آخـر أيّـام بـومبـي
للفنان الروسي كـارل بـريـولـوف، 1830
إبتداءً من منتصف القرن الثامن عشر، أصبحت قصّة ثوَران بركان فيزوف موضوعا يثير افتتان الناس واهتمامهم. وفي نفس الوقت بدأ علماء الآثار عمليات الحفر بحثا عن مدينة بومبي القديمة والمدفونة تحت رماد البركان.
كانت تلك الحادثة ذات جاذبية خاصّة بالنسبة للرسّامين الرومانسيين. ومن بين هؤلاء كارل بريولوف الذي قضى في ايطاليا ثلاثة عشر عاما درس خلالها مدارس الفنّ وأعمال كبار الرسّامين.
وأثناء إقامته في ايطاليا، وبالتحديد عام 1827، زار الرسّام مواقع التنقيب والحفر في بومبي ورأى المدينة محفوظة تحت طبقات كثيفة من الرماد. كانت الكارثة سريعة ومفاجئة وأدّت إلى مقتل غالبية سكّان المدينة في يوم واحد وتوقُّف الحياة بشكل تامّ.
ولكي يرسم منظر الكارثة، بدأ بريولوف بدراسة الآثار التي وُجدت في مكان الحادثة، ثم قرأ الرسائل التي كتبها المؤرّخ الرومانيّ بليني الابن الذي كان شاهد عيان على ما حلّ ببومبي وجارتيها هيركولانيوم وستابيا.
كما قضى الرسّام وقتا طويلا في المتاحف محاولا أن يتخيّل كيف تصرّف الناس بعد الكارثة، وحضر في فلورنسا عرضا أثار مخيّلته لأوبرا تتحدّث عن الواقعة.
قبل عشر سنوات من ثوران بركان فيزوف، كانت بومبي قد تعرّضت لزلزال قويّ أثّر على كلّ مبانيها ومعالمها، لكن أمكن إصلاح الأضرار واستمرّ الناس في حياتهم اليومية كالمعتاد.
لكن في احد أيّام أغسطس من عام تسعة وسبعين للميلاد، وبحسب رواية بليني، رأى سكّان المدينة في إحدى الليالي عمودا من الدّخان يخرج من فوّهة بركان فيزوف ويرتفع عشرات الأميال في السماء.
وقد نظر الناس حولهم مندهشين، وفهموا وهم يرون تساقط الرّماد الأوّل على أسطح منازلهم أن الوضع ينذر بالخطر. لذا جمعوا كلّ ما يستطيعون حمله من منازلهم من حُليّ وأشياء أخرى ثمينة ثم اندفعوا إلى الشوارع. والقليلون ممّن كُتبت لهم النجاة اخذوا القوارب وهربوا باتجاه البحر.
لكن مع ساعات الصّباح الأولى، شقّت سحابة هائلة من الغاز والرماد طريقها إلى أسفل الجبل، وفي ثوان معدودات قُتل جميع من بقي من الأهالي الذين كانوا يحاولون الهرب.
ومن خلال دراسة العظام والبقايا في مكان الكارثة، توصّل العلماء إلى أن الهاربين حُبسوا داخل سحابة ضخمة وصلت حرارتها إلى أكثر من تسعمائة درجة فهرنهايت. وقد ماتوا على الفور نتيجة الصدمة الحرارية، وليس بسبب الاختناق البطيء كما كان العلماء قد استنتجوا من قبل.
كانت بومبي قبل البركان مدينة تجارية مزدهرة يقطنها حوالي عشرين ألف شخص ثلثهم تقريبا من الأطفال. وكانت بيوتها ملحقة بحدائق وأفنية وجداريات من أزهار ونباتات. كما كانت المدينة تتمتّع بنظام محكم لتوزيع وتصريف المياه عبر قنوات محفورة تحت الأرض.
وطوال قرون بعد البركان، مُسحت المدينة من على وجه الأرض واختفت تماما تقريبا من الذاكرة. وعندما زار بريولوف أطلالها فتنه المنظر وتخيّل انه مسافر إلى الوراء عبر الزمن.
وقد صوّر في لوحته هذه فئات مختلفة من مواطني بومبي وردود أفعالهم في اللحظات التي أعقبت ثورة البركان. والصورة يضيئها اللهب المنبعث من البركان والبرق القادم من السماء. والناس فيها إمّا هاربون أو متجمّدون في أماكنهم وهم ينظرون بهلع إلى ما يحدث بينما يحاولون حماية أنفسهم من الحمم والحجارة المتطايرة.
وكلّ تفاصيل اللوحة دقيقة من الناحية التاريخية، بدءا من الشارع الذي تدور فيه الأحداث، إلى شكل الملابس ووضعيات الأشخاص. الصورة نفسها تضجّ بالحياة، من حركة الأشخاص إلى تأثيرات الضوء وتعبيرات الرعب واليأس المرتسمة على الوجوه.
في تسجيله للحادثة، يشير بليني إلى انه كان يسمع أصوات الأطفال والرجال والنساء وهم يصرخون ويرفعون أيديهم إلى الله طالبين منه أن يرأف بحالهم وينقذهم ممّا هم فيه من كرب وبلاء.
مصدر الضوء الرئيسيّ في الصورة هو البرق القويّ الذي يضرب منتصفها، حيث نرى امرأة ميّتة ممدّدة على الأرض وإلى جوارها طفلها الذي يحاول الوصول إليها.
والرسّام يحاول أن يُظهر الإنسانية على حقيقتها، فالمأساة حلّت بالجميع ولم تميّز بين شخص وآخر. في منتصف الصورة، يظهر شخص رافعا يده ومطلقا صرخة خوف وعجز، بينما يبسط وشاحه فوق رأسه وفوق امرأة مع طفلها لتفادي الحجارة الطائشة. وخلفهم يظهر كاهن يرتدي ملابس بيضاء.
وإلى يمين المشهد، يمكن رؤية فارس على ظهر حصان هائج ومبان توشك أن تسقط. وفي المقدّمة إلى أقصى اليمين، يظهر شابّ متزوّج حديثا وهو يحمل زوجته التي ما تزال ترتدي تاج العروس. وفي الوسط منظر لابنين يحملان والدهما المريض.
كان الرسّام قد قرأ ما كتبه بليني عن أمّه التي كانت تتوسّل إليه ألا يتركها. لذا ضمّنه الرسّام في هيئة الشخص الرابع من اليمين مع والدته. وفي الصورة أيضا يمكن رؤية وجه الكونتيسة يوليا سامويليوفا التي كانت راعية وصديقة للرسّام. وقد أعطى ملامحها للأمّ التي تحتضن ابنتيها إلى اليسار وكذلك للمرأة الميّتة.
ولم ينسَ بريولوف أن يُدرج في اللوحة صورا لعدد من الرموز التي تجسّد الكارثة، كتماثيل الآلهة الكلاسيكية المتساقطة في أعلى اليمين والمعابد والمباني المتهدّمة إلى اليسار والتي تمثّل ضعف وهشاشة البشر.
وفي مقدّمة اللوحة، نرى صورا لمجوهرات ومفاتيح تخلّى عنها أصحابها كرمز لعجز الإنسان، إذ لا احد يستطيع أن يأخذ معه شيئا من ممتلكاته إلى القبر.
هذه اللوحة هي أشبه ما تكون بمأساة إغريقية لأنها تثير في نفس الناظر شعورا بالشفقة والخوف. وموضوعها الأساس هو غضب الطبيعة وكيف أن البشر لا يفهمونها ولا يستطيعون السيطرة عليها. وكلّ هذه العناصر ترمز إلى الدمار والمصير النهائيّ الذي حلّ ببومبي وسكّانها.
وارتباط اللوحة بالأدب الكلاسيكيّ والأفكار الرومانسية يضعها في مكان وسيط بين النيوكلاسيكية والرومانسية. ومع أن تناول الرسّام للموضوع أكاديميّ الطابع، إلا أن الصورة قُدّمت للجمهور تحت لافتة الرومانسية. والحقيقة أن فيها العديد من سمات هذه المدرسة: دراما واقعية مع مسحة مثالية، واهتمام بالطبيعة واختيار حدث تاريخيّ كموضوع.
والملاحظ أن كلّ الشخصيات في اللوحة جميلة، على الرغم من أجواء الرعب والدمار التي تصوّرها. وقد وظّف الرسّام فيها تقنية الكياروسكورو بسخاء، واستخدم ألوانا دراماتيكية حمراء وسوداء داكنة في الخلفية وصفراء وزرقاء وذهبية في المقدّمة. كما أن طبقات الطلاء السميك تضفي على نسيج القماش لمعانا وحركة.
كانت هذه اللوحة هي تحفة بريولوف بلا منازع. وكان عرضها في ايطاليا حدثا كبيرا. وقد قارن النقّاد الايطاليون الرسّام بفنّاني الماضي العظام من أمثال رمبراندت وروبنز. وأصبح معاصروه يلقّبونه بـ "كارل العظيم".
عندما عاد بريولوف إلى روسيا عام 1835 استُقبل بحفاوة وأثارت لوحته جدلا واسعا، ثم مُنح شرف لقاء القيصر نيكولا الأوّل.
وعندما رأى الشاعر بوشكين اللوحة ألهمته كتابة قصيدة. كما ألهمت الكاتب ادوارد ليتون كتابة رواية بنفس الاسم. ويقال أن السير والتر سكوت جثا أمام الصورة الضخمة وحدّق فيها لساعة واصفاً إيّاها بأنها قصيدة ملحمية بالألوان. وبهذا أصبح كارل بريولوف أوّل رسّام روسيّ يحظى بإعجاب الغربيين.
كما كتب غوغول الذي كان صديقا حميما لبريولوف مقالا عن اللوحة نوّه فيه بطابعها المسرحيّ، مشيرا إلى أنها تتضمّن قصصا متعدّدة ومشاعر كثيرة ودراما وفوضى. وأضاف أن علاقتها بالأدب والدراما والتاريخ والشعر والموسيقى هو ما يجعل منها تحفة كاملة.
ولد كارل بريولوف في سانت بطرسبورغ عام 1799 لأبوين من أصل ايطاليّ. وقد درس في أكاديمية بطرسبورغ وكان أثناء دراسته طالبا واعدا وموهوبا. وعند تخرّجه عام 1821، إبتُعث إلى أوربّا لدراسة الرسم.
وبعد عودته إلى روسيا، زاول التدريس في الأكاديمية لمدّة ثمان سنوات. وقد استمرّ يرسم، لكنه لم يستطع رسم شيء يشبه هذه اللوحة التي استغرق العمل عليها ثلاث سنوات وتحوّلت في ما بعد إلى إحدى أيقونات الثقافة الروسية.
إضافة تعليق جديد