا علي”، وهي كلمات كانت لافتة في زمن يقتتل فيه المسيحي والمسلم.
ومع زياد، تغيّرت صورة فيروز الغنائية في بعض الأعمال، إذ انتقلت أحيانًا من دور العاشقة التي تحاصرها المشاعر وتنتظر الحبيب بشوق ولوعة، كما في أغنيات الرحابنة مثل “يا مرسال المراسيل”، إلى شخصية امرأة مستقلة لا تُعير اهتمامًا للرجال، كما يتجلّى في “ضاق خلقي يا صبي” و”مش فارقة معايه”، حيث تقول: “بتمرق عليّي إمرق، ما بتمرق، ما تمرق، مش فارقة معاي”.
ولم تنحصر أعماله مع والدته، إذ كان للمبدع في وقت لاحق تعاون مع قامات فنية هامة مثل ماجدة الرومي ولطيفة، إلا أنه تميّز بثنائيته مع الراحل الفنان جوزيف صقر.
زياد السياسي
على عكس والديه، كان زياد واضحًا في تصريحاته السياسية، التي لم تكن بعيدة عن فنه، حيث رأى فيه العديد “الفنان المشتبك”، والثائر، والناقد، والمفكّر دون “فلسفة”، الذي يستطيع أن يقدّم للناس فنًا متصلًا بمشكلاتهم اليومية، ويجسّد لبنان البعيد كل البعد عن الذي ألفه الرحابنة “كوطن للنجوم”، فجرّده وتناول مشاكله وانقساماته السياسية والأيديولوجية بجرأة، مشيرًا إليه كساحة للتدخلات الخارجية.
وكتب مسرحيات مثل “فيلم أمريكي طويل”، و”بالنسبة لبكرا شو؟” و”لولا فسحة الأمل” و”بخصوص الكرامة والشعب العنيد”، في تحدٍّ لجملة في أغنية والدته “بحبك يا لبنان”.
وألّف ولحن أغانٍ ضد الرأسمالية والطبقية كمؤمن بالماركسية، مثل: “الحالة تعبانة يا ليلى”، و”ولّعت كتير”، و”بتوصّي شي عالدكانة” و”بلا ولا شي”، فكان قريبًا من الشباب والطبقة الكادحة.
كما أعدّ وقدم برنامجًا في زمن الحرب الأهلية عبر إذاعة “صوت الشعب” مثل: “بعدنا طيبين… قول الله” بين عامي 1975 و1978، بالإضافة إلى مشاركته في الصحافة اللبنانية عبر “جريدة الأخبار” اليسارية.
وقد كان، باستعمال النكتة الخفيفة دون بذاءة، مرآة شعب حائر في ميوله الشرقية والغربية، وناقدًا مستمرًا له بروح التجدد، حيث كتب وهو في سن يافعة “صديقي الله”، وغنّى “يا زمان الطائفية”، و”أنا مش كافر”.
زياد الذي لا يُجامل
وقد تميّز الفنان بموقف حازم بعيد كل البعد عن الدبلوماسية أو المداراة والنخبوية، فرفض لقاء الرئيس لبفرنسي ماكرون الذي كان قد زار والدته في بيتها عام 2020 لتكريمها، ورفض أن يكون حكمًا في برامج ترفيهية خليجية مقابل أموال طائلة، رغم أن حالته المادية كانت صعبة.
ولطالما كان زياد واضحًا في عدائه لإسرائيل، وانتقاداته لأنظمة التطبيع العربي، وكثيرًا ما عبّر عن دعمه “للكفاح المسلح ضد إسرائيل”، وإيمانه بتحرير فلسطين “من البحر إلى النهر” على يد أبنائها، كما كان يقول.
وبغيابه، وهو الذي كان حاضرًا دومًا بسلاسة، بين كل اثنين، في جملة من مسرحياته تختصر الكثير، أو مقطع من أغانيه، الذي تحكي حال الشعب، ترك خواءًا كبيرًا في الساحة الفنية، ووجد لبنان نفسه أمام أسئلة، كانت دومًا حاضرة، لكنها برحيل نجل الرحابنة، الذي تمرّد على مدرستهم، تفجّرت هذه المرة بخوف وقلق.. فهل يولد من لبنان زياد آخر؟