
الهوية القاتلة
ناجون من الموت الطائفي في سوريا يروون لـ “اندبندنت عربية” قصصهم التي تحكي التحديات التي تواجههم عند التحرك بين المدن والقرى حين تصبح التهمة “طائفة” ويكون الجاني مجهولاً.
يكثر سؤال “هل أنت سني أم علوي؟” الذي يعترض السوريين إذ يستعمل بكثرة لمعرفة هوية الركاب والعابرين والمتنقلين، وقد يترتب على الأمر كما في كثير من الأحيان انتهاكات معنوية وشتائم وإهانات تصل حد القتل أحياناً.
ذلك السؤال جعل حركة تنقل المواطنين محدودة، والأحياء والمدن مغلقة على نفسها بصورة نسبية ليستمر الاستفزاز غير معلوم المصدر وغالباً من دون أوامر منسقة في وضع عناصر أجنبية على مداخل أحياء علوية تسأل الناس عن هويتها الدينية كما حصل قبل أيام قرب حي “المزة 86” ذي الغالبية العلوية في دمشق، وكانت العناصر أجنبية بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي أفاد بأن الحاجز كان موقتاً، وهذا يدل على أن وجوده لم يكن بأوامر مباشرة من القيادات المعنية.
صراع جيلين
لا توافق سلطات دمشق في المطلق على مثل هذه الأمور، ويبدو ذلك جلياً من توجيهاتها لعناصرها في الأمن والداخلية والدفاع وكلمات الرئيس أحمد الشرع الذي أكد أن الثورة بمفهومها البنيوي انتهت مع سقوط النظام، وأنه آن أوان إقامة الدولة بعقلية البناء لا الثأر، بيد أن الطامة الكبرى تكمن في أن ما يحدث هو عين ما يمكن تسميته “الحالات الفردية” القافزة نحو التكرار الذي لا يريد أحد أن يصبح منهجاً عاماً، وقد صار.
ويمكن التمييز هنا بشكل فعلي بين جيلين متباينين، الجيل الأقدم الذي عاش في سوريا الواحدة الموحدة مندمجاً بين مكوناتها ثقافياً واجتماعياً ونفسياً وحياتياً، ففصلت بينهم الحرب لعقد ولم يجدوا بعدها صعوبة في إعادة الدخول مع مجتمع الماضي، وجيل جديد من النشء حديثي المواليد الذين لم تسمح لهم أعمارهم بمعرفة تكوين بقية المكونات والعيش معها، وهؤلاء الشباب العشرينيون بعضهم “رؤوسهم حامية” وقد تربوا في مناطق تحكمها الشريعة النصية الصارمة ولا وجود فيها لنظراء آخرين من غير الملة والتفكير.
فصل عنصري
الأستاذ في علم الاجتماع ناجي خاوندي يقول لـ “اندبندنت عربية” إن “فصلاً عنصرياً مريراً حصل في سوريا، فتهجر ملايين الناس نحو الخيم، وعشرات الألوف منهم كانوا أطفالا وقتذاك، وأولئك الأطفال كبروا على شيئين، إما والد أو قريب قتله النظام، أو تربية سلوكية نفسية تحمل طابعاً تكفيرياً مرهوناً بفكر جماعات إسلامية متطرفة منها ‘داعش’ و’القاعدة’ و’حراس الدين’ وغيرهم، وهؤلاء الذين كانت أعمارهم سنيناً أصبحوا اليوم شباباً، وبعد الانتصار لا شيء يمنع تطوعهم في صفوف المقاتلين الحكوميين، فهم الآن ينفذون ما يرونه صحيحاً وتغذي بداخلهم الأحداث والروايات ومواقع التواصل الاجتماعي الضغينة الطائفية التي تضغط على قيادة الرئيس أحمد الشرع ومن حوله من أصحاب مشروع سوريا الحديثة”.
ويتابع، “يضاف لهؤلاء اثنان لا يريدان للمجتمع أن يهدأ وللحال الأمنية أن تستتب، وهما المقاتلون الغرباء والمجرمون الهاربون من السجن، ولذلك نرى استمراراً وتصاعداً في عمليات استهداف الأقليات الذي يشكل مأزقاً وحرجاً للسلطات الجديدة، والتي بحدود معرفتي تستقبل الشكاوى حول تلك الممارسات وتتابعها بجدية على رغم الاستخفاف بها أحياناً، وهذا أيضاً يتبع لطبيعة القسم الذي تلقى الشكوى، فليس الجميع على القدر ذاته من الحكمة”.
الهوية القاتلة والطرقات الخطرة
صحيح أن الهوية باتت اليوم قاتلة والطرقات خطرة والناس خائفة على كرامتها قبل حياتها، لكن ذلك حصل أيضاً ومورس على دور النظام المخلوع ضمن سياسة الانتقاء الطائفي ولو أنه كان أكثر شمولية، ويشار إلى أنه وبغض النظر عن التضييق على بعض الحواجز، فإن كل عمليات القتل التي تمت سُئل قبلها المقتول عن هويته المذهبية، وهذا ما جرى إثباته بالمطلق منذ سقوط النظام أواخر عام 2024 مروراً بمجازر الساحل السوري في مارس (آذار) الماضي ووصولاً إلى كل عمليات القتل اليومية التي لم تتوقف حتى الآن.
وتحاول “اندبندنت عربية” التركيز على شهادات الناجين، على اعتبار أن أحداث القتل هي الطاغية والمالئة ليوميات الناس، فكان لا بد من الاستماع إلى قصص الموت تلك كيف تبدأ وكيف قد تنتهي برصاصة أو نجاة.
الشرارة الأولى
“توقعنا أن تسيل الدماء في الشوارع حين انتصرت الثورة لكن روحاً لم تزهق”، هذا ما قاله الموظف محمد عمار، إذ كان مستبشراً بعهد جديد من الحريات والإخوة ونسيان الماضي بناء على ما حصل في الأيام الأولى من تراحم وتلاحم، لكن ذلك الحلم القصير سرعان ما انتهى.
ويكمل عمار “ما هي أيام حتى بدأنا بسماع روايات القتل على الهوية تصل إلينا من أحياء حمص بداية حيث أعيش، ويوماً تلو آخر تنمو وتزداد، وحتى ذلك الحين كنا نتنقل بشكل طبيعي، وبعد نحو 20 يوماً دب خبر إحراق مقام الإمام الخصيبي في حلب في أرجاء شوارعنا، وهو أحد أكبر أئمة الطائفة لدينا ومقامه في حلب، فخرجت مظاهرة كبيرة في حي الحضارة بحمص، وحاول الأمن العام حديث التشكيل احتواءها، ولكن تدخل أشخاص مجهولون وأطلقوا النيران باتجاه المتظاهرين والأمن، مما أدى إلى سقوط قتيل وبضعة جرحى، وكانت هذه شرارة الطائفية الأولى”.
وتابع المتحدث “ساد اعتقاد لدى الأمن أننا غدرنا بهم، فنشروا حواجز مكثفة في المدينة، وبعد بضعة أيام كنت عائداً من وظيفتي فاستوقفني حاجز حي الفاخورة في المدينة، وسألني أنت نصيري (علوي) أم سنّي؟ فأجبته أنا مسلم، فكرر سؤاله فقلت له علوي، فأمرني بالنزول من السيارة والوقوف على الحائط المجاور، وجرى تفتيش هاتفي وعثروا فيه على مقاطع للتظاهرة فأشبعت ضرباً قبل وصول الأمير الذي هددني أنهم سيقتلونني ويرموني في الأراضي الزراعية، وظللت على هذه الحال ست ساعات قبل أن يقرروا السماح لي بالذهاب إلى منزلي، ومذ ذلك تركت عملي وما عدت أخرج من المنزل”.
هوية طائفية
الأمر ذاته حصل مع المهندس أيمن حسان على طريق مدينة الدريكيش في الساحل السوري، حيث سئل عن هويته الطائفية ليجري إنزاله مع اثنين آخرين من وسيلة النقل العامة التي كانوا يستقلونها قبل أن يتعرضوا لإهانات معنوية وشتائم لفظية وضرب مبرح، وبالطبع قبل أن يطلب منهم الركوع على الأرض وتقليد أصوات الحيوانات، وهو أمر تكرر “آلاف المرات” خلال الأشهر الماضية من دون أن يدري أحد ما الغاية منه، إلا أن كثيراً من المتابعين قارنوه بسلوك عناصر بشار الذين كانوا يجبرون الناس على الانبطاح وتقبيل صور الرئيس السابق بعد إهانتهم وشتمهم وسؤالهم “من ربك؟” ليدفعوهم نحو الكفر مرغمين.
التهمة طائفة
من شدة خوف الشاب زين، وهو اسم مستعار، قام بحف شاربيه قليلاً منتظراً اللحظة التي سيسأل فيها عن مذهبه، وحصل ذلك على طريق طرطوس – حمص من قبل حاجز مجهول التبعية، كما يؤكد زين على اعتبار اختلاف تعامله عن كل الحواجز السابقة واللاحقة على الطريق ذاته، وبالفعل سُئل عن مذهبه فحاول الاحتيال وقال إنه سنّي، وكاد كل شيء أن يمر على ما يرام، لكن خوف زين ورجفته انعكسا على ملامحه ودفعا العنصر إلى الشك فيه، فأمره بالنزول وبدأ بتوجيه أسئلة شرعية له على شاكلة عدد الصلوات وعدد الركعات في كل صلاة، وما هي صلاتا الشفع والوتر، وكيفية الوضوء وأسماء زوجات النبي وغير ذلك، وحينها اعترف زين بأنه يكذب وقال طائفته الحقيقية فتعرض على إثرها لضرب شديد وتلقيم سلاحٍ نحو صدره، لكنه لسبب ما كان أكثر حظاً من غيره، وذلك التعذيب أفضى به إلى 10 أيام من العلاج في المستشفى.
وكانت تلك حالات لناجين حالفهم حظ عظيم، أما من لم ينجو فتعدادهم بات بالآلاف والتهمة “طائفة”، طائفة لا يمكن قتلها كلها، وهي ثاني أكبر مكون ديموغرافي في البلد، بحسب الشيخ العلوي علي جمران الذي قال لـ “اندبندنت العربية” إن “السلطة تحتاج جميع المكونات بقدر حاجتهم إليها، ولكن ثمة ثغرة صارت كثقب أسود يبلعنا، فنحن لا نشكك في نيات قيادتنا ولكننا نحتاج مزيداً من الحماية لأرواحنا وأعراضنا وأرزاقنا، وكما أمر الله عز وجل بأن يكون دم المسلم على المسلم حراماً، فالتكفير لا ينتهي وضبطه صعب ونحن صابرون لا عن قلة حيلة بل عن إيمان بسوريا الجديدة، ونصلي ليكون آخر إيماننا فرجاً”.
الصورة البيضاء
وفي الطرف المقابل ثمة حواجز وعناصر وأمنيون وسوريون لم يعترضوا طريق الآخرين قيد أنملة بل ساعدوهم في الإرشاد وقدموا لهم النصح في سلوك الطرق الآمنة، وقدموا لهم أية مساعدة ممكنة، بل وأسعفوا طفلاً رضيعاً مريضاً على طريق دمشق – حمص، كما يروي والد الطفل قصته مع الحاجز.
وثمة كثير من الحواجز اليوم في المدن والأرياف وعلى الطرق العامة، ومع مرور الوقت صار مشهدهم معتاداً، لكن ساعة الغفلة كما يصفها السوريون لا يُعرف متى تجيء، فكثير من الحواجز تكتفي بالإيماء للسيارة بالمرور، فيما حواجز أخرى تقوم بتفتيش روتيني بسيط، بينما أكثر ما يثير الخشية هو عناصر غير منضبطة وموجودة على طرق مركزية، والأكثر إساءة هي تلك التي تظهر على شكل “حواجز طيارة” فتقتل وتختطف وتسرق ثم تختفي من دون أن يكون لدى السلطات الجديدة القدرة على تغطية كامل الجغرافيا التي تسيطر عليها.
في مطلع أبريل (نيسان) الجاري تعطلت سيارة المقاول أحمد فيومي على الطريق الدولي الساحلي طرطوس – اللاذقية بالتزامن مع مرور سيارات للأمن العام، فشعر بخوف شديد لأنه توقع أن يتعرض لحادثة أمنية خصوصاً مع توقف إحدى السيارات الأمنية لتسأله عن سبب وقوفه في هذه المنطقة مع ساعات العصر، فشرح لهم أن السيارة تعطلت فجأة، يقول “فوجئت أنهم اتصلوا برافعة لتحمل سيارتي نحو اللاذقية ليجري إصلاحها هناك، وظل معي أحد شباب الأمن العام حتى اطمئن على وصولي بخير وأن أموري جيدة على رغم أني علوي، وقد عرفوا ذلك حين سألوني من أين انحدر، وأنا انتمي لواحدة من تلك القرى التي شهدت تطهيراً عرقياً خلال أحداث مارس الماضي، وتلك كانت إشارة وحادثة أرويها لكل من أجالسهم بأن هناك فعلاً من يحاول حمايتنا على رغم كل ما يحصل”.
طارق علي -انتدبندنت