لا خلاص إلا بصحوة الوعي الوطني “السني “في سوريا
بعد مرور سنة على سقوط النظام السوري الديكتاتوري الفاسد بات من الضروري أن نتوقف، ونتأمل، ونسأل أنفسنا بجرأة مؤلمة: ماذا حدث لنا؟ أين ضاعت بوصلة القيم التي خرجت من أجلها الجماهير؟ ولماذا تحوّل حراكٌ كان يفترض أن يقتلع الاستبداد من جذوره إلى فسحةٍ سمحت باستنبات أشكال جديدة منه، بأسماء وشعارات مختلفة؟
إنّ الحديث عن صحوة الوعي الوطني داخل المكوّن السني في سوريا ليس دعوةً طائفية، بل هو اعتراف بحقيقة موضوعية: أنّ هذا المكوّن، بحجمه وثقله التاريخي والاجتماعي، هو الذي يشكّل العمود الفقري لأي مشروع وطني سوري. وحين يتعثر وعيه، أو يضيع اتجاهه، تتعثر معه إمكانية ولادة الدولة، ويتشوه معها معنى الثورة.
حين تُواجَه مطالب الأقليات بتُهَم جاهزة: آلية هروب من مواجهة الذات
من الظواهر التي ترسخت خلال السنة الفائتةأنّ كل حراك يصدر عن جماعة صغيرة، وكل مطالبة حقوقية أو سياسية أو حتى اجتماعية، يُقابَل فورًا بعبارات من نوع:أين كنتم من 14 سنة,وأنتم فلول ,وتريدون استعادة مكاسب ضائعة وسوى ذلك من العبارات المعروفة.هذه الاتهامات الجاهزة ليست تحليلاً سياسيًا، بل آلية دفاع نفسي يهدف إلى منع أي نقاش صعب داخل الجسم الأكبر.
هي وسيلة للهروب من مواجهة السؤال المهم:لماذا أخفقنا في توحيد سوريا طالما أن السبب الأساسي الذي كان يمنع ذلك قد زال .
ومن الذي يتحمل المسؤولية الأخلاقية والعملية عمّا آلت إليه البلاد؟
إنّ وصف المطالبات الصادرة عن الأقليات بأنها “مؤامرة” أو “نزعة تفكيك” ليس إلا محاولة لتسكين الألم الداخلي.
وهو في الحقيقة يُسقِط فرصة ذهبية للحوار الوطني، لأن أي مشروع دولة لا يمكن أن يُبنى فوق تكميم أصوات صغيرة، ولا فوق شيطنة مكوّنات كاملة.
من بكاء المآسي… إلى تبريرها حين يَصدرُ الفعل عن “الأقرب”
من أكثر المفارقات مرارة في التجربة السورية أنّ العديد من السوريين الذين ملؤوا العالم صراخًا ضد المجازر، وضد تطييف الدولة، وضد التمييز، صاروا هم أنفسهم—بعد مدة قصيرة—يبررون هذه الممارسات عندما تصدر عن جهة قريبة منهم أو عن تنظيم يحمل هويتهم.
كيف انتقلنا من رفض القتل إلى تبرير القتل؟من رفض التطييف إلى إعادة إنتاجه؟من رفض الاستبداد إلى الدفاع عن استبداد “موازٍ” بدعوى أنه “من جماعتنا”؟
هذا الانحدار ليس مجرد ازدواجية أخلاقية، بل هو إعلان موت المعنى الأصلي للثورة.فالثورة التي تفقد قيمها تتحول إلى صراع سلطة.
والثائر الذي يصبح جلادًا لا يختلف عن الجلاد الذي ثار ضده، مهما تغيّر اللون والاسم والشعار.
– هل كانت الثورة فعلًا ثورة قيم؟ أم كانت بحثًا عن سيد جديد؟
هل كانت ثورتنا فعلًا ذات مضمون وجداني، أخلاقي، مدني؟أم أنها، بالنسبة لشريحة واسعة، كانت مجرد محاولة لاستبدال سلطة بأخرى، يختلف أفرادها في الطائفة لكن يتطابقون في السلوك؟
هل كنا نبحث عن حرية الإنسان… أم عن حرية “الطائفة”؟
هل رفعنا شعار إسقاط الاستبداد… أم إسقاط المستبد ليحلّ مكانه مستبد آخر “أقرب إلينا”؟هذه الأسئلة الموجعة يجب أن تُطرح اليوم بلا خوف.فالوعي لا يولد إلا من مواجهة الحقيقة، لا من دفنها.والثورة التي تصبح أداة لارتقاء هويات ضيقة فوق بعضها تتحول إلى نسخة مسخ من النظام الذي ثارت عليه.
– علي فرزات: حين يعود الفنان ليجد خرابًا أكبر
من الشواهد الرمزية على بداية يقظة الوعي لدى بعض السوريين ما تحدث به الفنان العالمي علي فرزات بعد زيارته الأخيرة لسوريا.
فرزات، الذي جرى تكسير أصابعه لمنعه من رسم الكاريكاتيرات المنتقدة للنظام الساقط. والذي بقي عاما كاملا ينافح ويدافع عن السلطة الجديدة .عاد إلى بلده بعد سنوات من الغياب ليكتشف أن الفساد لم يعد مجرد سلوك فردي أو طبقة مستفيدة، بل أصبح مناخًا عامًا يلتهم كل شيء: الاقتصاد، الأخلاق، معنى الوطنية، بل وحتى ذاكرة الثورة.
وصف فرزات ما رآه ب “ضباع العصر مافيات استثمار البيزنس على ضهر السوريين المعترين”، ليس لأن النظام ازداد فسادًا فقط، بل لأن شرائح واسعة من المجتمع—بمن فيهم من حمل شعار الثورة—تبنّت عقلية المنفعة، والتبرير، وتبديل المبادئ بالمكاسب.
لماذا الحديث عن “صحوة المكوّن السني” تحديدًا؟
ليس لأن هذا المكوّن أحق بالقيادة، ولا لأنه “أفضل” من غيره، ولا لأن القضية طائفية الهوى.بل لأن وزنه الديمغرافي والتاريخي والسياسي يجعله في موقع الشريك الأكبر في تشكيل مستقبل سوريا.حين يغيب وعيه، تختلّ الدولة.وحين يتوه خطابه، يضيع المشروع الوطني.وحين يستسلم لخطاب الشعبوية، أو للانتماءات الضيقة، أو للبحث عن زعيم إنقاذي بدل مؤسسات، فإنه يفتح الطريق أمام الفوضى وتكرار الاستبداد بأشكال جديدة.
نحو وعي يضمّ الجميع: لا بناء بلا شراكة وطنية عميقة
لا يمكن لسوريا أن تُبنى إذا بقي كل مكوّن يحمل ذاكرة مريرة تجاه الآخر.ولا يمكن للأكثرية أن تتزعّم مشروعًا وطنيًا إذا لم تفتح قلبها للمكوّنات الأصغر كشركاء كاملين في الوطن.ولا يمكن للأقليات أن تشعر بالأمان إذا رأت أنّ الأكثرية تنزلق نحو خطاب “امتلاك البلد”.
إنّ سوريا الجديدة لا تُبنى على أساس سني–علوي–مسيحي–كردي–درزي
بل تُبنى على أساس مواطن–مواطن.والمواطن لا يولد إلا حين يستيقظ ضميره، لا حين ينتصر انتماؤه.
إنّ الخلاص الوطني في سوريا لن يحققه مكوّن واحد، ولن يفرضه الخارج، ولن تصنعه القوة العسكرية، ولا الخطابات الثورية، ولا الشعارات.إنما يبدأ من ثورة داخل الذات، داخل العقل الجمعي للمكوّن الأكبر، الذي إن نهض بوعي عميق ومسؤول فإنّ البلاد كلها ستنهض معه.
لا خلاص إلا بصحوة العقل—لا الطائفة,وبعودة الضمير—لا الهوية,وبانبعاث قيم الحرية—لا إعادة تدويرها.
وعندما يستعيد هذا المكوّن دوره الوطني الحقيقي بوصفه حاضنًا للجميع، لا متصارعًا مع أحد، يمكن حينها فقط أن تبدأ سوريا كتابة فصل جديد من تاريخها، فصلٍ لا يقوم على الخوف والذاكرة الجريحة، بل على الشراكة، والقيم، والوعي.
(رأي الموقع)