
هل هي هدايا مجانية؟
السياسة كعالم بعيد كل البعد عن سرديات القيم والأخلاق بمفهومها الجمعي والشخصي ,هي مجال واسع لتداخل المصالح مع الاستراتيجيا ,لألاعيب الاستخبارات ,لنفوذ الرأسمال ,لشبكة عميقة من العلاقات السرية بين النخب العالمية,لنفوذ الدولة العميقة التي تقود وتجسّد كل ذلك .
هذا الأمر يكاد يكون مفهوما ,لكن الأمر الذي يستعصي على الفهم هو لماذا تكون ممارسة هذا الأمر عندنا في أدنى درجاته ,ولماذا نكون نحن دائما في الطرف الذي يأتي إليه من باب الضعف والممارسات الخاطئة ,ونأتي إليه بدون عدة لازمة ,وبدون أوراق قوة في أيدينا ,بل ونتخلى عن تلك الأوراق (إن وجدت)حتى قبل أن يسمح لنا بالجلوس على الطاولة.
ولمحاولة فهم ما يجري في سوريا من أحداث تتعلق بسيادتها وآخرها استعادة إرشيف الجاسوس كوهين وغياب ردة الفعل أو تجاهل هذه الأحداث من قبل الحكومة السورية وظهورها بمظهر العاجز وهي تتهاون مع الخارج وتقدم له الهدايا مجانا ,لا بد لنا بداية من وضع القرار الذي أتى بالتغيير في سوريا والذي أصبحت خطوطه العريضة معروفة في خلفية وأساس أي قراءة وتحليل للأحداث التالية , والآلية التي تتبعها القيادة الجديدة في سوريا في تعاملها مع الملفين الداخلي والخارجي.
ففي الخطوط العريضة خارجيا :بدءا من استقبال وزير من حكومة غير معترف بها في أكبر منتدى اقتصادي عالمي وقيام رئيس وزراء بريطاني سابق بإجراء مقابلة معه ,وصولا للقاء الأخير مع ترامب في السعودية.
وعلى مستوى الداخل ,يتم التغاضي وغض الطرف عن ممارسات (عصبوية,طائفية,عنصرية )وصولا للقتل واستباحة الممتلكات ينبذها ويدينها العالم في دوله,ويضع قيودا وشروطا صارمة لمواطنيه حتى لا ينزلقوا إليها حتى على مستوى الخطاب والكلمة .
والسؤال البديهي هنا :طيب وماهو السبب وماهو الثمن وهل ما يجري مؤخرا جزء منه؟
لن نخوض في أمر السبب فالأهداف البعيدة ليست واضحة بالقدر الكافي حاليا وإن كانت هناك بضعة أهداف قريبة قد تبدو مقبولة من مثل(إنهاء النفوذ الإيراني وقطع الإمداد عن حزب اللة وحماس ,موضوع المهجّرين ,وفتح الأبواب أمام مشاريع من مثل اتفاقية ابرام ) ,وهذا الأمر قد تحقق بسرعة وسهولة أو في طور التحقيق,ويجب التفكير في أسباب أبعد واثمان أخرى ,وحتى لو سلّمنا بأن القيادة الجديدة لديها الرغبة في مقاومة التنازلات والأثمان المطلوبة فهل تمتلك المقدرات اللازمة,وهل يتيح لها وضعها وتركيبتها ذلك؟
لا بد لنا أن نعرف أن التفكير (البراغماتي)لدى القيادة السورية ليس جديدا ,فهو يعود لفترة انفصال جبهة النصرة عن القاعدة ,واستبدال مفهوم (الجهاد العالمي) بمفهوم(الجهاد المحلي),وقد ظهر رأي في الجدل الداخلي بين التنظيمات الدينية المتطرفة يقول بأن الأسلوب الذي تعتمده القاعدة ولاحقا داعش والذي أساسه الجهاد والقتال وتكفير المختلف هو أسلوب لم يجر سوى النكسات والهزائم ,ويجب اعتماد أسلوب جديد يعتمد مبدأ (التخفّي والتمكين)وذلك باستخدام التقية وإخفاء الأهداف الحقيقية ,والسعي وراء الأهداف القريبة الممكنة كخطوة على طريق الأهداف البعيدة وهذا شكل مجمل السياسيات التي طبقتها النسخة السورية من هذا الفكر .
ووصل الأمر في الممارسة العملية لهذا الأمر حد التماهي معه,وطبق بمعناه (الفيزيائي) حتى في ارتداء اللثام من قبل عناصر القوى الأمنية ,والإزدواجية والتناقض ما بين الخطاب الرسمي,بين ما يصرح ويعد به رئيس الدولة وبين ما يطبق على الأرض.
لا يمانع هذا الفكر بثوبه الجديد من اتباع نهج قد يبدو مخالفا للأمور العقدية ,طالما أن الهدف في نظرهم كبير ,ومثلا :لا بأس ببضعة تنازلات قد تقدم للعدو ما يريده ظاهريا ,إن كان الهدف الحقيقي سيتحقق وهو الوصول للحكم وفق الشريعة التي نؤمن بها .
حتى الآن يبدو أن هذا الأمر قد نجح ,وهاهي جبهة النصرة (لاحقا هتش) قد وصلت لأول مرة في تاريخ التنظيمات الجهادية لحكم دولة عربية (اذا استثنينا الصومال),وانتقلت مباشرة من ميدان القتال للحكم وإدارة دولة كاملة (وإن كان المشهد لم يكتمل بانتظار الجهود التركية لاحتواء الأكراد والجهود العربية لاحتواء الدروز وإقناع اسرائيل بصفقة ما لكي تكف عن التدخل).
من هذا الباب يمكن مقاربة وفهم الأحداث الأخيرة ,وقيام اسرائيل بالاستعراض اليومي على حساب سيادة وكرامة سوريا وتحقيق ما عجزت عنه طوال العقود الماضية ,هم يصفونها بالأعمال (البطولية) و(المعقدة) و(السرية) ,ويسوقونها داخليا وخارجيا كدعاية للتفوق والبطولة,ومن جهة الحكومة السورية الصامتة فعلا عن كل ما يجري هناك همس خفيف :دعهم يفرحون بهذه الهدايا البسيطة ,فهذا لاشيء أمام الإعتراف العالمي بنا ورفع العقوبات عنا.
هذه الممارسة هي قمة تجسيد مبدأ (التخفي والتمكين)الذي تطبقه وتؤمن به القيادة الجديدة .
نعود للسؤال الأساسي الملحّ مع مفارقات ومقارنات متعددة ,ومطبات كثيرة على الطريق .
هل يحتشد العالم ويسخر قدراته وأمواله وحتى العلاقات الشخصية من أجلنا بدون ثمن ,وماهو هذا الثمن الذي يتطلب كل هذا الجهد وكل هذه النفقات وكل هذه الفرص المتاحة ,والمفارقة المرة أنه يعلم أنك لا تفعل شيئا في بيتك الداخلي ,وإن فعلت فإنك تقدمه (كتنازل)للشروط الخارجية ومن نفس المبدأ السابق .ألا يذكّر هذا الأمر بممارسات أنظمة فاشلة وساقطة للتو.
وهل بقي في هذا العالم الذي انتابته حمّى الوقاحة على مستوى رؤساء أكبر الدول واللاهث وراء المصالح بانتهازية مفرطة شيء للبراءة وحسن الظن والنية؟
(رأي الموقع)