
طرطوس:الناجية الوحيدة
ملخص
انتزعت طرطوس لنفسها اسم المدينة الأم الآمنة خلال الثورة، وظلت كذلك حتى بعد انتصار الثورة وما شاب المدن السورية من انتهاكات وحالات قتل وخطف وقلاقل أمنية، لتستمر الحياة فيها لما بعد منتصف الليل خلافاً لكثير من المدن والمناطق السورية التي تغلق الأبواب على نفسها مع ساعات المغرب.
إبان مجازر الساحل السوري في مارس (آذار) الماضي، ظلت مدينة طرطوس(المدينة)بمنأى عنها تماماً، على رغم أن المجازر كانت تحدث في جوارها، بل وفي قراها القريبة، وكذلك كانت المدينة طوال عمر الحرب السورية التي لم تعرف الطريق إليها إلا مرة واحدة بتفجير لـتنظيم “داعش” كان الأول والأخير قبالة كراجات المدينة عام 2016، ويومها قتل وجرح ما لا يقل عن 400 شخص.
واحتضنت هذه المدينة مئات آلاف النازحين الوافدين إليها من المدن التي اشتعلت الحرب في أحيائها وساحاتها وصارت شوارعها خطوط تماس ونار، ولا تزال حتى اليوم الناجية الوحيدة من الخراب والدمار وأصوات الرصاص وحالات الخطف. وكثيراً ما تمكنت من أن تعطي مثالاً على مدينة نجت من أتون حرب قاهرة، ويمكن الاستدلال على ذلك بأبنية تملأ المدينة لا أثر فيها لرصاصة، ولا منزل تمت تسويته بالأرض بقذيفة مدفعية أو صاروخ أو برميل متفجر.
وانتزعت طرطوس لنفسها اسم المدينة الأم الآمنة خلال الثورة، وظلت كذلك حتى بعد انتصار الثورة وما شاب المدن السورية من انتهاكات وحالات قتل وخطف وقلاقل أمنية، مع ازدحام شديد داخلها وعلى ممشاها البحري، لتستمر الحياة فيها لما بعد منتصف الليل خلافاً لكثير من المدن والمناطق السورية التي تغلق الأبواب على نفسها مع ساعات ما بعد العصر.
لا صوت للمدافع
تقع مدينة طرطوس الصغيرة الحجم نسبياً على الساحل الغربي لسوريا، وتمكنت من أن تقف في وجه الحرب وتعلن نفسها استثناء عصياً على الفوضى التي لم تستثنِ حتى جوارها القريب، سواء من جنوبها الشرقي القريب في حمص حيث كانت أم المعارك، أو في مجازر بانياس خلال الحرب السورية عام 2013 والتي تبعد نحو 40 كيلومتراً شمالها، وصولاً إلى اللاذقية وجبلة ومحيطهما الذي لم ينجُ من الحرب على خط امتداد طرطوس الساحلي ذاته.
لم يذُق أهل المدينة طعم الحرب العسكرية المباشرة، لكنهم عاشوها اقتصادياً بكل معانيها، إلا أنهم في الأقل لم يشهدوا القصف والقتل والاعتقال وعربات الترحيل وآلية القتل الممنهج وفرط استخدام النفوذ والقوة، ولم يشاهدوا جثثاً تملأ الساحات والشوارع، فظلت طوال عقد ونصف العقد تحتفي بنفسها كمدينة تقول قراءات سياسية إنه كان ثمة توافق على أن تظل المدينة خارج ساحات الحرب لتشكل ملاذاً آمناً للهاربين إليها من جهة، ونقطة تفوق روسي لا مساومة عليها من جهة أخرى، وخطة إدارية بديلة عن مؤسسات دمشق في لحظات الصفر.
ويمكن أن يضاف إلى تلك الأسباب سبب يبدو جوهرياً في محور الصراع، وهو أن المدينة تقطنها غالبية علوية ساحقة تمثل خزاناً استراتيجياً واجتماعياً وعسكرياً للنظام في مراحل قوته. فصحيح أنه لم يجر المدينة إلى الحرب، لكنه جر أولادها للقتال في صفوفه على الجبهات البعيدة، فصار يطلق عليها لقب “مدينة الأرامل واليتامى”.
موطن النازحين
احتضنت طرطوس بحسب منظمات محلية وإغاثية نحو 700 ألف نازح غالبيتهم من حلب وإدلب وحمص ودير الزور وأريافها في مراحل اشتداد المعارك بين عامي 2012 و2017، في حين كان سكان المدينة آنذاك مع ريفها لا يتجاوز تعدادهم مليون نسمة، مما خلق معه بيئة عمرانية جديدة، فتوسعت مناطق بعينها في المدينة وفي ريفها الملاصق حتى كادت تتخطى حجم المدينة الصغيرة أساساً، كضواحي الشيخ سعد ودوير الشيخ سعد وبلدات الشيخ بدر ومتن الساحل، وبصيرة القديمة والجديدة شمالاً، وإلى الجنوب من المدينة ظل العمران يتكاثر وتؤخذ المناطق السياحية الشعبية كمواطن للوجود على طول الخط الممتد من حدود مناطق الرادار ووادي الشاطئ وعمريت الأثرية (خمسة كيلومترات جنوب طرطوس)، وصولاً إلى منطقة الحميدية المحاذية لحدود لبنان الشمالية، إضافة إلى مخيمي معسكر الطلائع والكرنك، ويُشار إلى أن عمريت اليوم أصبحت نقطة عسكرية للمقاتلين الأجانب جنوب طرطوس، لكنهم لا يدخلون المدينة إطلاقاً.
جاء هؤلاء النازحون إلى بيئة ساحلية بحرية لا تشبه مناطق وجودهم الداخلية، لكنهم سرعان ما اندمجوا في الحياة الاجتماعية، خصوصاً أنهم جاؤوا ومعهم عشرات الحرف المهنية والصناعية واليدوية التي كانت تنقص المدينة، فجعلتها مقصداً لقاصدي الشراء والإصلاح، مما أدى إلى انتعاش مناطقها الصناعية وورشاتها.
بيد أن التوافد الهائل لهؤلاء النازحين لم يكُن دائماً بأفضل حال، فصارت المدينة الصغيرة تنافس العاصمة دمشق في أسعار عقاراتها وخدماتها، مقدمة نفسها على أنها مدينة السياحة الوحيدة، واليوم مثلاً وبعد سقوط النظام بلغ أقل إيجار شقة في طرطوس 300 دولار، وثمة شقق أخرى بألف أو ألف و500 دولار تبعاً للمنطقة، مما يتفوق على إيجارات دمشق نفسها، كما أن الأسعار باهظة للغاية في كل النواحي.
والغريب أن المدينة ما زالت حتى اليوم وما بعد سقوط النظام تستقبل اللاجئين، إذ تقدر منظمات أممية عاملة في سوريا نزوح أكثر من 30 ألف شخص من ريف طرطوس وبانياس واللاذقية وحمص إلى طرطوس في الفترة ما بين يناير (كانون الثاني) ومايو (أيار) الماضيين، وجلهم عقب أحداث الساحل الدموية. وعلى رغم ذلك فإن هذه الهجرة لم تؤثر في نمو المدينة الاقتصادي المتزايد، ولا في نمط الحياة الليلية داخلها، استناداً إلى الغياب شبه التام للجريمة المنظمة، في ما خلا حالات اختطاف يمكن عدها على أصابع اليد، وجزء منها عاد سالماً.
نازحون في طرطوس
“نزحنا من حي بابا عمرو (عاصمة الثورة) في حمص يوم اشتد الحصار والقصف مطلع فبراير (شباط) عام 2012، وكان الخيار الأمثل والأفضل بالنسبة إلينا هو طرطوس، لقد سمعنا كثيراً من عائلات وصلت إلى هناك ولقيت ترحاباً ولم يكُن الحجاب ليشكل فارقاً مع أهل المدينة المنفتحين”. تقول سماهر عبدالمولى، وهي خريجة كلية الآدابحول الظروف التي قررت فيها وجهة النزوح، مبينة أنهم بالكاد خرجوا بملابسهم، نحو مدينة لا يملكون فيها مالاً ولا عملاً.
وتضيف “ساعدتنا الجمعيات الخيرية بالإيواء والملابس والطعام والمال أحياناً، وكانوا في غاية اللطف معنا، وبعد ذلك تمكن زوجي من إيجاد عمل واستأجرنا منزلاً من غرفة واحدة في الأرياف، وظللنا بين أناس أصبحوا أهلنا طوال أعوام الحرب من دون أن نشعر بتفرقة ونحن الآتون من أشد المناطق عداء معهم، كما روج النظام في دعايته لسنوات”.

لا تزال حتى اليوم الناجية الوحيدة من الخراب والدمار وأصوات الرصاص وحالات الخطف (أ ف ب)
كذلك يعمل محمد كاتبي حداداً في مجال السيارات، وكان يمتلك ورشة ضخمة في منطقة زملكا بغوطة دمشق، لكن حصار المنطقة وقصفها اليومي جعله يختار النزوح والبدء من جديد في مكان آخر، وهذا المكان كان طرطوس، ولم يتمكن من إخراج معداته الأساسية، لكنه أخرج معه بعض الأموال وأمن طريقاً له ولأسرته عبر سماسرة المعابر، وبالفعل وصل إلى طرطوس عام 2013، وبعد فترة قليلة تمكن من دخول سوق العمل وافتتح ورشة حدادة في منطقة الصناعة على كتف طرطوس الجنوبي، وتلك الورشة كبرت يوماً بعد آخر حتى صارت من أهم المقاصد.
ويقول كاتبي “عام 2018 استعاد النظام الغوطة وزملكا وكل القرى، واستتب الأمن من جديد بعد توقف القصف، لكننا قررنا عدم العودة، كان قراراً عائلياً جماعياً، بنينا حياتنا هنا، وصار الناس هنا أهلنا ومعارفنا، خمس سنوات من الاختلاط اليومي ليست شيئاً هيناً، واليوم صاروا 12 عاماً، وجيراني في الورشات الأخرى من بخاخين وميكانيكيين وغيرهم ساعدوني لأقف على قدمي، وذلك معروف لا يمكن نسيانه، لذا لن أترك هذه المدينة على رغم كل الغلاء الذي أصابها، وعموماً فإن ورشتي ومنزلي دمرهما قصف النظام في ريف دمشق”.
وفي حين نزحت ميرنا عبدالعظيم مع زوجها من إدلب باتجاه طرطوس عام 2013، لم تكُن لديهما علاقات أو معارف هناك، وكانت معهما طفلتهما الصغيرة، وظلوا فترة في مخيم الطلائع حتى عثر زوجها على عمل في اختصاصه بمجال اللحوم، مما مكنهم من الخروج من المخيم بعد عام واستئجار منزل بسعر مخفض لأن ملكيته تعود لصاحب العمل، وفي الأثناء تابعت ميرنا دراستها الجامعية في كلية التربية بجامعة طرطوس وتخرجت لاحقاً. لا تصف الأيام التي عاشوها خلال الأعوام الأولى بالجميلة أو المريحة، لكنها تؤكد أن كل شيء كان يهون أمام عدم سماع صوت المدافع والقصف.
المال مقابل الأمان
على خلاف بقية المدن السورية كلها، لا ينتشر الأمن العام في شوارع طرطوس، ولا قوات وزارة الدفاع، إذ تكتفي السلطة بمراكز شرطية ثابتة داخل المدينة وحواجز بسيطة قليلة الأفراد على مداخلها الرئيسة، ومن الصعب ملاحظة أي مظهر للسلاح داخل المدينة، لكن أفراداً مجهولين قد يرمون بين شهر وآخر قنابل في مناطق مفتوحة ويلوذون بالفرار قبل أن تطاردهم قوات الأمن.
أحد مشايخ مدينة طرطوس الشيخ علي صارم يقول : إن أحداث الساحل والجنوب الأخيرة آلمتهم بشدة، مؤكداً أنهم دعاة سلام في كل زمان ومكان ومبدياً دهشته من قليلين حاولوا إثارة الفتن في المدينة قبل وأدها بصورة كاملة. وحول موضوع الفيدرالية أو اللامركزية السياسية، يوضح “ملتزمون قرارات ومطالب المجلس الإسلامي العلوي الأعلى تحت رئاسة العلامة الشيخ غزال غزال، وأعتقد بأن في ذلك حلاً يرضي الجميع، ويكفل التشارك وحقوق المواطنة والتوقف عن تشكيل دولة من لون واحد ومكون واحد، مما نشترك به مع رؤية الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية الكردية، بضرورة إشراك كل المكونات في صناعة القرار بعيداً من التهميش، واليوم يوجد لدينا ثلاثة مشايخ من الطائفة معتقلين في طرطوس، واحد أفرج عنه وظل اثنان من دون أية تهمة”.
وعن طرطوس نفسها، يقول “لا يمكن أن نسرق لقب حمص وهي ’أم الفقير‘، فطرطوس حقيقة ليست مدينة للفقراء، لكنها مدينة للعيش بعيداً من الحرب والمدافع والأخطار، هي مدينة للسكينة والحب والسلام والطمأنينة والعيش المشترك، هناك تجار جشعون أساءوا لهذه المدينة ولأهلها قبل الوافدين إليها في الأسعار والدفوعات، ولكن يبقى ما يعزي وهو أن الحياة لم تتوقف ثانية واحدة هنا، وأبشع ما يقوله المرء إن المال مقابل الأمان، لكن ماذا نفعل لو كانت المعادلة أسعاراً رخيصة وقتلاً يومياً كما في حمص مثلاً؟”.
طارق علي
(اندبندنت)