
قصة هنانو والشيخ صالح العلي
في قلب الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي، برز زعيمان من جهتين جغرافيتين مختلفتين – السهل والجبل – لكن متجاورتين، ليمثّلا نواة وحدة وطنية في وجه مشاريع التقسيم. إبراهيم هنانو من إدلب، والشيخ صالح العلي من جبال اللاذقية.
رغم الاختلافات الاجتماعية والمناطقية، وحدت مقاومة الاحتلال الفرنسي صفوف أبناء المحافظتين، اللتين يمزقهما اليوم انتماء إحداهما إلى النظام السّابق، والثانية إلى النظام الجديد، وغياب الخطاب الوطني الجامع.
إبراهيم هنانو المولود في كفر تخاريم غرب إدلب كان الزعيم الأكثر تعليماً في الثورة، إذ حصل على شهادة الحقوق في إسطنبول، وعرف فيها العمل السياسي حيث انضم إلى جمعية الاتحاد والترقي.
شغل مناصب إدارية متعددة في الدولة العثمانية حتى انتخابه نائباً عن حلب. وبذلك، يعاكس هنانو سيرة زعماء الثورة الآخرين الذين بدأوا نضالهم مبكراً ضد الدولة العثمانية، إذ جاء تحركه الجهادي لاحقاً في مواجهة الانتداب الفرنسي.
عقب معركة ميسلون واستشهاد يوسف العظمة في معركته ضد الاحتلال الفرنسي، بادر هنانو إلى عقد اجتماع موسّع مع وجهاء إدلب والمنطقة لتأسيس نواة مقاومة مسلحة، وتم تكليفه بتشكيل وحدات قتالية لمشاغلة الفرنسيين. وأحرق أثاث منزله معلناً الثورة، قائلاً «لا أريد أثاثاً في بلد مستعمر».
واجه هنانو تحديات كبرى، لا سيما بعد توقيع الملك فيصل معاهدة الانتداب، ما دفعه إلى اللجوء لتركيا ولقاء مصطفى كمال أتاتورك، الذي قدّم له دعماً عسكرياً.
لكن بعد توقيع تركيا اتفاقية مع فرنسا، توقف الدعم، واضطر هنانو إلى مغادرة معاقله باتجاه فلسطين، ولكن تم إلقاء القبض عليه وإصدار حكم بالإعدام بحقه قبل الإعفاء عنه لاحقاً. وبعد الإفراج عنه، لعب دوراً سياسياً بارزاً في الكتلة الوطنية حتى وفاته بأزمة قلبية عام 1935.
أما الشيخ صالح العلي، فكان زعيماً دينياً ووطنياً بارزاً في جبال الساحل السوري، وأول من أطلق شرارة التمرد فيها ضد الدولة العثمانية. واستمر في مقاومته ضد الفرنسيين، ورفض عروضهم لإقامة دولة علوية منفصلة، مؤكداً تمسكه بوحدة سوريا.
أسهم في تأسيس مدارس لتعليم أبناء الجبل وتثبيت الوعي الوطني. ورغم صدور حكم بالإعدام عليه ووضعه تحت الإقامة الجبرية، إلا أنّه عاد للنضال السياسي بعد العفو عنه عام 1922، وظل معارضاً لأي تقسيم طائفي أو إقليمي لسوريا حتى وفاته عام 1950.
لم تكن العلاقة بين هنانو والعلي علاقة تعارف عابرة، بل شكّلت تحالفاً إستراتيجياً في مرحلة دقيقة من تاريخ سوريا.
تنقل المصادر تنسيقاً مباشراً بين الرجلين، رغم تعقيدات التواصل وصعوبة الظروف الميدانية. فقد تبادل كلاهما الدعم اللوجستي والمعنوي.
وعرف عنهما التواصل مع فلاديمير لينين زعيم الثورة البلشفية في الاتحاد السوفياتي وإعجابه بتجربة الرجلين، فيما لم يعرف ما إذا تم تقديم أي دعم لثورتهما.
كما وجّه يوسف العظمة، وزير الحربية السورية، دعوة إلى شيخ الساحل، فاجتمع به، وبحثا في شؤون الثورة، وأقسما يمين الولاء والوفاء. وكانت هناك رسائل كثيرة متبادلة بين البطلين. وتلقّى الشيخ صالح العلي «فزعات» من مناطق في إدلب والفرات وتلكلخ، أسهمت في تعزيز قواته في مواجهة الاحتلال الفرنسي. وفي مفارقة لافتة، كانت تلك الفزعات آنذاك رمزاً لوحدة الصف، على عكس ما نشهده اليوم من تحشيدات داخلية تسهم في تعميق الانقسام بين السوريين.
قصة هنانو والعلي هي حكاية وحدة وطنية حقيقية، جمعت الساحل والداخل، الجبل والسهل، في نضال مشترك لرفض الاحتلال وبناء سوريا الحرة. قصة يجب أن تُروى دائماً، خصوصاً في زمن يُراد فيه تشويه الذاكرة الوطنية وتعميق الفُرقة بين السوريين.
(الأخبار)