آخر الأخبار

التمساح المصرى والطوربيد السوري

(كان الحلم كبيرا فى وحدة تضم مصر وسوريا حكومة وشعبا تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة (1958-1961). ولكن الحلم كان أكبر من أن تتحمله الأرض فتفرقت الحكومات، وبقى الأبيض المتوسط يوحد البشر الكادحين أبدا، المتطلعين إلى الركض خلف أسوار الفقر والشقاء.. وكأن الشقاء أصبح إرثا لا يختلف عليه أحد.. وحدة المصير وحدت بين السباح المصرى "السيد عبد الجليل" والسورى "محمد زيتون" فى الحصول على البطولات المحلية والعالمية تحت علم الجمهورية العربية المتحدة، ووحدة الموت فى حادث فى سيارة "محمد زيتون".

فى إدكو، وعلى امتداد الأبيض المتوسط، وبالتحديد فى "المعدية" تلك البقعة الصغيرة التى يتجاور فيها ماء البحر المالح مع ماء البحيرة العذب، لا يطغى أحدهما على الآخر، ولُد تمساح البحر"السيد عبدالجليل" فى 3 يوليو1936. فى "المعدية" لا شيء إلا البحر، أينما يولى الصغيرُوجهه يرى البحر، فيصبح "السيد" صيادا مثل الجميع. قبيل الفجر، يخرج مع الكبار إلى الصيد، حتى إذا انتصفت شمس الظهيرة تسابق الجميع عائدين إلى بيوتهم إلا هو. فما إن يطمئن على رزق يومه، حتى يشرع صدره عائدا إلى البحر يسبح ويحلم بأنه يغزو بحار العالم حاضنا الموج كعروس يتمنى ألا يرافقها ليل نهار.. لا يعلم السباح الصغير أنه مع كل متر يتوغل فيه فى قلب الموج، فهو يكتب لنفسه تاريخا ناصعا سيبقى بعده أمدا بعيدا... يوما بعد يوم تصبح السباحة ادمانا يبارى بها الأصدقاء، ويكون هو الفائز دوما. ومع كل فوز يشعر أن هناك ما ينقصه، فهناك العديد من الشواطئ تنظره، ويبدأ المغامرة بالسباحة بعيدا عن حدود قريته المائية، سابحا إلى جزيرة نيلسون فى أبى قير لمسافة تزيد على 20 كيلو مترا.. ويطلقون عليه "تمساح البحر"..

على امتداد الأبيض المتوسط شرقا، ولد السباح "محمد زيتون" عام 1941، ليجد أن البحر أيضا مصدر رزق الأسرة التى تعمل فى بناء السفن الشراعية. ولخوفه على أولاده من البحر، يترك الأب صناعة السفن ويتجه إلى مجال البناء والمعمار. وفى "جبلة" يشارك السباح الصغير بنصيب كبير فى رحلة الشقاء ليل نهار، ليعمل فى مجال البناء، وتكسير الحجارة فى مقالع الحجارة وتسوية الأرض. وعندما يضج جسده بالتعب، يلقى بنفسه فى البحر يسبح ويصارع الموج ويحلم أنه يقتل هذا الشقاء بساعديه الذين يلفتان النظر إليه. فما إن يمسك بالمطرقة حتى تتكسر قبضتها الخشبية من قوة ضرباته، ليختار له رب عمله فى "الحدادة" مطرقة بوزن أكثر من "15 كج" ليعمل بها وتحمل اسمه إلى اليوم "مطرقة البطل العالمي". وكأن أزمنة الشقاء لم تكتف بكل ذلك، فيضيف إلى جدول شقائه صيد الأسماك فى مركب فى عمق البحر. ويرى "زيتون" البحر أمامه مشرعا لا حدود له، يتحين الفرصة ليلقى بنفسه فيه ينسى العالم وشقاءه. وعندما يكتفى الصيادون، يرفض العودة معهم بالمركب، مفضلا العودة سباحة إلى الشاطئ، فيسبق كل المراكب ويصبح حديث الناس فى جبلة.. ويطلقون عليه "طوربيد البحر" .

من جندى مجند إلى ضابط برتبة ملازم أول!

عندما جاء من يحمل أمر تجنيده، لم يكن بالأمر السار لأسرة "السيد عبدالجليل" مثل كل الأسر التى يمثل غياب فرد فيها غياب وتد من أوتاد البيت وقلة السواعد القادرة على إلقاء شباك الأسماك وجرها. لم تكن الأسرة البسيطة تعلم أن ابنها الشاب سيغادر الشقاء، لينعم بالبحر تحت علم القوات البحرية التى جاء تجنيده فيها عام 1956.

وفى أول تدريبات الأسطول، تظهر مواهبه غير العادية فى السباحة، و يلفت الأنظار بجسده القوى متين البنيان صنيعة شباك الصيد فى رحلة الشقاء اليومي. ويخصص له قائد القوات البحرية الفريق "سليمان عزت" طاقم تدريب تمهيدًا لاشتراكه فى المسابقات الرسمية للاتحاد الرياضى للقوات المسلحة والاتحاد المصرى للسباحة.. ويشترك فى بطولة تلو بطولة ويحصد الجوائز باسم وطنه فى السباقات العربية والدولية ليحظى على أكبر تقدير من الدولة.

فمن النادر فى التاريخ أن يتم تجاوز القوانين والتقاليد العسكرية من أجل جندى مجند، ومن النادر أيضا أن يتم ترقيته من مجند إلى ضابط برتبة ملازم أول. ولكن هذا ما حدث عندما اجتمعت إرادة الرئيس عبدالناصر، مع إرادة القائد العام للقوات المسلحة المشير عبد الحكيم عامر ووافقا على ما اقترحه قائد القوات البحرية الفريق "سليمان عزت" بترقية تمساح البحر المجند "السيد عبدالجليل عبدالنبي" إلى ضابط برتبة ملازم أول فى أسطول الجمهورية العربية المتحدة بعد أن لفت الأنظار إليه فى البطولات التى اشتركت فيها القوات البحرية والنادى الأوليمبى فى كل المسابقات الرسمية المحلية والعالمية ويصبح أحد أبرز سباحى القوات البحرية ويحصل على الميدالية الذهبية لسباق النيل الدولي، كأس البطولة فى عيد الثورة السابع، الميدالية الفضية فى بطولة البحر المتوسط فى اللاذقية، الميدالية الذهبية و كأس البطولة فى المسابقة الدولية للهواة بإيطاليا 1959م، كأس البطولة العربية الخامسة 1961( صيدا ـ بيروت )، كأس البطولة فى بحيرة أوهير بـ "يوجوسلافيا"، وكأس بطل أبطال العالم للمحترفين فى سباق كابرى ـ نابولى بإيطاليا 1963.. وغيرها من البطولات العالمية.

أقيمت بطولة الجمهورية العربية المتحدة لأول مرة للمسافات الطويلة بين جبلة واللاذقية فى مايو 1958، وينبهر "زيتون" بمشهد الأبطال من القطرين ويقرر أن يكون بطلا مثلهم.. ويكرس وقته للسباحة والتدريب ليلاً ونهاراً، وفى عام 1959 يدخل السباح الصغير المنافسة مع أبطال محافظة اللاذقية لأول مرة فى حوض مرفأ اللاذقية. وتكون المفاجأة بتقدمه على الجميع وبفارق كبير، ويتجاوز السباح المغمور بطل العالم المصرى "أبو هيف" بمسافة طويلة ليفوز بالسباق الأول. ويتكرر الأمر فى غيرها من السباقات المحلية.

وفى عام 1959 يشارك "زيتون" فى بطولة الجمهورية العربية المتحدة للسباحة الطويلة لمسافة 40 كم فى نهر النيل، وقام عندها بإعجاز رياضى بإكمال المسافة المتبقية من السباق للعشرة كيلومترات الأخيرة بذراع واحدة، بسبب انفجار خراج تحت زراعه اليمنى، وأحرز المركز الثالث إلا أن لجنة التحكيم اعتبرته الفائز الأول تقديرا لشجاعته....وتتكرر المشاركات ويتكرر فوزه اللافت فى كل البطولات ضمن بعثة السباحين باسم الجمهورية العربية المتحدة.. ويفوز ببطولة نابولى 1960، ويرسل له الرئيس جمال عبد الناصر برقية تهنئة.

كل ذلك ولم يكن البطل "محمد زيتون" وصل إلى سن التجنيد، وعندما عاد إلى سوريا جاءه من يطلب تسليم نفسه إلى وحدة التجنيد فى "جبلة". يصل الخبر إلى الزعيم "عبد الناصر" فيعفيه من الخدمة الإلزامية، ويتم تعيينه بمرسوم جمهورى من قبل الرئيس برتبة ملازم أول فخرى بجيش الجمهورية المتحدة. و منحه "عبد الناصر" أيضا وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى ثلاث مرات متتالية.

مع كل بطولة يحققها، كان "السيد عبد الجليل "يبتعد ميلا عن قدر الشقاء مقتربا من مستقبل رسم فيه قطعة أرض يبنى عليها بيتا كبيرا، وفيه أولاد يقفزون هنا وهناك.. ومع كل بطولة كان حلم "محمد زيتون "يقترب.. كان حلمه الأكبر شراء سيارة "أولدز موبيل". من أجلها، كان يدخر مكافآت البطولات التى يحصل عليها، وبعد مكافأة آخر بطولة اشترك فيها "سباق الإسكندرية الدولى 1964" اكتمل ثمن السيارة.. واشترى "زيتون" السيارة، وقرر أن يصطحب أصدقاءه فى سيارته الحلم متجهين إلى الإسماعيلية للمشاركة فى سباق القناة الدولى.

وفى صباح يوم 21 سبتمبر 1964، تقطع الإذاعة الرسمية برامجها لتعلن وفاة بطل السباحة المصرى "السيد عبد الجليل" وزميله البطل السوري"محمد زيتون" مع أربعة آخرين من السباحين فى حادث سيارة، ويمنحهم الزعيم عبد الناصر مرتبة شهيد بمرسوم رئاسى.

وتطلق مدينة إدكو اسم "السيد عبد الجليل" على شارع المستشفى، ومدرسة إعدادية لعلها تسهم فى بناء أرواح تبحث عن التميز لنفسها ولوطنها.. وتطلق مدينة جبلة اسم "محمد زيتون" على شارع، وحمام سباحة، كلما نزل فيه شاب تذكر هذا الشاب الذى ركض خلف حلمه حتى النفس الأخير).

 

 

إضافة تعليق جديد