يوكه هيرمسين (1961) كاتبة وفيلسوفة هولندية. صدر كتابها روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت بين المد والجزر (2019) ضمن سلسلة ضوء جديد. يبدأ كل عددٍ عادة بطرح سؤال فلسفي على كاتب هولندي معاصر، فيحاول الإجابة من خلال معرفته العميقة لفيلسوف عاش قبله. وقد اختارت يوكه هيرمسين أن تجيب على السؤال الفلسفي من خلال كتابات روزا لوكسمبورغ1 وحنة آرنت2، مع التركيز على حياة ومسار الأولى. وسوف تجدون في نهاية النص ترجمةً لرسالة كتبتها لوكسمبورغ حين كانت في السجن. ليست صدفة أن تزامن صدور الكتاب في مطلع هذا العام مع الذكرى المئوية لرحيلها. قامت رحاب شاكر بترجمته عن اللغة الهولندية.
1. روزا لوكسمبورغ (1871-1919): اقتصادية ومفكرة سياسية وناشطة ذات أصول بولونية يهودية. كافحت في سبيل المساواة الاجتماعية والعدالة، وكتبت عن هذه المواضيع في عدة مقالات ودراسات، من بينها أزمة الاشتراكية الديمقراطية (1911) وإصلاح أم ثورة؟ (1899). كما كانت كاتبة رسائل موهوبة، وعاشقة للأدب والفن والموسيقا، ومهتمة بعالم النبات و الطيور. قُتلت في 15 كانون الثاني 1919 أثناء الانتفاضة الشعبية في ألمانيا من قبل ميليشيات يمينية متطرفة.2. حنة آرنت (1906-1975): فيلسوفة ومفكرة سياسية ذات أصول ألمانية يهودية. لاحقها الجيستابو، فهربت في عام 1933 إلى باريس ومن هناك إلى نيويورك. كتبت عن الشمولية (1951)والوضع البشري (1958) والثورة (1965). درّست في جامعة شيكاغو.
*****
السؤال: هل ثمة جدوى من التطلع إلى مستقبلٍ أفضل؟
خرونينغن- أمستردام 15 كانون الثاني 2017
عزيزتنا يوكه هرمسين،
منذ الاعتصام الأول في جامعة أمستردام1 عام 1996، قام الطلاب بأكثر من عملية احتجاج. ورغم ذلك ما زال التعليم يعاني من ثقافة تكنوقراطية تؤمن أن القياس معرفة. وبعد عدة كوارث مصرفية كنا سنتخلص نهائيًا من ثقافة الاختلاس والعِلاوات في القطاع المالي، غير أن البنوك المركزية في كافة أنحاء العالم ما زالت تضخ المال يوميًا في فقاعة المنظومة النقدية ذاتها. ومع سقوط جدار برلين كنا على وشك أن ننتهي من الحرب الباردة، بل من التاريخ أيضًا، غير أن النزاع في أوكرانيا والحرب التجارية مع الصين أعاداها مرة ثانية.
1. في عام 1969 اعتصم طلاب جامعة أمستردام لمدة خمسة أيام (16 إلى 21 أيار) أمام المكتب الإداري للجامعة، للمطالبة بالمشاركة في إدارة أمور الجامعة.
حتى ولو بدا العالم تكرارًا أبديًا للأشياء ذاتها، وللحروب والظلم والاستغلال والعنف، إلا أن الأمل بالجديد يعود دومًا. هل يحصل هذا ضد قناعتنا؟ هل الإنسان الحالم ساذج إلى حدٍ يُرثى له؟
تلعب القدرة على البدء من جديد دورًا رئيسًا في عملكِ الفلسفي. وتشيرين دائمًا إلى ما سمّته حنة آرنت بـ «الولادة» (Nativity)، وتقتبسين من كتابات إرنست بلوخ (1885-1977) الذي يستخدم مبدأ الأمل ولا يستسلم بسهولة لمسارات التاريخ التراجيدية. «المهم أن نتعلم الأمل من جديد»، هكذا كان يشجعنا دائمًا. لذا طلبنا منكِ أن تحاولي الإجابة على سؤال فيما إذا كان ثمة جدوى من التطلع إلى مستقبل أفضل.
وقد فكرتِ بالموضوع، من دون أن تنسَي القلق الاجتماعي المتزايد، وتوصلتِ إلى أن حنة آرنت وإرنست بلوخ ليسا مرشدَيكِ الوحيدَين إلى بريق الأمل الذي سينير لنا هذا الزمان، بل هناك كذلك حياة المفكرة الثورية روزا لوكسمبورغ (1871-1919) وأعمالها. كما أنكِ وجدت تقاطعات بين لوكسمبورغ وآرنت فيما يخص الأمل والبدايات الجديدة.
يتملكنا الفضول للاطلاع على اكتشافاتكِ ونتشوق لمعرفة جوابكِ.
تحياتنا المفعمة بالأمل،
كون سيمون وفرانك ميستر
الجواب: «روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت بين المدّ والجزر»
«الحماسة والوعي الناقد، هما كل ما نحتاجه»
- روزا لوكسمبورغ، برلين 1918.
«لا يكون العالم إنسانيًا إلا بعد أن يغدو موضوعًا للحديث. فقط حين نتحدث عنه، نؤنسن ما يدور في العالم وفي أنفسنا على حد سواء»
- حنة آرنت، نيويورك 1970.
1
كنت في فرنسا منكبة لأول مرة على أعمال روزا لوكسمبورغ، حينما بات التذمر محسوسًا من حولي. كان جيراني في ريف إقليم بورغونيا غاضبين على حكومة ماكرون، لأنها لم تفعل شيئًا للقرى الفرنسية الفقيرة. لا فرق بين العاملين والعاطلين، فالجميع يشتكي من أن الدخل لا يكفي حتى نهاية الشهر، مع أن الحكومة راحت تغدق كرمها على النخبة الثرية فألغت لهم ضريبة الأملاك. لم يتحقق شيء من الوعود التي قدّمها حزب إلى الأمام أثناء الانتخابات، بل غدت المعيشة أكثر غلاءً ومشقة. «لم نعد نحتمل»، تنهدت جارتي.
من زمان كان معظم السكان يعملون في الحقول، أو يديرون مقهى أو مخبزًا، أو يملكون دكان عطارة كوالدة جارتي. بيد أن هذه الدكاكين والمقاهي أُغلِقت حاليًا، ولم يتبقّ سوى مزارعَين اثنين يفلحان مئات الهكتارات من الأراضي الزراعية. ولا يمكنك التبضع إلا بالسيارة، إذ أن أقرب سوبرماركت يقع على بعد 15 كيلومتر. هذا ما عدا أن السوبر ماركت ذاته ينتمي إلى سلسلة تجارية شرعت تخفّض ثمن القمح والحليب الذي تدفعه للفلاحين، مما يضطرهم لشراء مزيد من الأراضي وقطع الأشجار في الغابات واستخدام سمومٍ لمكافحة الحشرات. والمحصلة هي ندرة الأزهار البرية والطيور، وريف فرنسي أجرد وصامت. فبعد أن كتب فيكتور هوجو وإيميل زولا عن الفقر في القرن التاسع عشر في روايتيهما البؤساء (1862) وبطن باريس (1873)، انتقلت الثيمة ذاتها بعد أكثر من قرن إلى كتّابٍ من قبيل أني إرنو، وإيفس رافي، وديديه إريبون، وجيرار مورديلا، وليلى سليماني، وإدوارد لويز. يبدو أن الرواية الاجتماعية، كما يطلق على هذا النوع الأدبي في فرنسا، عادت فعلًا.
لدينا مثلًا الكاتب الشاب الغاضب إدوارد لويز، ابن الرجل العاجز جراء حادث أصابه أثناء العمل، والذي عزم على محاسبة النخبة السياسية الفرنسية واتهامها بالسيطرة الاجتماعية واحتقار الطبقات الفقيرة من خلال روايته الذين قتلوا والدي (2018). في محاضرةٍ له في أمستردام (تشرين الأول 2018) جادل لويز أن الرأسمالية النيوليبرالية المخلوطة بالنخبوية والتكنوقراطية أدت إلى تشكيل طبقة اجتماعية سفلى لا تملك سبل الحياة الكريمة. وقد تنبأ أن هذا سوف يفضي إلى قلقٍ سياسي كبير، غير أن صحة كلامه ثبتت أسرع مما كان يتصور. فبعد بضعة أسابيع ملأت أولى السترات الصفراء الدوّارات المرورية في فرنسا.
Édouard LouisÉdouard Louis
علمتني روزا لوكسمبورغ أن الانتفاضات الشعبية تأتي دائمًا على حين غرة. فمنذ أكثر من مائة عام كانت تطالب بـ «عالم تسود فيه المساواة والعدالة الاجتماعية»، أي أنها كانت تدعو في عصرها إلى التمرد على استبداد نظام حكم القيصر الروسي والقيصر الألماني. فضلًا عن حسٍّ عالٍ بالعدالة، تمتّعت روزا برغبة جامحة بالحرية، إلى درجة جعلتها لا تتقبل أي مرجعية، ولا حتى تعاليم ماركس. كان التفكير المستقل وعدم التبعية بمحاكمة الأمور وحرية التعبير بالنسبة لها أهم من كل البرامج الحزبية: «النقد الذاتي هو روح كل حركة ثورية ونورها الذي يضمن لها الحياة»، هكذا كتبت في مقالتها الطويلة الثورة الروسية (1918).
حنة آرنت هي التي قادتني في ذلك الصيف إلى أعمال روزا لوكسمبورغ. كنت أعيد قراءة كتابها شخصيات من العصور المظلمة (1968) الذي تساءلت فيه «كيف نحرص ألا تغدو الإنسانية وهمًا في الأزمنة المظلمة سياسيًا؟». ولقد بحثتْ عن جواب عند كتّاب من قبيل كارل ياسبرس وولتر بنجامين وروزا لوكسمبورغ: يصبح العالم مظلمًا حين لا يشعر الناس بالمسؤولية الجماعية تجاهه، فلا يهتمون إلا بمصالحهم الشخصية، ويرتابون من الأجواء السياسية إلى درجة تجعلهم يديرون ظهورهم لها. وقد أطلقت حنة آرنت تسمية (worldlessness)أي فقدان الصلة بالعالم على ذلك الانفكاك عن السياسة، والذي برأيها «غالبًا ما يقود إلى شكلٍ من أشكال الهمجية». وسؤالي هو إلى أي مدى نحن مهددون بولوج «أزمنة مظلمة» مجددًا، وبالأخص بعد صعود القومية ورهاب الأجانب، وازدهار الفردانية والرأسمالية، وتضعضع الثقة بالمؤسسات السياسية؟
في مقالتها حول روزا لوكسمبورغ، لا تخفي آرنت إعجابها بالكاتبة والسياسية البولونية التي تحولت مع مرور القرن العشرين إلى أيقونة النضال ضد الظلم. وقد استغربتُ مديحها لها بعد خمسين سنة من وفاتها، وبالأخص لأني كنت أظن أن آرنت، جراء نقدها للماركسية، لن تجد شيئًا يهمها عند لوكسمبورغ، ولكن يبدو أني كنت مخطئة. حتى أنها تصف دراسة لوكسمبورغ حول تراكم الرأسمال بالـ«عبقرية»، وتطري على نزوعها الشديد إلى الحرية السياسية ومناداتها إلى المقاومة اللاعنفية. وقد وصل الأمر أن تساءلت آرنت في نهاية مقالتها فيما إذا كان «التاريخ سيختلف لو نظرنا إليه من خلال عدسة روزا لوكسمبورغ وحياتها».
هذا ما أثار اهتمامي، فبدأتُ أقرأ لوكسمبورغ في نهاية الصيف، بينما راح الشغب في إقليم بورغونيا يتصاعد من حولي. وظهرت أولى الإعلانات المطالبة بتنحي ماكرون على زجاج مواقف الباصات. أعترف أنه لم يسبق لي أن قرأتُ شيئًا للوكسمبورغ، ربما بسبب نفوري من هالة العبادة التي تحيط بشخصها.
وقد أدهشني أني لم أكتشف تقاطعات مع عملي الشخصي فحسب، كالتفاوت الاقتصادي التي تسببت به الرأسمالية، وارتفاع ضغط العمل بسبب مبدأ «الوقت مال»، واغتراب الإنسان عن نفسه والعالم، بل حتى مصطلحات من قبيل العفوية والحرية السياسية و«ديمقراطية المجالس الشعبية» التي تلعب دورًا هامًا في فلسفة حنة آرنت السياسية، كانت تتكرر كثيرًا في أعمال لوكسمبورغ. ورغم أن إحداهما تُرَكِّز على النشاط السياسي والأخرى على النظرية السياسية، إلا أن ما يجمعهما كان أكبر مما تصوّرت. وهذا ما جعل فضولي يجمح. من هي روزا لوكسمبورغ، التي دخلت التاريخ كـ«روزا الحمراء»؟ ولماذا كانت قادرة على إلهام الكثيرين حتى يومنا هذا؟
كانت روزا لوكسمبورغ، المولودة في نهاية القرن التاسع عشر ضمن أسرة يهودية بولونية، متأكدة من أن الثورة الشعبية لا تندلع إلا بشكل عفوي ومن الأسفل، أي ليس بتوجيه النخبة السياسية. تشير العفوية بالنسبة لها ولآرنت إلى الحرية التي بمقدور الناس أن يمتلكوها من أجل البدء بشيء جديد. لأن التمرد العفوي يعبر عن القدرة الإنسانية على قول «لا» أمام الظلم وعدم المساواة. وتكمن شروط هذا التمرد في الوعي الناقد، والاهتمام بأحوال العالم والحماسة. والوسائل المعروفة هي: المظاهرات والإضرابات، وتنظيم الندوات والمناظرات، وكتابة المناشير والمقالات للجرائد. كما أن هنالك وسيلة أخرى لا تقل أهمية برأي لوكسمبورغ، وهي تشكيل النوادي والحركات والروابط التي تسهّل الفعل السياسي المشترك.
ترى لوكسمبورع أن ثمة طرق فعّالة لفرض التغيير من قبيل التوقف عن العمل، والخروج إلى الشارع، ورفع الصوت، والتنظيم السياسي. كان يهمها توعية الطبقات السفلى من المجتمع على وجه الخصوص بقدرتهم على الفعل السياسي، فسافرت في بداية القرن العشرين إلى كافة أرجاء أوروبا من أجل «تحفيز وعيهم بوضعهم الذي لا يُحتمل، وليدركوا أنهم صبروا على أصفاد الرأسمالية طويلًا جدًا»، كما كتبت في إضراب عام (1905). لدى لوكسمبورغ كمفكرة سياسية أجندة تربوية وتحررية واضحة، تُلِّح فيها على أن يحصل الجميع على فرصة التعليم الجيد. وقد كانت مدرّسة محبوبة لدى الطلاب في أحد المعاهد العليا. المعرفة أمر بغاية الأهمية من أجل التحرك بشكل عفوي، والعكس صحيح. وقد عبّرت عن ذلك في إحدى مقولاتها المأثورة: «من لا يتحرك، لا ينتبه للسلاسل المقيّد بها».
كانت هولندا من بين البلدان التي زارتها روزا لوكسمبورع أثناء رحلتها الأوروبية، ذلك أن عدد أنصار الاشتراكية الديمقراطية فيها ارتفع منذ إضراب السكك الحديدية في عام 1903. في هولندا صادقت لوكسمبورغ بعض الشخصيات اليسارية، وتكلمت في أمستردام أمام صالة مكتظة عن ضرورة العدالة الاقتصادية والتكافل العالمي الذي طالما افتقدناه جراء الخصامات البينية. «من يتعرف على روزا في تلك الأيام، ويراها تتمختر في شوارع أمستردام، ويلمح وجهها المسترخي بعد جهد الخطاب، ويسمع صوتها وضحكتها الجذابة والجريئة، سوف يحتفظ بذكرى استثنائية عن كائن ساحر»، هكذا كتبت [صديقتها الشاعرة الهولندية] هنريت رولاند في السيرة التي خطتها عنها (1935). الصورة التي تصلنا من خلال رسائل لوكسمبورغ ومقالاتها والسِيَر التي كتبها نيتل (1966)، وفروهليش (1967)، وهيتمان (1980) عن حياتها هي صورة كاتبة وديعة تتعاطف مع البشرية، وسياسية فطنة وشغوفة تعتبر مكافحة الظلم والفقر أهم مهمة في حياتها.
2
أول شيء قرأته لروزا لوكسمبورغ في ذلك الصيف هو رسائلها، والحق يقال إنها جذبتني مباشرة. إذ فضلًا عن أسلوبها المتألق، فهي تبدي في تلك الرسائل حبًا كبيرًا للأدب والموسيقى والفن – غوته وموزارت وريمبرانت – وتطبّق مرارًا وتكرارًا ما سمّته حنة آرنت لاحقًا (amor mundi)، أي حب العالم والمسؤولية تجاهه. «أشعر أن العالم بأسره بيتي، وكل مكان فيه غيوم وطيور ودموع إنسان»، كتبت من سجنها في رسالة مؤرخة بتاريخ شباط 1916. كانت رسائلها مفعمة بمحبة العالم والطبيعة التي درستها طويلًا – وبخاصة علم النبات والطيور والجيولوجيا – ووصفتها بكل تفاصيلها، حتى عندما كانت في السجن. إنها حسب رأي هنريت هولست «مِن أجمل ما قدمه الأدب العالمي».
«لن أنسى مشهد الرعد هذه الليلة سريعًا»، كتبت في نهاية أيار عام 1917 إلى سونيا، زوجة كارل ليبكنيخت. «هبط الشفق الباهت والمشؤوم على الأرض، وشرع المطر يقرع أوراق الشجر، واشتعل البرق مرة تلو الأخرى بلونه الأورجواني في السماء الرصاصية. ووسط هذا المزاج الشبحي أخذ عندليب يزقزق فجأة بجانب نافذتي. وسط كل هذا المطر والبرق والرعد، بدأ يصدح كالناقوس، ويغني ثملًا ومنتشيًا كما لو أنه يطمح أن يعلو صوته على الرعد، ويضيء الشفق – لم أسمع في حياتي شيئًا أجمل. جمالٌ كاللغز، غير مفهوم، فبدأت أردد لا إراديًا آخر أبيات غوته: آخ، هل كنتَ هنا؟».
من أنبل ما قد يسعى الإنسان إليه هو أن يكون إنسانًا جيدًا ويحب التعرف على العالم والطبيعة، وهذا ليس مدعاة للشتيمة مثلما يحصل في بلدنا أحيانًا. «أهم شيء على الإطلاق هو أن تكون إنسانًا جيدًا، وهذا يعني أن تكون مثابرًا وواضحًا ومشرقًا. نعم، مشرق بالرغم من كل شيء». الرسائل مفعمة بالأمل بشكل لافت، نظرًا للظروف غير السعيدة التي كُتِبت فيها: زنازين باردة حيث سُجِنت لوكسمبورغ مع الآخرين كـ«السمك في علبة» بسبب ملاحظة تهكمية وجهتها للقيصر، أو في المنفردة حيث قضت فترة طويلة أثناء الحرب العالمية الأولى جراء مناداتها برفض الخدمة العسكرية و«عدم رفع السلاح في وجه إخواننا». خلال تلك السنوات الطويلة لم يرافق لوكسمبورغ سوى كتبها، وبضع شتلات وطيور أمام قضبان نافذتها. ومع ذلك لم تيأس قط، وواصلت العمل والكتابة من دون أن تفرِّط بأملها أن أزمنة أفضل ستأتي.
لم تحتفظ بهذا الأمل لنفسها فقط، بل تقاسمته مع أصدقائها خارج السجن. ففي تشرين الثاني 1917 كتبت إلى سونيا: «هل تعرفين، عزيزتي سونيا، أنه كلما استغرقت الأحداث الوحشية والمنحطة التي تجري يوميًا فترة أطول، وكلما تجاوزت حدود المعقول أكثر، أغدو أشد ثباتًا وهدوءًا، كما يفعل المرء تجاه فيضان أو كسوف الشمس، فلا يستخدم معايير أخلاقية، بل يتعامل معها كمعطيات. (...) أحسُّ أن كل هذا الوحل الأخلاقي الذي يغمرنا، وأن مشفى المجانين الكبير الذي نعيش فيه، لا بد أن ينقلب بين ليلة وضحاها إلى العكس، إلى شيء عظيم وبطولي، كما لو أن عصا سحرية قد مسّته. ينبغي علينا التعامل مع الأمور على المستوى الاجتماعي كما نفعل في حياتنا الخاصة: بهدوء وشهامة وابتسامة رقيقة. أظن أن كل شيء سوف يتغير نحو الأفضل بعد انقضاء الحرب...».
من أين جاءت بالأمل كي تكتب هذه الرسائل رغم حبسها الذي أنهى إذاك عامه الثاني، وكي تواصل كفاحها من أجل إيقاف الحرب عبر كتابة المقالات والمناشير وتهريبها من السجن؟ لا بد أن أعترف أن هذه الرسائل زعزعت تصوري عنها كثائرة هائجة تحاول بلا طائل حثّ الناس على النضال. وأوافق حنة آرنت التي كتبت في مقالتها بطلة ثورة التي صدرت في ذي نيويوركر (1966) أن الرسائل «شاعرية وإنسانية بشكل مؤثر» و«تحطم صورة روزا الدموية التي تكونت عنها لاحقًا». حتى أن روزا كانت برأيها «أكثر ثوار عصرها ضد العسكرة»، ولا بد أن آرنت تأثرت برأي زوجها هاينريش بلوخر، المؤرخ الألماني الذي قاتل أيام دراسته في برلين جنبًا إلى جنب مع لوكسمبورغ وليبكنيخت أثناء ثورة سبارتاكوس عام 1917.
في كانون الأول 1917 كتبت لوكسمبورغ إلى سونيا ليبكنيخت: «هذا ثالث عيد ميلاد أقضيه في السجن، ولكن أرجو ألا تفهميني بطريقة مأساوية. أنا مستلقية بمنتهى السكون والوحدة، وملتحفة بسواد وشاحات العتمة والملل ونقص الحرية، ومع ذلك ينبض قلبي بعذوبة غير مسبوقة أو مفهومة، كما لو أني أتنره تحت أشعة الشمس في حقل مزهر. وأبتسم إلى الحياة من خلال العتمة، كما لو أني مطّلِعة على سرٍ سحري يكذّب كل حزن وشر٬ ويقلبهما صفاء وسعادة محضة. أؤمن أن هذا السر ليس سوى الحياة ذاتها. عتمة الليل جميلة وناعمة كالمخمل، فقط لو ننظر جيدًا. في لحظات كهذه أفكر بكِ، وأتمنى لو أناولك هذا المفتاح السحري، كي تنغمسي دومًا وتحت أي ظرف في جمال الحياة وبهجتها. لا أنوي توريطك بالزهد والبهجات الواهمة، كل ما أريده هو منحك فرحي الداخلي، لأطمئن أنك تكابدين الحياة وأنت ملتحفة بمعطف مرصع بالنجوم ويحميك من كل السوء والابتذال والضيق. سونيا، عزيزتي، كوني رغم كل شيء هادئة ومبتهجة. هكذا هي الحياة، وما علينا سوى أن نقبل بها بشجاعة وابتسامة – رغم كل شيء».
لا بد أن الأمل في كلمات روزا المشجعة قد نال إعجاب حنة آرنت. فها هي تختم مقالتها حول روزا لوكسمبورغ بالقول: «عسى أن يكون ثمة أمل بالاعتراف المتأخر بها وبأعمالها، وأن تحصل أخيرًا على المكانة التي تستحقها في العلوم السياسية». يبدو أن الأمل تحقق بعد أكثر من نصف قرن، نظرًا للطبعات الجديدة التي صدرت عن أعمال لوكسمبورغ، وللمؤتمرات العالمية التي عُقِدت في باريس وبرلين ومدريد وسيول وشيكاغو حول الموضوع. كما ازدادت الكتب التي صدرت حول أعمالها، على سبيل المثال نساء في أزمنة مظلمة للكاتبة جاكلين روز (2014)، ومتمردات لسيمون فريلينغ (2018)، والرواية المصوَّرة البارعة روزا الحمراء لكيت إيفانس (2018).
قد تقولون إن الأمل أعمى. ربما، ولكن من دون أمل لن يحدث شيءٌ على الإطلاق. وروزا لوكسمبورغ كانت متأكدة من أن علينا تغيير المسار، وألا نبقى على الطريق نفسه. من لا يأمل، يكون استسلم سلفًا. هكذا ختمتُ مقالتي الطويلة سوداوية القلق (2017). نحتاج الأمل كي نتجاوز الهزائم وخيبات الأمل، ونستوعب خسارتنا وزوالنا. من دون الأمل لا يمكننا أن نؤمن بوعد البدايات الجديدة، ولا بإمكانية التغيير.
لم تكن لوكسمبورغ تفتقد الأمل مثلنا. فقد كانت مقتنعة منذ صغرها أن الرأسمالية نموذج مدمر للبشرية والأرض، بينما نؤمن من جهتنا أن ما من نظام ممكن غيرها. لا فائدة، إذ كيف سنواصل على هذا المنوال؟ وكيف بمقدورنا معالجة المشاكل إن بقينا ننظر إلى العالم بارتياب وتهكم؟ فضلًا عن الاهتمام بالنظر حولنا جيدًا، والكشف عن أخبار العالم بدقة، كي نفرّق بين الحقيقة والأكاذيب، ونصل إلى محاكمات متروية حول العالم، فقد استنتجتُ في مقالتي السابقة أنه يتوجب علينا البحث عن الأفكار والقصص المتفائلة التي سنحتاجها من أجل التحرك. إنها رحلة البحث ذاتها التي أطلق عليها المفكر الألماني إرنست بلوخ تسمية «مبدأ الأمل». ففي كتابه مبدأ الأمل (1955) أوضحَ أنه ما من شيء كالأمل والتوقع يحرّضان الإنسان على عدم قبول الوضع الراهن، وهجر الطرق المعبّدة، والعمل على تطوير أنفسنا والمجتمع في آن. «المهم أن نتعلم الأمل من جديد، لأن الشغف الذي يتولد عن الأمل يجعل الإنسان أوسع بدلًا من أضيق»، كتب بلوخ. الأمل ليس وصفة هائمة، بل ضرورة مُرة من أجل التمرد وعدم السكوت على السياسة الحالية.
كتبت حنة آرنت في شخصيات من العصور المظلمة أنه ينبغي الاحتفاظ بالأمل حتى في «أحلك الأزمنة»، وتوجيهه إلى ما «قد يلقي الضوء» على العصر الذي نحيا فيه. ومن أجل ذلك علينا أن نحفر «في أعماق الماضي»، لا مدفوعين بحنين نحوه، وإنما لنفهم ما يجري الآن بشكل أفضل، ونسمح للجيد والتثقيفي منه أن «يبقى بأشكال وهيئات جديدة». في كتابها حول الثورة كتبت آرنت أنه بوسعنا إضاءة شعلتنا من خلال أعمال المفكرين والشعراء الثوريين الذين سبقونا. ويقول إيدو دي هان في المقدمة: «لا يهمها أن نعيد إنتاج الماضي، بقدر ما تهتم بشحذ قدرتنا على تصوره ومحاكمته، لنكشف عن إمكانيات جديدة وغير متحققة أو متوقعة فيه».
نقّبتُ في العام الماضي عن مصطلحات فلسفية لأتمكن من صياغة ذلك الأمل في مقالة جديدة. حتى أنني ابتكرت عنوانًا لها: «هل يحق لنا أن نأمل؟»، وأعترف أني أردت أن يغلب الشك فيه. ولكن بدلًا من أن أجد مفهومًا معينًا وجدت شخصًا، إنسانًا: روزا لوكسمبورغ التي نذرت فكرها وعملها للأمل بعالم أفضل وأكثر عدلًا.
3
«أكثر الأعمال ثورية مما بوسعنا القيام به هو رفع الصوت للإخبار عما يحصل في هذه اللحظة بالذات»، كتبت روزا لوكسمبورغ. وهذا فعلًا ما كانت تفعله منذ الصغر. ولِدت في 5 آذار 1871 في زاموسك البولونية الروسية، وترعرت في وارسو، حيث كانت استثناءً الفتاة اليهودية الوحيدة التي سُمِح لها بالالتحاق بالثانوية. وما لبثت أن خبِرت هناك أساليب النظام القيصري القاسية التي تمنع التحدث باللغة البولونية في المدرسة، وتعاقب على كل محاولة تمرد. وبما أنها ابنة بولونيين يهود، فقد كانت تُعامل كتلميذة من الدرجة الثانية. ومع أنها تخرجت بأعلى الدرجات من الثانوية، إلا أنها لم تنل الوسام الذهبي «جراء تمردها على السلطة»، ولكن في واقع الأمر بسبب خلفيتها اليهودية. سوف تشحذ هذه الواقعة وعيها الناقد باكرًا.
وانتسبت مذ أن كانت تلميذة في سن الخامسة عشرة إلى الحزب الثوري البولوني الذي يشجب الفقر المدقع للطبقة العاملة البولونية، كما قرأت أعمال كارل ماركس في الفترة نفسها. كانت متأكدة من أن «الصراع الطبقي» الذي تسببت به الرأسمالية بين مجموعة صغيرة من الأثرياء ذوي الامتيازات وبين الغالبية العظمى من العمال الفقراء والجنود والحِرفيين والموظفين، لن ينتهي إلا باستبداله بالاشتراكية الديمقراطية. جهرت روزا بهذا الرأي منذ صغرها، ولم تكن قد تجاوزت الثامنة عشرة حين هربت من بلدها مغطاة بالقش في عربة فلاح. واستخدمت أوراقًا مزورة كي تعبر الحدود إلى مدينة زوريخ التي كانت إذاك ملاذًا للاشتراكيين الروس والبولونيين والألمان. ودرست هناك الفيزياء والفلسفة والاقتصاد والحقوق، كما ختمت دراستها بأعلى درجات الامتياز بكتابة أطروحة دكتوراه بعنوان «النمو الصناعي في بولونيا». وتعرّفت في زوريخ على الاشتراكي الروسي ليو جوغيشس الذي عشقته لفترة وبقي صديقها حتى آخر حياتها.
في 1893 سُمِح لها بتمثيل الحزب البولوني الثوري في مؤتمر الأممية الثانية في زوريخ. وقد حضر ذلك المؤتمر رجل السياسة الهولندي بيتر يليس ترولسترا الذي أعجب جدًا وتأثر بالاشتراكية البولونية روزا لوكسمبورغ ذات الواحد والعشرين ربيعًا. وهكذا تراسل الإثنين لفترة، وللأسف ضاعت رسائلهما مع مرور الزمن. ولكن لحسن الحظ حُفِظت رسائل روزا إلى هنريت رولاند هولست والتي أرفقتها الأخيرة كملحق بالسيرة التي خطتها عن صديقتها. «محبوبتي هنريت»، كتبت لوكسمبورغ في نهاية 1904. «كم جميل أنكِ موجودة. فكلما اسودت روحي وبهُتت جراء فوضى الحياة والحزب على وجه الخصوص، أتذكر أمستردام فيشع النور. تقولين أني أرى هولندا بمنظار وردي، ولكن لماذا لا تتركيني أحتفظ على الأقل بذلك الوهم حيال بعض الأشخاص الجميلين. كم نحتاج إلى ذخيرة من الذكريات الصافية والعبِقة. ننتظر خبر حضوركِ، وها هي لويز تصرّ على أن يأتي هرمان خورتر مع شريكته، وحينها سنكوّن مع بعض «أمستردام صغيرة»، ياللفرحة! ولكن متى؟».
كتبت هنريت هولست بإعجاب عن صديقتها البولونية، غير أنها لم تقدّر نقدها للينين وتروتسكي جيدًا. ومع ذلك رسمتها في سيرتها كـ«أكثر ممثلة للتطرف الاشتراكي الرومانسي عبقريةً وشجاعة». لا بد أن لوكسمبورغ كانت سترفع حاجبيها استغرابًا من كلمة «رومانسي» وتتمتم «واقعي، هذا ما تقصدين!». بيد أن رولاند هولست أضافت أن «داخلها الحقيقي دفء ورحابة إنسانية. ولم تقسُ أبدًا بنقدها على الآخرين كما كانوا هم يفعلون». فقد تلقت لوكسمبورع نقدًا لاذعًا يميل غالبًا إلى معاداة السامية وكره النساء من قبل أعضاء حزبها وغيرهم. على أنها وثقت برؤيتها ومعرفتها وقدراتها البلاغية فاستطاعت أن تثبت مكانتها كيهودية وامرأة تشتغل في السياسة.
بعد زواجٍ وهمي بالاشتراكي الألماني غوستاف لوبيك الذي منحها رخصة إقامة في ألمانيا، انتقلت لوكسمبورغ في عام 1898 إلى برلين حيث لعبت دورًا قياديًا في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. وصادقت سياسيين مثل كلارا زيتكين وكارل ليبكنيخت، الذين اصطفّا معها في الجناح اليساري للحزب. كما جادلت المعتدلين في الحزب مثل ليونارد بيرنستاين الذي كان متأكدًا أن الإصلاح التدريجي للرأسمالية سوف يحسّن ظروف العمال المعيشية كذلك. بيد أن لوكسمبورغ لم تؤمن بذلك وصبّت نقدها في سلسلة من المقالات سمتها «الإصلاح الاجتماعي أم الثورة؟» (1899). كانت ترى أنه لا بأس من بدء الإصلاحات، غير أنه لن يلغي العقد بين الإمبراطورية الألمانية والرأسمالية. الإصلاحات هي مجرد وسيلة من أجل تحقيق الغاية النهائية: الانقلاب السياسي.
ترى لوكسمبورغ أن لا شيء يمنع الرأسمالية من الاستفحال عالميًا مثلما تفعل «ديمقراطية اللجان» التي سوف تمنح الشعب فرصة إبداء الرأي وصلاحية القرار السياسي من خلال «اللجان الشعبية». لن تُعنى هذه اللجان بتحسين الظروف المعيشية بشكل ملحوظ فقط، بل بتأسيس الاقتصاد على سد احتياجات الجميع بالتساوي أيضًا. وستحل وسائل الإنتاج التعاونية محل الرأسمالية، ويستلم العمال عملية الإنتاج ويشاركون بملكيتها. لا مكان لنموذج مبني على الربح لعدد محدود من الأفراد، بل لاقتصاد يعتمد على الاستثمار الحَذِر والمشترك للبضائع والأراضي الزراعية والقوة العاملة.
Rosa LuxemburgRosa Luxemburg
كتبت لوكسمبورغ في التأهيل الاجتماعي للمجتمع (1918): «ينبغي ألا يكون هدف الإنتاج إثراء بعض الأفراد، بل تلبية احتياجات المجتمع بأسره». ينبغي أن يكون هدف الاقتصاد «تأمين حياة كريمة وغِذاء كافٍ وفرصٍ ثقافية للجميع». ولأجل ذلك الغرض يتوجب «تأهيل» الصناعات والشركات الكبرى «اجتماعيًا»، وهذا تلطيفٌ لكلمة «مصادرة»، أي سحب الملكية من الإدارة والمساهمين ومنحها لجميع موظفي الشركة «التعاونية».
ألن تفزعي من هكذا اقتراحات لو كنتِ قارئة تعيش في القرن الواحد والعشرين وتحملين إرث الاتحاد السوفييتي في ذاكرتك؟ أنا فزعت فعلاً، ولكن ينبغي ألا ننسى أن لوكسمبورغ كتبت هذا النص قبل أن تنحط الاشتراكية إلى الشمولية بفترة طويلة، وأنها كانت مِن أوائل الذين حذرونا من ذلك الانحطاط. فضلًا عن أنها طمأنتنا أن تلك «المصادرة لا تنطبق أبدًا على الحِرفيين والفلاحين الذين يكسبون مالهم بعرق جبينهم من خلال استثمار ورشة أو قطعة أرض»، بل فقط على «الصناعات الكبرى» حيث أجور العمال لا تتناسب إطلاقًا مع الأرباح. «يحق لكل شخص يقوم بعمل يدوي أو فكري مفيد أن يتلقى سبل العيش من المجتمع، ويحق لغير القادرين على العمل – الأطفال والمرضى وكبار السن – أن يحصلوا على الرعاية والخدمات اللازمة».
كان يهمّها أن يسترد الإنسان كرامته من خلال كسر طوق الفقر وعدم المساواة واسترجاع تحكّمه بحياته وعمله بدلًا من التسليم لقيادة الإدارات. «لقد سُلِبنا كرامتنا الإنسانية، كرامتنا كبشر يعملون»، هذا ما سمعتُه كثيرًا خلال إجازتي الصيفية على الراديوهات الفرنسية، والذي تردد بانتظام على مدى شهور لاحقة. كتبت روزا لوكسمبورغ أن «العمل صار عبءاً وعذابًا للكثيرين»، ولذا توجّبَ «الاهتمام أكثر بصحة العمال الجسدية والأخلاقية وبحماستهم للعمل: تخفيض عدد ساعات العمل، والتنويع في المهام، وتفعيل كل أشكال النقاهة حتى يتمكن الجميع من تنفيذ مهامهم بأخلاق وحسّ بالكرامة والمسؤولية العالية».
وقد أشارت مرارًا وتكرارًا إلى ضرورة الراحة والتطوير الذاتي المستمر. لم يكن كيان الإنسان بالنسبة لها حقيقة مكتملة، كالمنتَج مثلًا حين نفرغ من صنعه، بل صيرورة مستمرة ونمواً. كانت تطمح إلى تحرير كل الناس ليتطوروا باتجاه يناسب طبيعتهم البشرية، بدل أن يغتربوا عن أنفسهم ومواهبهم الكامنة جراء ضغط العمل.
استخدم ماركس مصطلح «الاغتراب» في مخطوطات باريسية (1844)، فاستعارته لوكسمبورغ منه لاحقًا. الإنسان المُختَزل إلى رادار صغير في آلة إنتاج عملاقة لا يغترب عن عمله فحسب، بل عن نفسه والآخرين أيضًا. فالرأسمالية أجبرت العمال على وتيرة عمل صارمة بحيث قلما تمكنوا من تطوير أنفسهم، وجعلتهم يتنافسون فيما بينهم، مما أدى إلى اغترابهم عن طبيعتهم البشرية التي هي في أصلها اجتماعية. تتوقع لوكسمبورغ أن يكون تبديل النموذج الرأسمالي باشتراكية ديمقراطية ترياقًا لذلك الاغتراب، جنبًا إلى جنب مع الفن والموسيقى والأدب والعلم ومعرفة الطبيعة. إذ أن «المغترب والمُهان ليس ذلك الشخص الذي لا يملك قوت يومه فحسب، بل أيضًا من لا يحق له استخدام مواهب الإنسانية العظيمة».
4
انشغلتُ أثناء الصيف بالإطلاع على أعمال روزا لوكسمبورغ، بينما بدأت الانتفاضة الشعبية الفرنسية تزداد زخمًا في الأسابيع الأولى من الخريف. راح الفلاحون يرمون حزم القش على الطرقات ويلوثون دور البلديات بالحليب أو العلف. كنا قد تعودنا على هذه المشاهد في الريف الفرنسي، إلا أنه لم تمض بضعة أيام حتى تم احتلال دوارات المرور في منطقة نيفير من قبل عددٍ لا يحصى من السترات الصفراء. بين ليلة وضحاها لبس سكان المنطقة المحليون بشكل جماعي وعفوي السترات الصفراء التي أُجبِروا قبل عامين على وضعها في سياراتهم. لا بد أن الحكومة الفرنسية تندمت على اتخاذها هكذا إجراء يومًا ما.
بصراحة لم ندرِ كيف نحكم على هذه «الاحتلالات». ففي بادئ الأمر بثّ الإعلام الفرنسي أخبارًا تفيد بأنهم غوغائيون يمينيون وشعبويون، بيد أنه سرعان ما توجب تصحيح هذه الصورة، رغم تلكؤ بعض الجرائد ووسائل الإعلام.
من دون قيادة نقابة أو حزب سياسي بنى الناس متاريس لعرقلة العبور إلى الطرقات الرئيسة والسريعة في جميع أرجاء فرنسا. والتموا في الدوارات المرورية ليتدفؤوا حول نار أضرِمت في براميل زيت كبيرة. وزعوا القهوة والخبز، ومع استمرار العصيان جاؤوا بأشجار عيد الميلاد ليضفوا الأنس على المكان. كان انطباعنا الأول عن الانتفاضة في الريف أنها أشبه بمهرجانات الكعك اللطيفة، فيما طغت الخشونة في ثورة المدن. فقد تحول التمرد في باريس والمدن الأخرى (مثل مارسيليا وبوردو وتولوز) إلى مظاهرات ضخمة أيام السبت، حيث اصطدم مئات من رماة الحجارة مع الشرطة ومجموعات حفظ الأمن الفرنسي الأخرى كـالـ (سي إر إس). ورغم التخريب الذي أصاب الدكاكين والسيارات، بقيت أكثرية الشعب الفرنسي تساند الفعاليات. ومن هنا جاء طرح إدوارد لويز لسؤاله البلاغي في ذي نيويوركر (15-12-2018): «ما قيمة شباك مكسور أو سيارة محروقة أمام عنف الفقر والهيمنة الاجتماعية؟».
وفي تلك الأثناء انضم التلاميذ والطلاب والمعلمين – الأقلام الحمراء! – إلى فعاليات السترات الصفراء العفوية التي طرحت نفسها كحركة تمردية ولم ترتبط بحزب سياسي معين. كان شعارها: «السترات الصفراء ليست ملك أحد، لذلك هي ملك الجميع». وقد اندلعت الانتفاضة إثر سلسلة من الإجراءات لرفع الضرائب، كان آخرها على البنزين، بيد أنها تحولت خلال أسابيع معدودة إلى ثورة شعبية فقدت إيمانها بمؤسسات الجمهورية الخامسة. وراحت تطالب ليس بتنحي الحكومة فحسب، بل برفع الحد الأدنى للأجور، ورفع الضريبة على صناعة الطيران الملوِّثة للبيئة، والعودة إلى نظام ضريبي يفرض حسب الثروة، والمشاركة السياسية عبر الاستفتاءات والمجالس الشعبية.
وقد ضمت السترات الصفراء حركات احتجاجية أخرى من قبيل حركة مقاومة العنصرية، ومجموعات الحدّ من التقشف على التعليم والقطاع العام، وأصدقاء البيئة، فشكلت خليطًا متنوعًا من المتظاهرين الذين عبّروا عن استياء جماعي من الرأسمالية والمسار النيوليبرالي الجديد للحكومة الفرنسية. كنت أشاهد الصور من خلال التلفزيون الفرنسي، وأستمع إلى الراديو الفرنسية، وأقرأ التعليقات في الجرائد الفرنسية، فأتعجب من الانتفاضة التي تبنّت خلال بضعة أسابيع تحليلات روزا لوكسمبورغ الثورية. وكلما توسعت المظاهرات في فرنسا وحمِي وطيس المناظرات التلفزيونية حول سؤال «ماذا أصابنا؟»، تابعت قراءتي لأعمال روزا لوكسمبورغ بحثًا عن الإجابة.
بعد إنهائي للرسائل، بدأتُ بقراءة أهم أعمالها التي كتبتها بين 1896 و1918. كانت كتبها متوفرة في مكتبات الأثريات فقط، ولكن يبدو أن الزمن دار دورته، كما يحصل غالبًا عبر التاريخ، فشرع المستقبل يأتينا، جزئيًا على الأقل، من خلال الماضي.
في كتابها إضراب جماعي الذي صدر عام 1905 أكدت روزا لوكسمبورغ على أن الجماهير نادرًا ما تتحرك عقب نداءات الأحزاب السياسية والمنظمات، بل تشتعل المقاومة «عفويًا» إثر جرح مشاعر العدالة لفترة طويلة. برأيها، ينبغي على التظاهرات والإضرابات والاجتماعات السياسية الأخرى أن تنبع عن همّة الشعب وإرادته، كي تكون تعبيرًا عن الحرية السياسية ويُكتب لها النجاح. فقط ضمن سياق الثورة سيتعلم الناس تنظيم أنفسهم في «مجالس شعبية» وضمن الروابط الاجتماعية الأخرى، وينتسبون بعدئذ إلى الأحزاب والنقابات المتواجدة ضمن شروطه الخاصة.
كتب كات في مقدمته لرسائل لوكسمبورغ: «هذا يعني أن الأمور تجري عكس ما كان رؤساء النقابات يزعمون دائمًا. إذ أن حجم النقابة ليس العامل الحاسم بالنسبة للنشاط، بل النشاط هو العامل الحاسم في نمو النقابة». قد يكون هذا الدرس بمثابة المرهم الشافي للنقابات الحالية التي تشهد تراجعًا مأساويًا في عدد الأعضاء، وللناشطين الذين لا يتلقون الدعم الكافي من النقابات. ومن أهم ما قالته لوكسمبورغ: «ليست مهمة النقابات والسياسيين أن يسيطروا على بداية الانتفاضة، بل على نهاياتها». لا نعرف فيما إذا كانت انتفاضة السترات الصفراء ستكون قادرة على هذا النوع من تنظيم النفس، بيد أن نضالها من أجل العدالة الاجتماعية والاقتصادية ومشاركة المدنيين السياسية لم ينتهِ بعد. إن الاستياء أكبر وأوسع انتشارًا من أن يزول بهذه السرعة.
لا غرابة في ذلك، طالما أن أغلبية الشعب الفرنسي ما زالت تعيش على الحد الأدنى للرواتب أو المعاش الاجتماعي كما أورد مختص الديموغرافية الاجتماعية إيمانويل تود. وفي حال أضفنا إليهم جماعة «الموظفين المَرِنين» المتزايدة، أي ذوي الأعمال الحرة الصغار والمتعاقدين وفق شروط سائلة، سوف تصير احتمالات الحركة أكبر.
كما أشارت مريام ده رايك في مقالة لها (2018) إلى أن «رواتب الموظفين العاديين بالكاد ارتفعت، على عكس أرباح الشركات والمؤسسات المالية». إذ أن «المسار النيوليبرالي» الذي اتخذته هولندا في السنوات الأخيرة قد أضعف مكانة الموظفين وثبّت وضع رؤساء العمل وأصحاب رؤوس الأموال. واستنتجت أن الأزمة الاقتصادية في 2008 بالكاد سببت هبوطًا في أرباح المتعهدين، في حين تدهور حال الموظفين بشكل كبير. وقد تكبّد الشعب والقطاع العام المصاريف اللازمة لإنقاذ البنوك، من بينها مزيد من التقشف على التعليم والرعاية الصحية.
كما اقتبست الكاتبة مقولة المؤرخ الاقتصادي باس فان بافل: «لقد عدنا إلى القرن التاسع عشر، فالسوق هو الوحيد الذي يحدد ثمن الرأسمال والعمل». حيث انتشرت عادة احتكار الشركات، والتوسع بغرض حظر المنافسة، وتخفيض الأجور، وتقليص حقوق الموظفين من خلال فرض العقود المرنة.
5
ولقد سبق أن عالجت روزا لوكسمبورغ موضوع حدود الرأسمالية وتركيز الثروات في كتابها تراكم الرأسمال (1913). برأيها ليس بالضرورة أن تنهزم الرأسمالية في صراعٍ جدلي مع البروليتاريا، كما كان يعتقد ماركس، بل بمقدورها الاستمرار بتوسعها الجغرافي جراء اعتمادها على نموذج اقتصادي للنمو والتمدد، مما سيؤدي إلى حروب تجارية طويلة الأمد، بهدف السيطرة على الأراضي والمواد الخام والقوة العاملة. وسوف تدوم هذه الحروب إلى أن يتم استنزاف العالم بأسره لأغراض رأسمالية وبطريقة مسيئة للبيئة والإنسان.
تقول نظرية ماركس إن الجهد يتحول مع مرور الزمن إلى عملٍ مأجور بالساعة، إذ لا شيء ينتج قيمة إضافية للرأسمالية كما العمل المأجور. ويتم إحراز الربح من خلال الفرق بين الزمن الوسطي الذي يستغرقه العمل وبين الحد الأدنى الضروري للقيام به، بحيث يُجبر الناس على إنجاز أكبر كمية من العمل في أقل وقتٍ ممكن. بيد أن روزا لوكسمبورغ وصفت في كتابها تراكم الرأسمال أن العمل غير المأجور أو شبه المجاني يساهم في أرباح الرأسمالية، وأشارت إذاك إلى العبيد وسكان البلدان المستعمرة، وهذا ما نسميه اليوم بتصدير العمل إلى «بلدان الأجور المنخفضة». أي أنها، باختصار، أضافت حجةً جغرافية إلى تحليل ماركس القائل بأن «الوقت ذهب». لا بل اعتبرت ضرورة التوسع الجغرافي المستمر للمناطق الرأسمالية بغرض الإنتاج الرخيص والسيطرة على السوق الشرائية عمادًا أساسيًا لتلك الديناميكية: «الإمبريالية ليست خيارًا حرًا، بل قانونًا رأسماليًا».
ارتأت لوكسمبورغ أن الرأسمالية سوف تحتاج دائمًا إلى شيء من خارجها كي تضمن نموها ووجودها. وقد ألقت هذه الفكرة، التي اعتبرتها حنة آرنت «عبقرية»، ضوءًا جديدًا على الاستعمار. غير أنه لم يكن بوسع لوكسمبورغ التنبؤ بأن الرأسمالية ستجد «مناطق» جديدة صالحة للاستصلاح في المجال الخصوصي للإنسان عبر بيع بيانات الإنترنت والمعلومات الخاصة مثلًا. فقد دخل غوغل والفيس بوك مجالنا الخصوصي من خلال نوعٍ جديد من الرأسمالية، حسب تعبير مختصة الاقتصاد البريطانية شولانا زوبهوف في دراستها الحديثة عصر رأسمالية المراقبة (2019). قدّموا خدمات الإنترنت مجانًا، ولكنهم راحوا في الوقت نفسه «يراقبون» أدق تفاصيل سلوكنا على النت، ليبيعوها من دون إذن منا لشركات الدعاية والصناعات الأخرى. وقد سمّت الباحثة هذه المرحلة بـ «رأسمالية المراقبة» التي لا تنتهك حقنا بالخصوصية وحقوق أخرى كالطبع والنشر والملكية الفكرية فحسب، بل تمسك من دون أدنى رقابة ديمقراطية زمام السلطة والمعرفة بأوضاعنا، بهدف إثراء الشركات نفسها والمشترين السياسيين والتجاريين. كما تقوّض رأسماليةُ المراقبة دولةَ القانون والديمقراطية، وتطمح إلى التحويل الرقمي الكامل وأتمتة حياتنا، لتضع يدها على كل جوانبها، بما فيها ملفاتنا الطبية وسِيَرنا الذاتية. وفي محاولة لتلخيص كتابها في حوار مع الغارديان (20-01-2019) قالت زوبهوف: «كنا نبحث في غوغل، والآن صار غوغل يبحث فينا».
غلاف كتاب "روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت بين المدّ والجزر"
في ثمانينات القرن الماضي تكلم عدد من العلماء الألمان عن «رأسملة» الحياة الخاصة، حيث أشاروا إلى الإتجار بجسد المرأة و«سوق الإنجاب» الذي يُجبر النساء الضعيفات اقتصاديًا على تأجير أرحامهنّ والتبني. ويمكننا هنا الإشارة إلى «الميادين غير الرأسمالية» التي تمّ ضمها للسوق الحر دون أخذ مصلحة المواطن بعين الاعتبار، كالإتجار بأعضاء الجسم وسلطة صناعة الأدوية وتجارة الرعاية الصحية. إن تفكير السوق موجه تمامًا نحو الكمية والمطابقة وتحقيق الربح على المدى القصير، لذلك يجب نفيه من الفضاء العام.
ما عدا احتلال المناطق غير الرأسمالية، فقد لاحظت لوكسمبورغ ازديادًا في تركيز الرأسمال وكتبت عنه في تأهيل المجتمع (1916): «صارت كل الثروات في يد عدد من الإقطاعيين والرأسماليين الأفراد، هم الذين يقررون أين وكيف يتم الإنتاج، وأين ومتى وكيف تُباع المنتجات. إن هدف الاقتصاد الحالي لا يتجاوز إثراء عدد صغير من البشر». ورغم أن مفرداتها تعرضت للتقادم، إلا أن تحليلها لا زال راهنًا. دعونا ننظر مثلًا إلى العنوان العريض الذي نزل في جريدة هولندية عام 2018: «كبار الأغنياء يشهدون تبخر المليارات جراء هبوط البورصات». وفي نهاية ذلك العام هبطت البورصات فعلًا بمقدار عشرة بالمائة عالميًا، فصرّحت الجريدة «أن أغنى خمسمائة شخص على الكرة الأرضية خسروا مبلغًا يصل مجموعه إلى 415 مليار دولار». يالها من مبالغ خرافية لا تستطيع حتى روزا لوكسمبورغ استيعابها. الفوارق الاقتصادية بين البشر تتفاقم عالميًا، ولا توجد اقتراحات ملموسة لإيقافها.
لذلك نادى الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي أثناء مناظرته مع السترات الصفراء أنه ينبغي «تحويل مسار الرأسمالية الفاحشة!». وقد اشتهر بيكيتي عالميًا بعد صدور كتابه الرأسمال في القرن الواحد والعشرين الذي ذكر فيه أن أكبر مشكلة تواجهنا هي تراكم الرأسمال وتوزيعه غير المتساوي. وفي حال لم تُلجم الرأسماليةُ التوسعية، فإن ذلك لن يؤدي إلى تكثيف أكبر للثروات فحسب، بل إلى قلاقل سياسية وهجرة على نطاق واسع وحروب تجارية كما يحدث حاليًا بين أميركا والصين. فضلًا عن تهديد البيئة والمناخ بشكل خطير من قبل الصناعة التوسعية التي لا ترغب بتحمل المسؤولية. قد يكون فرض ضريبة CO2 صارمة على الصناعة الملوّثة من الحلول المعقولة، كما طرح فان دربلوخ بعد فشل آخر اجتماعٍ حول «منضدة المناخ». حيث غادرت منظمات البيئة قبل الأوان، لأنه أصبح من واجب المواطن أن يدفع «فاتورة المناخ» عوضًا عن الصناعة الملوِّثة. قال فان دربلوخ الذي يقطن خارج هولندا: «لو كنت في هولندا، لخرجتُ أتظاهر»، مع أنه توجد أسباب كافية للاحتجاج في شوارع لندن، مكان سكنه الحالي.
اقترح بيكيتي فرض ضريبة عالمية على الثروات، غير أن حكومة ماكرون فعلت العكس بإلغائها لضريبة الثروات الفرنسية. وقد عبر بيكيتي عن استيائه على التلفزيون الفرنسي في حواره مع السترات الصفراء الذين ما انفكوا يهتفون «نهاية الشهر، نهاية العالم!» لمدة أسابيع في الشوارع. وهكذا ارتبط النضال ضد الظلم الاقتصادي ونفاذ الراتب قبل «نهاية الشهر» بالنضال ضد الاحتباس الحراري، أي «نهاية العالم». بيد أن بيكيتي اعترف أن ضريبة الثروات لن تحل جميع المشاكل، بل علينا أن نوحد صفوفنا ضد الرأسمالية الفاحشة وننظم سياساتنا. مهما كان تقييمنا لانتفاضة السترات الصفراء الفرنسية، إلا أنه لا يمكن إنكار أنهم على الأقل حاولوا فعل ذلك.
6
تعتبر روزا لوكسمبورغ من المفكرين السياسيين الذين استطاعوا عبر دراساتهم ومقالاتهم حول المجتمع والسياسة والاقتصاد أن يزوّدوا الشعب بالمعرفة، فضلًا عن تنبيهها إياهم إلى إمكانية الكفاح الجماعي. لم يكن هدفها الحصول على السلطة داخل الحزب، بل ضمان حرية التعبير عن الرأي للجميع. فبعد نشر كتابها تراكم الرأسمال في عام 1913، بدأت تلك الحرية تتآكل شيئًا فشيئًا جراء الفجوة بين الجناح الأيسر الذي تنتمي إليه روزا وكارل ليبكنيخت وبين بقية أعضاء الحزب. إذ أن الاشتراكيين الديمقراطيين لم يرغبوا بالتفريط بالسلطة السياسية التي حصلوا عليها مؤخرًا، في سبيل انقلابٍ سياسي غير مضمون يطمح إلى تحقيق «ديمقراطية المجالس الشعبية»، بل صاروا حسب قول لوكسمبورغ يميلون أكثر نحو «الامتثال للبرجوازية البرلمانية». بدؤوا ينادون بإصلاحات الخطوة بخطوة التي من المفترض أن تحصر الرأسمالية مع مرور الزمن، غير أن لوكسمبورغ لم تؤمن بذلك. غير أن أكثر ما عكر صلتها مع الحزب هو استعداد الأخير للقتال جنبًا إلى جنب مع القيصر.
في 4 آب 1914 اكتشف كل من لوكسمبورغ وليبكنيخت أن الديمقراطية الاشتراكية لم تفشل بنظرهما فحسب، بل قضت على نفسها كحزبٍ اشتراكي. ففي ذلك اليوم صوّت الحزب لصالح رفع قروض الحرب لجيوش القيصر، مما يعني أنه وافق عمليًا على إعلان الحرب على فرنسا. كان هذا أصعب يومٍ في حياة لوكسمبورغ، حسب ما أكد كتّاب سيرتها لاحقًا. هاهي تكتب بكامل المرارة: «بدل أن يوحد عمال العالم أنفسهم، هجموا ليقطّعوا رقاب بعضهم بعضًا». كما تنبأت أن الأمور ستفضي إلى كارثة لا سابق لها في التاريخ، بسبب التقنية العسكرية وحجم الصراع الذي لن يقضي على الأممية فحسب، بل سيمحي أثر البروليتاريا عن الأرض أيضًا. لذلك كتبت في 1 تشرين الثاني 1914 إلى صديقها هانس ديفنباخ الذي سوف يقتل لاحقًا بقنبلة على الجبهة: «لا أشك أن الحزب والأممية قد تحطما فعلًا، ولكن هذا الويل الذي يتوسع شيئًا فشيئًا سوف يفضي إلى مأساةٍ عالمية».
ولم يخطئ حدسها، فقد تسببت الحرب بسقوط ثماني ملايين ضحية، تسعون بالمائة منهم ينتمون إلى الطبقة العاملة. وكانت قد دعت أثناء مؤتمرٍ في شتوتغارت عام 1907 إلى فعل المستحيل في سبيل تجنب حربٍ كهذه، كما اعتبرتها حربًا رأسمالية بين القوى الإمبريالية بشكل أساسي. برأيها هدف الصراع الأساسي هو السيطرة على الأراضي المستعمَرة وتوسيع السلطة الاقتصادية. ففي منشورٍ شهيرٍ صدر عام 1915 راحت تحلل الحرب التي «لم تبدأ في سراييفو عام 1914، وإنما قبل ذلك بسنوات، جراء طمع الصناعة والجشع المليوني الذي أصاب البنك الألماني الراغب باستثمار مناطق في آسيا وتركيا، فسعى للحصول على الإنذار الأخير الذي أعلنته النمسا على صربيا». حتى حين كانت الحرب في أوجها، واصلت لوكسمبورغ نداءها برمي السلاح، «فمن واجبنا جميعًا أن نعمل على نهاية سريعة لهذه الحرب اللاإنسانية». بيد أنها اتُهِمت بخيانة الوطن، ورُمِيت في السجن لفترة طويلة أثناء الحرب.
وفي عام 1917 أرسلت لوكسمبورغ رسالة من حبسها إلى لويز كاوتسكي: «عندما يوشك العالم على الانهيار، أحاول فقط أن أفهم ماذا ولماذا يحدث ذلك. وحين أقوم بواجبي، أشعر بالارتياح ويتحسن مزاجي. لا أحتمل تسليم نفسي بشكلٍ كامل لبؤس الحدث. تذكري كيف عانى غوته من الحروب المتواصلة التي جعلت العالم أشبه بالعصفورية، وكيف بقي هادئًا وواصل درسه وشِعره بكامل السكينة. كل ما علينا فعله هو أن نتكاتف أكثر كي يعمّ الدفء. أضمكِ إلى قلبي. روزا».
استمر حبس لوكسمبورغ حتى تشرين الثاني 1918. وحالما أطلِق سراحها، انغمست في الثورة الشعبية الألمانية التي اندلعت في تشرين الأول بعد رفض الجنود المتمردين في مدينة كيل تنفيذ الهجمات اليائسة التي أمر بها الإمبراطور وحكومته. وامتدت المقاومة إلى المدن الأخرى حيث انضمت أعداد كبيرة من العمال إلى الإضراب، مما أفضى إلى تنحية الإمبراطور غليوم الثاني وتأسيس الجمهورية الألمانية. غير أن الثقة بالحكومة كانت ضعيفة، فانتشرت الروح الثورية في بقية البلاد المعطوبة بالجوع وويلات الحرب. وأضرب مئات الآلاف من العمال في برلين والمدن الأخرى، ليخرجوا جماعيًا إلى الشوارع مطالبين بمحاسبة حكومة إيبر التي ساقتهم إلى حرب كارثية دامت أربع سنوات.
حالما خرجت لوكسمبورغ من السجن، شرعت تعمل بلا هوادة على توجيه الانتفاضة إلى المسار الصحيح. لم تكن مهمتها سهلة على الإطلاق. وبخلاف أعضاء رابطة سبارتكوس – الجناح الأيسر للحزب الاشتراكي الديمقراطي – فقد شككت لوكسمبورغ بحسن توقيت الانتفاضة التي جاءت بعد فوضى عارمة حدّت من قدرة الشعب على التحمل. وفي تلك الأثناء وقعت اشتباكات دموية بين جماعات ثورية وميليشيات الثورة المضادة المدعومة ماديًا من قبل الحكومة. كما راحت لوكسمبورغ تكتب مقالات يومية لجريدة الراية الحمراء تحضّ فيها على رباطة الجأش، من بينها منشور بعنوان «ماذا تريد رابطة سبارتكوس؟» الذي قالت فيه: «نريد أن نعيد تنظيم المجتمع في جوٍ من السلام». نادت لوكسمبورغ مرارًا وتكرارًا إلى نبذ العنف. وقد نُظّمت في تلك الفترة بعض «اللقاءات» والخطابات في ساحات برلين، حيث كان الشاعر الهولندي هيرمان خورتر أحد الحضور الذين ظنوا حينها أن «الربيع الجديد» قادم على جناح السرعة. حتى هنريت رولاند كانت تنتظر تأشيرتها إلى برلين بفارغ الصبر كي تقف إلى جانب صديقتها. فبعد فشل الثورة في هولندا، وجهت آمالها نحو الثورة الألمانية. غير أنها لم تنجح بذلك، ولم ترَ روزا لوكسمبورغ بعد ذلك.
في الأسابيع القليلة التي سبقت، اندلع تمردٌ بين الجنود، فخشيت الحكومة أن تكون شرارة الثورة الألمانية قد وصلت هولندا. وقد كان خوفهم في محله، ففي 11 تشرين الثاني 1918 نادى أحد رجال السياسة الهولنديين العمالَ أن يقبضوا على زمام السلطة. كان هذا أثناء اجتماع حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي في روتردام. ولم يمضِ يومان حتى وقفت الشخصيات الاشتراكية البارزة تخطب في صالات مكتظة بآلاف المستمعين، من بينهم مئات الجنود. وبما أن الحشد كان متأكدًا من قدوم الثورة، انطلق العمال والبحارة والجنود وبقية المتعاطفين إلى الثكنة العسكرية ليطالبوا الجنود بالانضمام إليهم. على أن قناصة الشرطة العسكرية أطلقت النار على المتظاهرين، مما أدى إلى تفريق المظاهرة وسقوط الضحايا والجرحى. وفي اليوم التالي توجهت جحافل العسكر الموالين للحكومة إلى أمستردام، فامتنع المتظاهرون عن الخروج إلى الشارع وفشلت «الثورة» في هولندا بعد يومها الأول.
أما في ألمانيا فقد استمرت الثورة شهرين. في الأسابيع الأولى من عام 1919 وصلت الفوضى في برلين إلى درجة تهديد حكومة الحزب الاشتراكي الديمقراطي. فقررت الحكومة أن تقمع الثورة بالعنف والدعاية، حتى ولو كان مؤيدو الحزب منضمين إليها. وهكذا ظهرت العناوين العريضة التالية في الجرائد الموالية للحكومة: «سبارتكوس ترتكب الفظائع» و«سبارتكوس هي المسؤولة عن كل شيء». بيد أن لوكسمبورغ وليبكنيخت لم يفقدا الأمل. وبدلًا من أن يهربا من برلين، واصلا كفاحهما بشجاعةٍ لطالما اعتاداها، وحاولا ثني الأمزجة عن العنف في اللقاءات العامة. مجرد إيمانهما بإمكانية ذلك هو دليل كاف على أنهما لم يدركا حقيقة الوضع. ورغم أن لوكسمبورغ لم توافق على محاولة الانقلاب على الحكم، ورغم اختلافها مع ليبكنيخت بهذا الخصوص، إلا أنها لم تتخلى عن ناسها.
في 15 كانون الثاني 1919 ألقي القبض على روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنيخت من قبل الفيلق اليميني المتطرف الموالي للإمبراطور غليوم الثاني الهارب إلى هولندا، وتمّ نقلهما إلى فندق إيدن في برلين. وحسب ما ورد في السيرة التي خطتها هنريت رولاند: «نراها لحظة اعتقالها كما وصفتها السيدة ماركوسون. ثمة هالات تحيط بعينيها بعد ليالٍ من السهر، ويستحوذ الإرهاق بجسدها، غير أن روحها القوية لا ترتعد. ها هي تملأ حقيبتها بأشياء تعتقد أنها سوف تحتاجها: ملابس داخلية ومستحضرات الجسم وكتاب فاوست للكاتب غوته. تودع مضيفتها بهدوء ووداعة وتلحق بالخفر إلى السيارة». ظنت أنه مجرد اعتقال وسوف تذهب إلى السجن.
Karl LiebknechtKarl Liebknecht
بعد وصول لوكسمبورغ وليبكنيخت إلى فندق إيدن تمّ التحقيق معهما وتعذيبهما من قبل القوات المدرعة برئاسة فالدمر بابست، ليُنقلا بعد ذلك بسيارتين، كل واحد على حدة. وقد كتبت هنريت رولاند: «حالما غادرت لوكسمبورغ الفندق، ضربها ضابط الصف رونغ بعقب بندقيته على رأسها من الخلف. تكوّمت على الأرض، فحملوها إلى السيارة. أثناء الرحلة ظهرت عليها علامات تشي بأنها ما زالت على قيد الحياة. لا تطلق النار!! هذه آخر كلمة قالتها قبل موتها للرجل الذي صوّب المسدس نحو رأسها، ولكنه قتلها. ورموا جثتها في قناة مائية في برلين، ولم يتم العثور عليها إلا بعد مضي شهور. كما لو أنهم لم يكتفوا بميتة واحدة!». وقد اجتذبت مسيرة إحياء ذكراهما حينها مئات الآلاف من المشاركين. كما أسس ألبرت أينشتاين والفنانة كايت كولفيتس ما يسمى بالرابطة الألمانية لحقوق الإنسان بعد بضعة أيام من انتشار الإشاعات حول جريمة القتل المزدوجة.
وتمّ تنظيم اجتماع تذكاري في أمستردام، حيث عبرت هنريت رولاند عن «حزنها العميق واستيائها الذي لا يوصف. وكم كانت معجبة بمواهب صديقتها المميزة وشجاعتها البطولية». وقد خص الشاعر هيرمان خورتر لوكسمبورغ بأغنية: «لقد رحلتِ/ ولكن من المسؤول؟/ الرأسمال/ وكذلك العمال/ الذين خانوكِ/ رحلتِ يا روزا / ولم يبقَ في جعبتنا سوى الفقدان/ والمساء/ الكون فراغ/ والساحات/ بعد أن اختفى الشعاع».
بالنسبة لحنة آرنت كانت جريمة قتل ناشِطَين اشتراكيَين سِلميَين بمثابة «نقطة تحولٍ بين ألمانيا ما قبل وما بعد الحرب العالمية الأولى». وحسب تقرير الشرطة، فقد تمّ القتل إثر محاولة هرب. غير أنها كانت جريمة قتل بعد سبق إصرار وترصد وبموافقة الوزير التابع للحزب الاشتراكي الديمقراطي غوستاف نوكه. كتبت حنة آرنت: «سوف يصبح القتل عقب محاولة هرب الكذبة النموذجية لتبرير مئات الجرائم بحق الثوار اليساريين، من بينهم ليو جوغيشس وغوستاف لانداور وفالتر راتينو الذين قُتِلوا لاحقًا». وقد صرّح الضابط فالدمير بابست، الذي اعتلى منصبًا رفيعًا إبان حكم النازية، لجريدة دير شبيغل في عام 1962 أنه ما زال يؤمن «أن تصفيتهم مقبولة جدًا من زاوية نظر أخلاقية لاهوتية».
وقد تمّ قمع الثورة الألمانية من قبل الميليشيات اليمينية المتطرفة نفسها التي ساعدت هتلر على تسلّم زمام السلطة بعد بضعة سنين. إذ ترافق انتخابه من قبل حزبه النازي بإطلاق الشعارات ضد السامية وضد الشيوعية ذاتها التي استُخدِمت للقضاء على رابطة سبارتكوس. كان عمر حنة آرنت اثني عشر عامًا حين جابت بها أمها، المعجبة كثيرًا بروزا لوكسمبورغ، شارع كونينغسبرغ قائلة: «انتبهي جيدًا يا حنة، فهذه اللحظة تاريخية!». ففي ذلك الشارع اختار العمال أن يضربوا عن عملهم بشكل جماعي وأن يجتمعوا في المباني التي قصدها السبارتكسيون من برلين ليلقوا خطاباتهم فيها. وقد آمنت والدة حنة أن ألمانيا المدمرة قادرة على النهوض من جديد، وبالأخص بعد هروب الإمبراطور إلى هولندا وانتشار مئات آلاف الثوار الاشتراكيين في الشوارع للمطالبة بتنحي الحكومة. بيد أن الأمور جرت خلاف ذلك.
ترى آرنت أن جريمة قتل لوكسمبورغ وليبكنيخت عبّدت الطريق لهتلر. ها هو يبدأ مشواره على ركام الحرب العالمية الأولى والعنف السياسي الذي توسلته جمهورية فايمر، و«ينتقي أعضاء حملته السياسية من الفيلق نفسه الذي قمع الثورة». وسوف يُدفع ثمن ذلك غاليًا جدًا، إذ أن أكثر مقولة للوكسمبورغ انتشارًا هي عنوان مقالتها حول الاشتراكية الديمقراطية: الاشتراكية أم الهمجية؟ (1916). جميعنا نعلم أن الصراع انتهى لصالح الأخيرة في العقود التي تلت. ويمكننا الإجابة على تساؤل آرنت «فيما إذا كان التاريخ سيختلف في حال نظرنا إليه من خلال عدسة أعمال لوكسمبورغ» بالإيجاب، رغم أنه لا يسعنا سوى تخيل كيف ستكون ألمانيا في حال تحققت اشتراكيتها الديمقراطية.
7
مضى مائة عام على ذكرى مقتل روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنيخت التي أحييناها في عدة أماكن الشهر الماضي [مطلع 2019]. كما بدأ الاهتمام بأعمال حنة آرنت يزداد مع مرور الزمن. ورغم أن حربًا عالمية ونظامَين استبداديين يفصلان الفيلسوفتين تاريخيًا، إلا أنه يحصل كثيرًا أن تُناقش أعمالهما سوية، كما حصل في متمردات (2018) لسيمون فريلينغ. ومع ذلك تبقى بعض الاختلافات، ففيما أكدت لوكسمبورغ على أهمية الانقلاب السياسي جراء افتقارها للمعلومات حول ديكتاتورية النظام الستاليني، اتخذت آرنت موقع المراقب السياسي والفلسفي. بيد أن كفاحهما في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية والحقوق الديمقراطية لا يختلفان.
ارتأت آرنت أنه ينبغي الحذر من الشمولية حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لأنها «شكل من أشكال الحكم القادر على الظهور في كل لحظة وأي مكان» ويعمل على تثبط العفوية الإنسانية والتعددية والحرية السياسية. كما تحاول الإيديولوجيات الشمولية عبر الدعاية والخوف والبيروقراطية صهر تنوع الشعب إلى كتلة مطيعة وأحادية الشكل متوسلة نظريات كبش الفداء والأساطير القومية لذلك الغرض. وتقول آرنت في كتابها الشمولية (1951) أن هذه الأساطير والنظريات قادرة على «إقناع البشر الذين يعيشون في عزلة وخوف من الآخرين عبر استخدام أسلوب عاطفي خطير».
ومن اللافت أنه بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات، راح كثير من المعلّقين السياسيين يوردون الاقتباس ذاته من كتاب الشمولية: «إن مرحلة التوجس التي نعيشها أشبه بحلول الصمت بعد فقدان كل الأمل. ومهما اختلفت الظروف، فإننا نشهد تطور ظواهر متشابهة. لم يسبق أن كان مستقبلنا غائمًا كما هو الآن، أو كنا محكومين بقوى غير موثوق بها وتدوس على قوانين العقل السليم إلى هذه الدرجة». كيف نقي أنفسنا من هذه «القوى غير الموثوق بها»؟ قالت آرنت – ولوكسمبورغ أيضًا – إن علينا الحذر من جميع أشكال الحدّ من حرية التعبير ونشر الدعاية (أو ما نسميه اليوم بالأخبار الكاذبة) التي ستعلن بداية انهيار الديمقراطية، إذ أن «الحكم الشمولي لا يستهدف ذلك النازي أو الشيوعي، بل أولئك الذين لا فرق لديهم بين الواقع والخيال». حين يتمّ الكذب على الناس بشكل متواصل، ستأتي اللحظة التي لن يصدقون فيها أي شيء بعد الآن. «وحين يعجز الناس عن التصديق، لن يتمكنوا من تكوين رأي خاص بهم. حينها لن يحرموا من القدرة على الفعل فقط، بل من القدرة على التفكير والمحاكمة أيضًا، وسيكون بإمكانك فعل ما يحلو لك بهم».
أما لوكسمبورغ فقد كتبت في الثورة الروسية (1918): «لذلك يتصف العالم العام الذي تنقصه الحرية السياسية بالهزالة والتبسيط والعُقر والجفاف، لأنهم بالابتعاد عن مبدأ الديمقراطية سيقطعون صلتهم بينابيع الثراء الروحي والتطور». ومن هنا أتى نقدها الحاد للينين وتروتسكي اللذين راحا يحدّان من حرية التعبير منذ انطلاقة الثورة الروسية في عام 1917، فأدخلا نظام الحزب الواحد بعد حلّ البرلمان من دون الإعلان عن انتخابات جديدة. بالنسبة للوكسمبورغ وآرنت، تُعتبر حرية التعبير والتجمع من القيم الديمقراطية الحصينة التي لا يحق لأي إيديولوجية سياسية أن تستهين بها. «من غير المعقول أن تتحقق سيادة شرائح المجتمع العريضة من دون إعلام حر وناقد، ومن دون حق التجمع وتشكيل الجمعيات».
ترى لوكسمبورغ أن الثورة الروسية فقدت صلتها بالاشتراكية الديمقراطية: «من دون انتخابات عامة وإعلام حر وحرية تعبير، سوف تذوي الحياة في كافة المؤسسات العامة، وتصبح وهمًا يفتقد جميع عناصر الحيوية ما عدا البيروقراطية. وسوف تغط الحياة العامة في سبات عميق، ويستلم عدد قليل من رؤساء الأحزاب القيادة (.....) ستفضي هذه الأوضاع إلى إهمال الحياة العامة وتوحشها على المدى القريب». كما تنبأت بأن الثورة ستنتهي بديكتاتورية بعض القادة، وسرعان ما تتحطم وعود الحرية والمساواة ويعمّ الإرهاب. وقالت:«الحرية لا تعني أن يكون الموالون وأعضاء الحزب أحرارًا، الحرية هي دومًا حرية المخالفين بالرأي».
وقد قدمت آرنت في مقالتها حول لوكسمبورغ ملاحظة واقعية مفادها أن «التاريخ أثبت أنها كانت على صواب». بالنسبة لكليهما لم تكن الحرية شيئًا قابلًا للتلاعب به، بل شرطًا للتغيير السياسي. كما أكدتا على أن الحرية لا تتحقق إلا بالشراكة مع الآخرين، وعندما تحلّ القضية العامة محل المصلحة الشخصية. قد يحصل ذلك في العالم العام أو في المنزل حين ينحو الحديث حول المائدة إلى حب العالم. ولطالما أحبت حنة آرنت أن تقتبس قصيدة رينيه شار التي قال فيها:
ندعو الحرية إلى كل وجباتنا التي نتناولها معًا.
كرسيها خال، غير أن طبقها على المائدة جاهز دومًا.
كانت روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت مفكرتين ضد التيار، لا تخجلان من المواضيع الخلافية أو الصدام مع خط أنصارهم الفكري. إن شحذ الوعي الناقد والحضّ على تشكيل رأي أو محاكمة شخصية للأمور وعرضها على الملأ – شفويًا أو كتابيًا أو فعليًا – يشكلان جزءًا أصيلًا من عمل روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت على حد سواء. فقد كتبت حنة آرنت في الوضع البشري: «بوسع فعلٍ واحدٍ فقط، وأحيانًا كلمة واحدة فقط، أن تغير أي وضع محتمل». وقد كانت معجبة بالنهج الفلسفي الذي اتبعه سقراط، الملقب أحيانًا بذبابة الخيل الإغريقية، لأنه استطاع بآرائه الخلافية والعنيدة أن يثير الآخرين ليصحوا من غفوتهم ويفكروا بأنفسهم.
ويسمى نهج سقراط بالداية. من المغري حقًا أن نعتبر كلًا من لوكسمبورغ وآرنت «داية» الفلسفة السياسية المعاصرة، نظرًا لتوافقهما مع الفيلسوف الإغريقي. فقد أخذتا على عاتقهما مساعدة الآخرين على إنجاب أفكارهم النقدية، إذ لا شيء سوى ذلك سيبشر ببداية جديدة. من ناحيتها كتبت آرنت في الوضع البشري: «حياتنا القصيرة المستعجلة على الموت سوف تفضي لا محالة إلى انحطاط كل شيء إنساني في حال لم ننجح بإيقاف مسيرة الموت والبدء بشيء جديد، أي تكريس القدرة الكامنة في الفعل، كما لو كانت تذكرنا أبدًا أن البشر، حتى ولو أن مآلهم الموت، لم يولدوا ليموتوا، بل ليصنعوا بدايات جديدة».
كما أكدت سيدونيا بلاتر في نصها ضد تدمير المجال السياسي للحرية(2005) أن روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت كانتا تطمحان إلى امتلاك المساحة السياسية للحرية اللازمة للبدء من جديد وإنقاذها من أيادي القوى الاقتصادية المحضة وجعلها مُتاحة للشعب. وزعمت آرنت أن المجتمع الاستهلاكي غير قادر على رعاية العالم، لأن الاستهلاك لا يوفر رعاية مستديمة، بل يعتمد على الاستخدام المباشر كمبدأ أساسي. ويتميز المجتمع الاستهلاكي بالغزارة والتشابه وسوف ينتهي بدمار نهائي للحس المجتمعي، أي المشاركة بتحمل مسؤولية العالم. هذا شكل من أشكال فقدان الصلة بالعالم الذي يؤدي مع مرور الوقت إلى عزلة الإنسان واغترابه واقتلاعه. وبما أن مجتمعنا بات يتميز عبر الاستهلاك أو عدمه، صارت رعايتنا للعالم ومشاركتنا السياسية ضرورية أكثر من أي وقت مضى. لا تنتقد لوكسمبورغ وآرنت الرأسمالية والمجتمع الاستهلاكي فحسب، بل تقدمان اقتراحات ملموسة لدعم مشاركة الشعب السياسية.
8
«قبل اندلاع الثورة، يعتقدون أنها مستحيلة. وبعد اندلاعها، يحسبونها حتمية»، هكذا كتبت روزا لوكسمبورغ. وقد استلهمت فكرة المجالس الاشتراكية الديمقراطية من كومونة باريس (1871) التي تهدف إلى منح كافة الجماعات الاجتماعية صلاحية اتخاذ القرار السياسي والتعبير عن رأيها عبر «مجالس شعبية». وقد حصل في الشهور الماضية أن عقدت الجرائد الفرنسية المقارنة بين انتفاضة السترات الصفراء من جهة وبين الثورة الفرنسية في 1789 وانتفاضة الطلاب في 1968 من جهة أخرى، ولكن لم يتم التطرق إلى الانتفاضة التي اندلعت قبل مائة عام تقريبًا وعُرفت باسم كومونة باريس إلا مرة واحدة فقط. كانت تلك الانتفاضة الجماعية على حكومة نابوليون الثالث نابعة عن رفض الفقر والبطالة والإجراءات الضريبية الظالمة، وقد تمكنت بعد انطلاقة فوضوية من تنظيم نفسها في مجالس أحياء ومجالس شعبية انتسبت إليها النساء والعمال لأول مرة في التاريخ.
وقد نجح الكومينيون خلال تلك الفترة القصيرة بتنفيذ بعض الإصلاحات المهمة، مما جعل حنة آرنت تشبّه تلك المجالس المنتخبة شعبيًا بـ «جوهرة الحكم الذاتي» في كتابها الثورة. كما وصفت روزا لوكسمبورغ هذه الكومونة الباريسية كأول محاولة لإحلال الاشتراكية الديمقراطية التي يستلم فيها الشعب زمام السلطة السياسية. وفي نصها الأخير بعنوان النظام يسود في برلين والذي كتبته بضعة ساعات قبل مقتلها، استذكرت – من دون أن تدري شيئًا عن مصيرها – «الأعمال الوحشية» و«حياة كثير من الضحايا والنساء والأطفال المغلوبين على أمرهم» والتي ستكون ثمن قمع هذه الانتفاضة الشعبية. ألم يقتل جيش نابوليون الثالث ثلاثة آلاف كومينيًا ويسجن أربعين آلفًا آخرين في أيار 1871؟ كتبت لوكسمبورغ نصها الأخير كما لو أنها تتنبأ بما سيصيبها – وكثيرين غيرها – قريبًا.
تتميز الكومونة الباريسية بأنها لم تكن انتفاضة على الجوع والفاقة فحسب، بل من أجل تحقيق الحرية السياسية من خلال المجالس الشعبية أيضًا. ويشكل هذا فارقًا جوهريًا بالنسبة لآرنت التي أكدت في كتابها الثورة على أن الثورات لا تملك فرصة للنجاح إن لم تطالب بالحرية السياسية بالإضافة إلى الانعتاق الاقتصادي. إن لم يترافق المطلبان لن يتغير شيء في النموذج السياسي الذي يُجبر على الفقر، وستنحصر التعديلات في رفع الأجور. قد يكون التحرر من الفقر والاضطهاد شرطًا للحرية فعلًا، بيد أنه لا يؤدي من تلقاء نفسه إلى الحرية السياسية، أي إلى تحقيق شيء جديد كما تشترط آرنت.
وفي الكتاب نفسه تصف آرنت مجالس الحكم الذاتي التي نشأت إبان الثورة الروسية الأولى (1905) والهنغارية (1956) كمظهرٍ سياسي لذلك التجدد. وتتحدث بتفاؤل عنها وتشبهها بـ«الواحات في قلب الصحراء» التي ستُمكّن المواطنين من «المشاركة الفعلية بالحكم». فمشكلة النظام البرلماني هي أنه «قد يُعتبر أوليغارشيًا، فتنحصر الحرية السياسية في امتيازات عددٍ محددٍ من ممثلي الشعب» الذين ستتاح لهم فرصة تكريس أنفسهم لـ«نشاطات من قبيل تقديم المقترحات والنقاش واتخاذ القرار، وهي جميعها تعبيرات إيجابية عن الحرية». ولن يسع المواطنون الآخرون سوى أن يتأملوا حُسن «تمثيلهم» بما يخص رفاههم العام، دون أفعالهم وآرائهم الفردية. والسبب البسيط هو أن وجودهم سينتفي فور الإدلاء بأصواتهم. أحد أهم أسباب الكارثة المؤسساتية الفرنسية هي، كما رأينا، أن السترات الصفراء لا يشعرون أنهم مُمثَّلون بالحد الأدنى.
وكتبت آرنت أننا «قد نميل إلى توسيع إمكانيات المجالس، إلا أنه لا شك في حصافة جيفرسون القائل: باشروا بتأسيسها من أجل غاية معينة، وسوف تكتشفون سريعًا أي غايات أخرى ستخدمها على أكمل وجه». والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ألم يحن الوقت بعد لنشتغل على هذه المهمة فعلًا؟ ها هي السترات الصفراء تطمح إلى امتلاك سلطة سياسية أوسع، فتطالب باعتماد الاستفتاء التشريعي على أساس مبادرة المواطنين. بدل من أن يملأ الجميع اعتباطًا خانةً صغيرةً في ورقة الاستفتاء، بوسعنا توكيل مجالس منتخبة مؤقتًا ومنح أعضائها المواطنين الوقت الكافي للاستعلام والإدلاء بصوت مشترك للمجلس الواحد. لن يرفع هذا من مستوى مشاركة الشعب السياسية فحسب، بل سيعزز الترابط الاجتماعي ويدحض الشعور بفشل التمثيل أو عدم وصول الصوت.
كما ستساعد مجالس المواطنين على كبح لجام القادة اليمينيين المتطرفين، لأن الناس سوف يحصلون على بقعة في هذا العالم، مما سيحدّ من شعورهم بالعجز وعدم الانتماء. حالما يسترد الناس استقلاليتهم ومسؤوليتهم، سوف يزدهر العالم. هذا شكل من الديمقراطية المباشرة التي دعت إليها روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت، والتي نجدها كذلك في مرافعات كتّاب معاصرين، كالكاتب البلجيكي دافيد فان رايبروك. ففي مقالته الطويلة ضد الانتخابات (2014) انتقد فشل الديمقراطية البرلمانية وتراجع ثقة المواطنين بالديمقراطية. كما زعم أننا نعاني من «متلازمة الإرهاق الديمقراطي»، واقترح مداواتها بإنشاء مجالس المواطنين، وهي نموذج أشبه بهيئة التحكيم التي يتم من خلالها اختيار المواطنين عبر القرعة لضمان تمثيلهم لكافة تكوينات الشعب، من دون أن تعترض مصالح انتخابية أو سياسات حزبية عملهم المشترك على القضايا السياسية. وتقدّم آيسلندا أحد الأمثلة المعاصرة عن مجلس المواطنين، حيث تمكن عدد من المواطنين من إعادة صياغة الدستور خلال أربعة أشهر والحصول على استحسان سبعين بالمائة من الشعب. كما سمحت هولندا لبعض البلديات أن تجري تجاربها على مجالس المواطنين المتشكلة عبر القرعة.
شخصيًا كنتُ عضوة لعدة سنوات في أحد مجالس الحي الأمستردامية، حيث ضمّ مجلسنا ما يقارب العشرين من السكان المنتمين إلى خلفيات ثقافية مختلفة. وقد كان هدف المقترح الذي قدمته مرسيدس زاندفايكن تعزيز التلاحم الاجتماعي الذي نحن بأمس الحاجة إليه، لأننا للأسف لا نعيش سوية، بل بجوار بعضنا فقط. تعلمنا الكثير من خلال اجتماعاتنا الملهِمة والتي حققت أهدافها كمجلسٍ للحي متعدد الثقافات. هذا بالإضافة إلى المشاريع التي طورناها في تلك الفترة. تعرفنا أثناء المحادثات التي أجريناها على قصص الآخرين وآرائهم وهمومهم وخلفياتهم، مما مكّننا من تطوير العديد من المبادرات في الحي. كما اجتزنا حدودًا قومية ودينية وثقافية، ولم نطبّق التعددية التي دافعت عنها حنة آرنت واعتبرتها عماد الديمقراطية فحسب، بل مارسنا قدرتنا على التفكير بـ «وعي واسع» أيضًا. لطالما شعرتُ بعد انقضاء اجتماعاتنا برحابة وعيي وروحي على حد سواء.
لقد أشارت الفيلسوفتان إلى أن العالم الثقافوسياسي المتواجد بين الناس ليس عالمًا «إنسانيًا» بطبيعة الحال. فحسب آرنت لا يصبح العالم إنسانيًا إلا بعد أن يغدو موضوعًا للاهتمام والحديث والتفاعل. أما حين ننكفئ عن العالم العام جرّاء إحباطاتنا أو ضيق الوقت أو اللامبالاة، سوف نفقد صلتنا بالعالم وقد ننحو إلى الهمجية. وتذهب روزا لوكسمبورغ إلى أبعد من ذلك، وتحاكم بمنتهى الجذرية ذلك المجتمع الرأسمالي الذي يعتمد برأيها على سوء فهمٍ أساسي مفاده أننا قادرون على إنشاء عالم عادل مبني على التنافس والتباري واستغلال الآخرين والجري وراء الأرباح. غير أن كلتيهما نادتا بالحرية والمشاركة السياسية، إذ لا شيء آخر يضمن المنسوب الديمقراطي في المجتمع. وكما لو كانتا «أنتيجون» عصرية، راحتا تدافعان عن حق المقاومة في حالة عدم تطابق القانون والإدارة السياسية مع صوت الضمير، أي مع حسّ التفريق بين الخير والشر. المعنى الحرفي لاسم «أنتيجون» الإغريقي هو الحركة المضادة: تحتاج الديمقراطية إذن إلى تيارات عكسية كي تحافظ على صحتها وديناميكيتها.
وبالحماسة التي تمتلكها لوكسمبورغ عادة، احتفت آرنت بالمقاومة السياسية في مقالتها عصيان مدني (1970): لا فرق بين المظاهرات والإضرابات ورفض الخدمة وأي شكل آخر. وقد كتبت مقالتها نظرًا لتزايد عدد الأميركيين الرافضين للحرب الفيتنامية أو الامتثال للقوانين العنصرية، كالتفرقة العرقية في المواصلات العامة. حيث فرَّقت بين هذين النوعين الإيجابيين جدًا من العصيان المدني وبين المخالفات «العادية» للقانون. حين يرفض ضميرنا قوانين معينة أو سياسة ما، فمن «واجبنا كمواطنين» أن نفعل شيئًا للتغيير. وهكذا يغدو «العصيان المدني علاجًا هامًا لفشل المؤسسات السياسية». كما أكدت آرنت أن «القضايا السياسية أهم من أن تُترك للسياسيين فقط».
9
عدتُ إلى هولندا، بينما استمرت مظاهرات السترات الصفراء الفرنسية فترة أطول من المتوقع. بعد قرنٍ كاملٍ من رحيل روزا لوكسمبورغ، نجد أنفسنا في خضم انتفاضة فرنسية شعبية عفوية اندلعت منذ شهرين ولا تنوي التوقف. وفي تلك الأثناء قُبِض على قرابة ألفي شخص، من بينهم مئات التلاميذ الذين تمّ احتجازهم وقائيًا. وسقط بعض القتلى وأصيب مئات المتظاهرين بجراح، من بينهم صحافيون فقدوا عينًا أو يدًا جراء الكرات المطاطية المحظور استخدامها ضد المتظاهرين في جميع البلدان الأوروبية إلا عند الشرطة الفرنسية.
حاولت الحكومة الفرنسية تهدئة الانتفاضة من خلال سحب قرار الضريبة على البنزين ورفع الحد الأدنى للأجور، ولكن يبدو أن السترات الصفراء لن يقتنعوا بذلك. كما استمر تأييد الشعب الفرنسي للانتفاضة رغم الضحايا والتخريب في المدن وتعطيل المواصلات لمدة أسابيع، حتى أنه وصل إلى نسبة 65 بالمائة في مطلع كانون الثاني 2019. أما تأييد الخمسمائة وسبعة وسبعين عضوًا في الجمعية الوطنية الفرنسية، فلم يتجاوز الـ 18 بالمائة. ويوضح هذا الفارق أن الانتفاضة الفرنسية نابعة عن خللٍ في التمثيل السياسي، فالسترات الصفراء لا يشعرون أنهم مُمَثّلون من قبل أعضاء حزب إلى الأمام المنحدرين غالبًا من الطبقات العليا، والذين تمكنوا أثناء الانتخابات الأخيرة من محو الحزب الاشتراكي عن الخارطة.
لا أحد يدري كيف ستجري الأمور – أكتب ونحن في منتصف كانون الثاني –، بيد أنه لا مجال لإنكار الكارثة المؤسساتية في فرنسا. بالمناسبة: ليس في فرنسا فقط، فقد رأينا مطلع هذا العام، وبخاصة بعد البريكسيت في إنكلترا وتعطل الحكومة في الولايات المتحدة، أن هذين البلدين يعانيان من أزمة حقيقية. غير أن بقية البلدان الغربية ليست أهدأ بكثير، فالمظاهرات الأسبوعية تعمّ هنغاريا وصربيا، فضلًا عن انطلاق شرارة ثورة التلاميذ ضد الاحتباس الحراري من السويد إلى بلجيكا وألمانيا وسويسرا وهولندا. في فرنسا سيعتمد كل شيء خلال الفترة القادمة على موقف الحكومة والرئيس اللذين تألقا مؤخرًا بالاغتراب عن العالم والغطرسة. ففي خطاب رأس السنة بالكاد استطاع ماكرون حبس غضبه من «حشود الكراهية»، مما ثبّت تهمة «الازدراء» التي طالما نالته. وقد كتبت روزا لوكسمبورغ في 16 شباط 1917 في رسالة إلى ماتيلدا فورم: «لا شيء متغير كنفس الإنسان، فهي تخبئ في طياتها كل الإمكانيات، مثلها مثل البحر الأبدي: السكون القاتل والعاصفة العتية وأسوأ الجبن وأعنف البطولات. الجماهير في تناغم دائم مع ما ينبغي أن تكونه ضمن زمن ووضع ما، وهي دائمًا على تأهب للقفزة الجريئة لتغدو شيئًا مختلفًا تمامًا عما تبدو».
وفي تلك الغضون ستنتشر انتفاضة السترات الصفراء إلى بلدان أخرى، وتصل هولندا بكامل تنوعها السياسي، ولن تنحصر عندئذ على بضعة مئات من المتظاهرين المتطرفين. وكما حصل في فرنسا، سوف تتوحد السترات الصفراء الهولندية مع أقلام المعلمين الحمراء، وسترات المدافعين عن البيئة الزرقاء، وغيرها من الجماعات المعارضة، كحركة مقاومة العنصرية، وكافة الحركات الطلابية، وحركة هولندا على طريق التغيير، وتجمع العلوم الإنسانية، وحركة الفضاء العام الفاعل. وقد نظم قطاع التعليم تظاهرة واسعة في 14 كانون الثاني 2018 في لاهاي، حيث حضرها ما يزيد على ثلاثة آلاف أستاذ جامعي وطالب احتجاجًا على سياسة التقشف. لم يُرِنا وزير التعليم وجهه يومها، ولكنه أعلن في اليوم التالي أن التقشف سيستمر. وجاء الرد بالإعلان عن إضرابٍ عن التدريس في 15 آذار القادم، والذي سيشارك فيه أساتذة من كافة فروع التعليم.
وحتى في هولندا لن تنتهي الاحتجاجات على خير، فحكومتنا تفرض سياستها النيوليبرالية العنيدة منذ عقود، متجنبة بذلك القطاع الخاص وذوي الدخل العالي والشركات متعددة الجنسيات على حساب ذوي الدخل المنخفض والبيئة والمجال العام. ويكتب تشينك فيلينك الذي أعتبره أبعد ما يكون عن بث الفوضى: «نعمل حاليًا على تفريغ قضيتنا العامة من محتواها. ينبغي اتخاذ موقف حاسم، ورفع صوتنا، والدخول في مناظرة عامة!». يبدو أن وزير الدولة متوجس من انهيار النظام الديمقراطي، فطفق ينادي المواطنين إلى الاحتجاج، لأن «الكلمات المفتاحية في الديمقراطية هي المعارضة والقوة المضادة».
السؤال الذي يطرح نفسه هو ماذا تُرانا فاعلين إن خرجنا أخيرًا لنحتل الدوارات المرورية بستراتنا الصفراء أو أي لون آخر، مثبّتين المربع الأحمر على معاطفنا – رمز انتفاضة الطلبة والأساتذة؟ نطمح إلى تغيير مدّ وجزر الزمان، ولكن هذا يعني التدخل لإيقاف مسار حتمي وثنيه في اتجاه بديل. من المعروف أن السياسيين يحبون المثل القائل: «يتوجب علينا قلب المدّ والجزر»، ذلك أن السير على الطريق ذاته غير مجدٍ وقد يؤدي إلى التهلكة. وليسوا كثيرين أبدًا أولئك الذين يدركون أن ذلك يحتاج إلى طاقة عظيمة تكاد تتجاوز القدرة البشرية. قد يبدو الأمر كما لو أننا ننوي تقشير موزة فقط، وليس تغيير المد والجزر اللذين لم يعرفا الراحة أو الهوادة منذ الأمد. هل يدفعنا هذا الجهد المستحيل بالذات نحو التخيل يا تُرى، ألم تملأ كلمات الفيلسوف بلوخ جدرانَ باريس وجسورها وأرصفتها أثناء الانتفاضة الطلابية في عام 1968: «كن واقعيًا، وفكر المستحيل»؟ حيث تميزت تلك الانتفاضة بـ«القدرة على قول لا» في سبيل فتح المجال لـ«حساسية جديدة» تحثّ على التغيير، كما قال بعض المفكرين الفرنسيين من قبيل سيمون فايل وألبرت كامو.
أعتقد أن كثيرين متفقون على ضرورة إيقاف مدّ الأزمة الاقتصادية والسياسية والبيئية، غير أن قلة منهم مستعدون لقلب الموازين السياسية. يريدون الشروع بالعمل مباشرة عبر طرح مقترحات عملية من المفترض تنفيذها ضمن البنية القائمة، ويستغربون مع ذلك أن الروح لم تنضج بعد لتقبّل الانتقال الجذري. لكلّ ثورة جانبها الفجائي، فضلًا عن جانبها المستحيل أو الطوباوي (حرفيًا: بقعة جيدة ولكن ما زالت غير موجودة) الذي يهزّ الروح ويوسعها لتتمكن من المقاومة وقلب الموازين. باختصار، نحتاج إلى قصصٍ وأفكار وأحلام طوباوية لنقدر على الحركة، عسى أن تكون مجالس المواطنين حلمًا طوباويًا يتجاوب مع واقعية ملحة جدًا.
لم تدرك السترات الصفراء في بادئ الأمر أنها على وشك إضرام ثورة شعبية، ناهيك عن تجهيزها أي برنامج لمرحلة لاحقة. لا أحد يعلم الآن فيما إذا كانت التظاهرات كل يوم سبت ستحقق الغرض، فها نحن في هولندا ننتظر النهاية بكل ما لدينا من شكوك. بيد أن السترات الصفراء اسمتلكت حرية الفعل السياسي حقًا، وهذا بحد ذاته من دواعي الأمل. نحن بأمس الحاجة إلى تغيير مسار جذري يجعل الأرض صالحة للعيش ويحافظ على إنسانية العالم. ولكن ينبغي ألا نوجه آمالنا نحو المعركة الفائزة في المستقبل فقط، بل نبحث عن الإلهام في قصص المفكرين السياسيين الذين عاشوا في الماضي، حتى ولو كان الهدف ليس أكثر من تهيئة أنفسنا لقنص اللحظة الكبرى التي تسنح فيها فرصةُ قلب التاريخ.
10
روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت كانتا مدفوعتين بتوقهما نحو الحرية وحبهما ومسؤوليتهما تجاه العالم. إذ كتبت آرنت في 1955 إلى الفيلسوف كارل ياسبرس: «لقد تأخرتُ في عشق العالم. وامتنانًا مني سأسمي كتابي: حب العالم amor mundi». ورغم أنها منحت كتابها عنوانًا آخر لاحقًا، إلا أن «حب العالم» سيتغلغل في معظم أعمالها.
نتفهم أن تحتاج آرنت –الفيلسوفة الشابة الهاربة من النازية في أواخر الثلاثينات – إلى بعض الوقت كي تحب العالم من جديد. ولا شك أنها احتاجت إلى شجاعة كبيرة كي تُرضخ ذلك العالم بالذات لبحثها الناقد والدقيق. من اللافت إذن إصرارها في أعمالها على طرح «حب العالم» كترياق ضد خطر فقدان الصلة بالعالم – وعنف الأنظمة الشمولية الناتجة عن ذلك.
من دون حبٍ أو مسؤولية مشتركة تجاه العالم لا مجال للقضاء على الأنانية amor sui التي تشكل أولوية الرأسمالية. نحن لن نتحرر فقط، بل لن نصبح إنسانًا إن لم نجرؤ على التخلي عن مصالحنا الشخصية والتركيز على العالم السياسي والثقافي الذي يربطنا ببعض. ينبغي ألا نتعلم التساؤل «ما هو الأفضل بالنسبة لي؟» فقط، ولكن أيضًا «ما هو الأفضل من أجل العالم؟». من دون الاهتمام بالعالم، سوف نُسلَب كثيراً مما يحدد أملنا وحريتنا وإنسانيتنا، أي قدرتنا على التكافل والوقوف في محل الآخر وإبداع البدايات الجديدة. قالت لوكسمبورغ: «أهم شيء على الإطلاق هو أن نكون إنسانًا جيدًا» وقالت آرنت: ««فقط حين نتحدث عن العالم، نؤنسن ما يدور فيه وفي أنفسنا على حد سواء».
وقد نادت لوكسمبورغ المفعمة بالأمل يومًا ما: «الحماسة والوعي الناقد، هما كل ما نحتاجه». ولكن سرعان ما سيتضح أن هذا ليس كافيًا. وستزيل السلطات البولونية مؤخرًا الملصق الجميل الذي كان يزين منزلها في مسقط رأسها، بغية وأد الاهتمام المتجدد في سيرتها وأعمالها.
يجب ألا نسمح بذلك، ونستغل فرصة إحياء ذكراها المئوية لنضيء «الكنز الخفي» في ثورتها، حسب تعبير آرنت، ونتتبع إمكانياته الكامنة. لمَ لا نطبق على سبيل التجرية ذلك النوع من استشارة الشعب الذي يحفز الديمقراطية في مجتمعنا؟ قد يساعدنا ذلك جزئيًا على تجنب ولوج «الأزمنة المظلمة» مجددًا.
روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت قادرتان على منحنا الأمل من خلال قصصهما وتحليلاتهما وأفكارهما، فتضيئان بذلك العصر الذي نعيش فيه وتسبران أغواره. هما صوتان قادمان من الماضي و«كنز التاريخ الذي لم يضِع بعد». سبقتا عصرهما، لأنهما فكرتا وكتبتا من منطلق ريادي على الصعيدين الفكري والسياسي. كتبتا في اللحظة الأبدية التي تعيشها الروح المفكرة والمبدعة، والقادرة على ردم الفجوة بين ماضٍ مضى ومستقبل سيأتي.
روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت قادرتان على إلهامنا، لأن الطاقة الإنسانية والأصيلة النابعة عن تفكيرهما ما زالت قادرة على مفاجأتنا وهزّ مشاعرنا وتحريكنا إلى الأمام.
أمستردام، 21 كانون الثاني، 2019
رسالة2 من السجن كتبتها روزا لوكسمبورغ إلى سونيا ليبكنيخت في كانون الأول 1917
2. تمت ترجمة الرسالة عن الترجمة الهولندية لها، وليس عن النص الألماني مباشرة.
بريسلاو، منتصف كانون الثاني 1917
هذا ثالث عيد ميلاد أقضيه في الحبس، ولكن أرجوكِ لا تفهميني بطريقة مأساوية. أنا مبتهحة وهادئة كعادتي. أستلقي في زنزانتي على فراش قاس ٍكالصخر، ويلفني سكون المقابر الطبيعي. يتراءى للمرء أنه داخل القبر فعلًا. من خلال نافذتي ينعكس ضوء المصباح الخارجي على السقف. وبين الفينة والأخرى أسمع من بعيد قرقعةً خافتة لقطارات عابرة، أو سعال الحارس الداني الذي يمشي بضع خطوات تحت نافذتي ليحرك ساقيه المتيبستين. يتأوه الرمل تحت جزمته الثقيلة صادحًا بيأس الوجود والهجران في الليل القاتم. ها أنا مستلقية بمنتهى السكون والوحدة، ومتلفحة بسواد وشاحات العتمة والملل وفقدان الحرية والشتاء. ومع ذلك ينبض قلبي بعذوبة غير مسبوقة أو مفهومة، كما لو أني أتنزه تحت أشعة الشمس المشرقة في حقل مزهر. أبتسم إلى الحياة من خلال العتمة، كما لو أني مطلعة على سر سحري يكذّب كل الحزن والشر ويقلبهما صفاء وسعادة محضة.
أؤمن أن هذا السر ليس سوى الحياة ذاتها. إن تمعنا جيدًا، سنرى كم هي جميلة تلك العتمة العميقة وكم هي ناعمة كالمخمل. وإن أحسنا الإصغاء، سنطرب لأغنية الحياة القصيرة من خلال آهات الرمال الرطبة تحت وقع أقدام الحارس. في تلك اللحظات أفكر فيكِ، وأتمنى أن أناولكِ ذلك المفتاح السحري، كي تنغمسي دائمًا وتحت أي ظرف في جمال الحياة وبهجتها. لا أقصد توريطك بالزهد أو البهجات الواهمة، كل ما أريده هو منحك فرحي الداخلي، كي أطمئن أنكِ تكابدين الحياة وأنت ملتفحة بمعطف مطرز بالنجوم ويحميكِ من كل السوء والابتذال والضيق. (.....)
آآآه يا سونيا الصغيرة، لقد شهدتُ على حدثٍ بغاية الحزن في باحة السجن الداخلية، حيث أتريض على مدّ الساقين، وحيث تصل عادةً عرباتُ الجيش المكدسة بالمعاطف العسكرية القديمة والقمصان الملوثة بالدماء، لتفرّغ حمولتها هنا ويتم توزيعها على الزنزانات بغرض ترقيعها وشحنها من جديد إلى الجيش. أتتنا مؤخرًا عربةٌ تجرها الجواميس بدلًا من الأحصنة، فرأيت هذه الحيوانات لأول مرة عن قرب. كانت أقوى وأعرض من أبقارنا. ورؤوسها مسطحة وقرونها محنية إلى الخلف، ولشدّ ما ذكرتني جمجمتها السوداء ذات العينين الواسعتين والدافئتين بخِرافنا. أصولها رومانية، فهي غنيمة حرب. وقد أخبر الجنود الذين كانوا يسوقون العربة أن اصطياد هذه الحيوانات البرية يكلف شديد العناء، لأنها متعودة على الحرية، فما بالك بترويضها على جرّ العربات. كم كانت تُضرَب بوحشية، يبدو أن مقولة «الويل للمهزومين!» تنسحبُ عليها أيضًا.
أتت منذ بضعة أيام عربةٌ محملة بالأكياس، وقد تكدست حمولتها إلى درجة لم تستطع الجواميس رفعها فوق عتبة البوابة. كان الجندي المرافق رجلًا خشنًا، فشرع يضرب الحيوانات بسوطه غاضبًا، إلى أن اضطر المراقب أن ينهره متهمًا إياه بعدم الرحمة! فأجابه بابتسامة ساخرة: «ومن يرحمنا نحن البشر؟»، وهوى بسوطه بقسوة أكبر. استجمعت الحيوانات قواها وسحبت العربة فوق العتبة، غير أن أحد الجواميس كان يدمي بغزارة. عزيزتي سونيا، جلد الجاموس ثخين وقاس، إلا أنه تهشم تمامًا.
أثناء تفريغ الحمولة وقفت الحيوانات ساكنة من شدة التعب، أما الجاموس الدامي فقد كان يحدّق أمامه، بوجهه الأسود وعينيه الدافئتين، كطفل بكى حدّ الإعياء. كانت تعبيراته كمن عوقب دون أن يفهم السبب أو كيف يتجنب هذا العنف الخشن والألم.... وقفتُ بمحاذاته بينما راح ينظر إلي. سالت دموعي على دموعه، لا يمكن لواحدتنا أن ترتجف حزنًا على أخيها الحبيب أشدّ مما ارتجفتُ في عجزي حيال هذا العذاب الصامت. كم هي بعيدة مروج رومانيا الخضراء والغضة والحرة! كم هي تائهة وصعبة المنال! وكم يختلف شروق الشمس وهبوب الريح هناك، وكم تختلف زقزقات العصافير ونداء الراعي الرخيم!
وهنا – هذه المدينة الباردة الغريبة، هذه الحظيرة الخانقة، بين التبن المتعفن حدّ القرف والمخلوط بالقش النتن، وهؤلاء البشر الغرباء والفظيعون، وفوقها ضربات العصا والدم النازف من الجرح الطازج. آآه يا جاموسي المسكين، يا أخي الحبيب، كلانا عاجزان ومهزومان، ومتحدان فقط في الحزن والعجز والحنين.
وفي تلك الأثناء انشغل السجناء بتفريغ أكياس العربة الثقيلة وجرّها إلى الداخل، بينما وضع الجندي يديه في جيبه٬ وراح يذرع الباحة الداخلية بخطواته الواسعة ذهابًا وإيابًا وهو يصفر لحنًا هابطًا. وهكذا عبرت الحرب الرائعة أمام عيني من أولها إلى آخرها....
سونيا الغالية، كوني رغم كل شيء هادئة ومبتهجة. هكذا هي الحياة، وما علينا سوى القبول بها بشجاعة وابتسامة، رغم كل شيء.
لا تتأخري بردكِ يا سونيا، قبلاتي، روزا.
الجمهورية.نتالسؤال: هل ثمة جدوى من التطلع إلى مستقبلٍ أفضل؟
خرونينغن- أمستردام 15 كانون الثاني 2017
عزيزتنا يوكه هرمسين،
منذ الاعتصام الأول في جامعة أمستردام1 عام 1996، قام الطلاب بأكثر من عملية احتجاج. ورغم ذلك ما زال التعليم يعاني من ثقافة تكنوقراطية تؤمن أن القياس معرفة. وبعد عدة كوارث مصرفية كنا سنتخلص نهائيًا من ثقافة الاختلاس والعِلاوات في القطاع المالي، غير أن البنوك المركزية في كافة أنحاء العالم ما زالت تضخ المال يوميًا في فقاعة المنظومة النقدية ذاتها. ومع سقوط جدار برلين كنا على وشك أن ننتهي من الحرب الباردة، بل من التاريخ أيضًا، غير أن النزاع في أوكرانيا والحرب التجارية مع الصين أعاداها مرة ثانية.
حتى ولو بدا العالم تكرارًا أبديًا للأشياء ذاتها، وللحروب والظلم والاستغلال والعنف، إلا أن الأمل بالجديد يعود دومًا. هل يحصل هذا ضد قناعتنا؟ هل الإنسان الحالم ساذج إلى حدٍ يُرثى له؟
تلعب القدرة على البدء من جديد دورًا رئيسًا في عملكِ الفلسفي. وتشيرين دائمًا إلى ما سمّته حنة آرنت بـ «الولادة» (Nativity)، وتقتبسين من كتابات إرنست بلوخ (1885-1977) الذي يستخدم مبدأ الأمل ولا يستسلم بسهولة لمسارات التاريخ التراجيدية. «المهم أن نتعلم الأمل من جديد»، هكذا كان يشجعنا دائمًا. لذا طلبنا منكِ أن تحاولي الإجابة على سؤال فيما إذا كان ثمة جدوى من التطلع إلى مستقبل أفضل.
وقد فكرتِ بالموضوع، من دون أن تنسَي القلق الاجتماعي المتزايد، وتوصلتِ إلى أن حنة آرنت وإرنست بلوخ ليسا مرشدَيكِ الوحيدَين إلى بريق الأمل الذي سينير لنا هذا الزمان، بل هناك كذلك حياة المفكرة الثورية روزا لوكسمبورغ (1871-1919) وأعمالها. كما أنكِ وجدت تقاطعات بين لوكسمبورغ وآرنت فيما يخص الأمل والبدايات الجديدة.
يتملكنا الفضول للاطلاع على اكتشافاتكِ ونتشوق لمعرفة جوابكِ.
تحياتنا المفعمة بالأمل،
كون سيمون وفرانك ميستر
الجواب: «روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت بين المدّ والجزر»
«الحماسة والوعي الناقد، هما كل ما نحتاجه»
- روزا لوكسمبورغ، برلين 1918.
«لا يكون العالم إنسانيًا إلا بعد أن يغدو موضوعًا للحديث. فقط حين نتحدث عنه، نؤنسن ما يدور في العالم وفي أنفسنا على حد سواء»
- حنة آرنت، نيويورك 1970.
1
كنت في فرنسا منكبة لأول مرة على أعمال روزا لوكسمبورغ، حينما بات التذمر محسوسًا من حولي. كان جيراني في ريف إقليم بورغونيا غاضبين على حكومة ماكرون، لأنها لم تفعل شيئًا للقرى الفرنسية الفقيرة. لا فرق بين العاملين والعاطلين، فالجميع يشتكي من أن الدخل لا يكفي حتى نهاية الشهر، مع أن الحكومة راحت تغدق كرمها على النخبة الثرية فألغت لهم ضريبة الأملاك. لم يتحقق شيء من الوعود التي قدّمها حزب إلى الأمام أثناء الانتخابات، بل غدت المعيشة أكثر غلاءً ومشقة. «لم نعد نحتمل»، تنهدت جارتي.
من زمان كان معظم السكان يعملون في الحقول، أو يديرون مقهى أو مخبزًا، أو يملكون دكان عطارة كوالدة جارتي. بيد أن هذه الدكاكين والمقاهي أُغلِقت حاليًا، ولم يتبقّ سوى مزارعَين اثنين يفلحان مئات الهكتارات من الأراضي الزراعية. ولا يمكنك التبضع إلا بالسيارة، إذ أن أقرب سوبرماركت يقع على بعد 15 كيلومتر. هذا ما عدا أن السوبر ماركت ذاته ينتمي إلى سلسلة تجارية شرعت تخفّض ثمن القمح والحليب الذي تدفعه للفلاحين، مما يضطرهم لشراء مزيد من الأراضي وقطع الأشجار في الغابات واستخدام سمومٍ لمكافحة الحشرات. والمحصلة هي ندرة الأزهار البرية والطيور، وريف فرنسي أجرد وصامت. فبعد أن كتب فيكتور هوجو وإيميل زولا عن الفقر في القرن التاسع عشر في روايتيهما البؤساء (1862) وبطن باريس (1873)، انتقلت الثيمة ذاتها بعد أكثر من قرن إلى كتّابٍ من قبيل أني إرنو، وإيفس رافي، وديديه إريبون، وجيرار مورديلا، وليلى سليماني، وإدوارد لويز. يبدو أن الرواية الاجتماعية، كما يطلق على هذا النوع الأدبي في فرنسا، عادت فعلًا.
لدينا مثلًا الكاتب الشاب الغاضب إدوارد لويز، ابن الرجل العاجز جراء حادث أصابه أثناء العمل، والذي عزم على محاسبة النخبة السياسية الفرنسية واتهامها بالسيطرة الاجتماعية واحتقار الطبقات الفقيرة من خلال روايته الذين قتلوا والدي (2018). في محاضرةٍ له في أمستردام (تشرين الأول 2018) جادل لويز أن الرأسمالية النيوليبرالية المخلوطة بالنخبوية والتكنوقراطية أدت إلى تشكيل طبقة اجتماعية سفلى لا تملك سبل الحياة الكريمة. وقد تنبأ أن هذا سوف يفضي إلى قلقٍ سياسي كبير، غير أن صحة كلامه ثبتت أسرع مما كان يتصور. فبعد بضعة أسابيع ملأت أولى السترات الصفراء الدوّارات المرورية في فرنسا.
علمتني روزا لوكسمبورغ أن الانتفاضات الشعبية تأتي دائمًا على حين غرة. فمنذ أكثر من مائة عام كانت تطالب بـ «عالم تسود فيه المساواة والعدالة الاجتماعية»، أي أنها كانت تدعو في عصرها إلى التمرد على استبداد نظام حكم القيصر الروسي والقيصر الألماني. فضلًا عن حسٍّ عالٍ بالعدالة، تمتّعت روزا برغبة جامحة بالحرية، إلى درجة جعلتها لا تتقبل أي مرجعية، ولا حتى تعاليم ماركس. كان التفكير المستقل وعدم التبعية بمحاكمة الأمور وحرية التعبير بالنسبة لها أهم من كل البرامج الحزبية: «النقد الذاتي هو روح كل حركة ثورية ونورها الذي يضمن لها الحياة»، هكذا كتبت في مقالتها الطويلة الثورة الروسية (1918).
حنة آرنت هي التي قادتني في ذلك الصيف إلى أعمال روزا لوكسمبورغ. كنت أعيد قراءة كتابها شخصيات من العصور المظلمة (1968) الذي تساءلت فيه «كيف نحرص ألا تغدو الإنسانية وهمًا في الأزمنة المظلمة سياسيًا؟». ولقد بحثتْ عن جواب عند كتّاب من قبيل كارل ياسبرس وولتر بنجامين وروزا لوكسمبورغ: يصبح العالم مظلمًا حين لا يشعر الناس بالمسؤولية الجماعية تجاهه، فلا يهتمون إلا بمصالحهم الشخصية، ويرتابون من الأجواء السياسية إلى درجة تجعلهم يديرون ظهورهم لها. وقد أطلقت حنة آرنت تسمية (worldlessness)أي فقدان الصلة بالعالم على ذلك الانفكاك عن السياسة، والذي برأيها «غالبًا ما يقود إلى شكلٍ من أشكال الهمجية». وسؤالي هو إلى أي مدى نحن مهددون بولوج «أزمنة مظلمة» مجددًا، وبالأخص بعد صعود القومية ورهاب الأجانب، وازدهار الفردانية والرأسمالية، وتضعضع الثقة بالمؤسسات السياسية؟
في مقالتها حول روزا لوكسمبورغ، لا تخفي آرنت إعجابها بالكاتبة والسياسية البولونية التي تحولت مع مرور القرن العشرين إلى أيقونة النضال ضد الظلم. وقد استغربتُ مديحها لها بعد خمسين سنة من وفاتها، وبالأخص لأني كنت أظن أن آرنت، جراء نقدها للماركسية، لن تجد شيئًا يهمها عند لوكسمبورغ، ولكن يبدو أني كنت مخطئة. حتى أنها تصف دراسة لوكسمبورغ حول تراكم الرأسمال بالـ«عبقرية»، وتطري على نزوعها الشديد إلى الحرية السياسية ومناداتها إلى المقاومة اللاعنفية. وقد وصل الأمر أن تساءلت آرنت في نهاية مقالتها فيما إذا كان «التاريخ سيختلف لو نظرنا إليه من خلال عدسة روزا لوكسمبورغ وحياتها».
هذا ما أثار اهتمامي، فبدأتُ أقرأ لوكسمبورغ في نهاية الصيف، بينما راح الشغب في إقليم بورغونيا يتصاعد من حولي. وظهرت أولى الإعلانات المطالبة بتنحي ماكرون على زجاج مواقف الباصات. أعترف أنه لم يسبق لي أن قرأتُ شيئًا للوكسمبورغ، ربما بسبب نفوري من هالة العبادة التي تحيط بشخصها.
وقد أدهشني أني لم أكتشف تقاطعات مع عملي الشخصي فحسب، كالتفاوت الاقتصادي التي تسببت به الرأسمالية، وارتفاع ضغط العمل بسبب مبدأ «الوقت مال»، واغتراب الإنسان عن نفسه والعالم، بل حتى مصطلحات من قبيل العفوية والحرية السياسية و«ديمقراطية المجالس الشعبية» التي تلعب دورًا هامًا في فلسفة حنة آرنت السياسية، كانت تتكرر كثيرًا في أعمال لوكسمبورغ. ورغم أن إحداهما تُرَكِّز على النشاط السياسي والأخرى على النظرية السياسية، إلا أن ما يجمعهما كان أكبر مما تصوّرت. وهذا ما جعل فضولي يجمح. من هي روزا لوكسمبورغ، التي دخلت التاريخ كـ«روزا الحمراء»؟ ولماذا كانت قادرة على إلهام الكثيرين حتى يومنا هذا؟
كانت روزا لوكسمبورغ، المولودة في نهاية القرن التاسع عشر ضمن أسرة يهودية بولونية، متأكدة من أن الثورة الشعبية لا تندلع إلا بشكل عفوي ومن الأسفل، أي ليس بتوجيه النخبة السياسية. تشير العفوية بالنسبة لها ولآرنت إلى الحرية التي بمقدور الناس أن يمتلكوها من أجل البدء بشيء جديد. لأن التمرد العفوي يعبر عن القدرة الإنسانية على قول «لا» أمام الظلم وعدم المساواة. وتكمن شروط هذا التمرد في الوعي الناقد، والاهتمام بأحوال العالم والحماسة. والوسائل المعروفة هي: المظاهرات والإضرابات، وتنظيم الندوات والمناظرات، وكتابة المناشير والمقالات للجرائد. كما أن هنالك وسيلة أخرى لا تقل أهمية برأي لوكسمبورغ، وهي تشكيل النوادي والحركات والروابط التي تسهّل الفعل السياسي المشترك.
ترى لوكسمبورع أن ثمة طرق فعّالة لفرض التغيير من قبيل التوقف عن العمل، والخروج إلى الشارع، ورفع الصوت، والتنظيم السياسي. كان يهمها توعية الطبقات السفلى من المجتمع على وجه الخصوص بقدرتهم على الفعل السياسي، فسافرت في بداية القرن العشرين إلى كافة أرجاء أوروبا من أجل «تحفيز وعيهم بوضعهم الذي لا يُحتمل، وليدركوا أنهم صبروا على أصفاد الرأسمالية طويلًا جدًا»، كما كتبت في إضراب عام (1905). لدى لوكسمبورغ كمفكرة سياسية أجندة تربوية وتحررية واضحة، تُلِّح فيها على أن يحصل الجميع على فرصة التعليم الجيد. وقد كانت مدرّسة محبوبة لدى الطلاب في أحد المعاهد العليا. المعرفة أمر بغاية الأهمية من أجل التحرك بشكل عفوي، والعكس صحيح. وقد عبّرت عن ذلك في إحدى مقولاتها المأثورة: «من لا يتحرك، لا ينتبه للسلاسل المقيّد بها».
كانت هولندا من بين البلدان التي زارتها روزا لوكسمبورع أثناء رحلتها الأوروبية، ذلك أن عدد أنصار الاشتراكية الديمقراطية فيها ارتفع منذ إضراب السكك الحديدية في عام 1903. في هولندا صادقت لوكسمبورغ بعض الشخصيات اليسارية، وتكلمت في أمستردام أمام صالة مكتظة عن ضرورة العدالة الاقتصادية والتكافل العالمي الذي طالما افتقدناه جراء الخصامات البينية. «من يتعرف على روزا في تلك الأيام، ويراها تتمختر في شوارع أمستردام، ويلمح وجهها المسترخي بعد جهد الخطاب، ويسمع صوتها وضحكتها الجذابة والجريئة، سوف يحتفظ بذكرى استثنائية عن كائن ساحر»، هكذا كتبت [صديقتها الشاعرة الهولندية] هنريت رولاند في السيرة التي خطتها عنها (1935). الصورة التي تصلنا من خلال رسائل لوكسمبورغ ومقالاتها والسِيَر التي كتبها نيتل (1966)، وفروهليش (1967)، وهيتمان (1980) عن حياتها هي صورة كاتبة وديعة تتعاطف مع البشرية، وسياسية فطنة وشغوفة تعتبر مكافحة الظلم والفقر أهم مهمة في حياتها.
2
أول شيء قرأته لروزا لوكسمبورغ في ذلك الصيف هو رسائلها، والحق يقال إنها جذبتني مباشرة. إذ فضلًا عن أسلوبها المتألق، فهي تبدي في تلك الرسائل حبًا كبيرًا للأدب والموسيقى والفن – غوته وموزارت وريمبرانت – وتطبّق مرارًا وتكرارًا ما سمّته حنة آرنت لاحقًا (amor mundi)، أي حب العالم والمسؤولية تجاهه. «أشعر أن العالم بأسره بيتي، وكل مكان فيه غيوم وطيور ودموع إنسان»، كتبت من سجنها في رسالة مؤرخة بتاريخ شباط 1916. كانت رسائلها مفعمة بمحبة العالم والطبيعة التي درستها طويلًا – وبخاصة علم النبات والطيور والجيولوجيا – ووصفتها بكل تفاصيلها، حتى عندما كانت في السجن. إنها حسب رأي هنريت هولست «مِن أجمل ما قدمه الأدب العالمي».
«لن أنسى مشهد الرعد هذه الليلة سريعًا»، كتبت في نهاية أيار عام 1917 إلى سونيا، زوجة كارل ليبكنيخت. «هبط الشفق الباهت والمشؤوم على الأرض، وشرع المطر يقرع أوراق الشجر، واشتعل البرق مرة تلو الأخرى بلونه الأورجواني في السماء الرصاصية. ووسط هذا المزاج الشبحي أخذ عندليب يزقزق فجأة بجانب نافذتي. وسط كل هذا المطر والبرق والرعد، بدأ يصدح كالناقوس، ويغني ثملًا ومنتشيًا كما لو أنه يطمح أن يعلو صوته على الرعد، ويضيء الشفق – لم أسمع في حياتي شيئًا أجمل. جمالٌ كاللغز، غير مفهوم، فبدأت أردد لا إراديًا آخر أبيات غوته: آخ، هل كنتَ هنا؟».
من أنبل ما قد يسعى الإنسان إليه هو أن يكون إنسانًا جيدًا ويحب التعرف على العالم والطبيعة، وهذا ليس مدعاة للشتيمة مثلما يحصل في بلدنا أحيانًا. «أهم شيء على الإطلاق هو أن تكون إنسانًا جيدًا، وهذا يعني أن تكون مثابرًا وواضحًا ومشرقًا. نعم، مشرق بالرغم من كل شيء». الرسائل مفعمة بالأمل بشكل لافت، نظرًا للظروف غير السعيدة التي كُتِبت فيها: زنازين باردة حيث سُجِنت لوكسمبورغ مع الآخرين كـ«السمك في علبة» بسبب ملاحظة تهكمية وجهتها للقيصر، أو في المنفردة حيث قضت فترة طويلة أثناء الحرب العالمية الأولى جراء مناداتها برفض الخدمة العسكرية و«عدم رفع السلاح في وجه إخواننا». خلال تلك السنوات الطويلة لم يرافق لوكسمبورغ سوى كتبها، وبضع شتلات وطيور أمام قضبان نافذتها. ومع ذلك لم تيأس قط، وواصلت العمل والكتابة من دون أن تفرِّط بأملها أن أزمنة أفضل ستأتي.
لم تحتفظ بهذا الأمل لنفسها فقط، بل تقاسمته مع أصدقائها خارج السجن. ففي تشرين الثاني 1917 كتبت إلى سونيا: «هل تعرفين، عزيزتي سونيا، أنه كلما استغرقت الأحداث الوحشية والمنحطة التي تجري يوميًا فترة أطول، وكلما تجاوزت حدود المعقول أكثر، أغدو أشد ثباتًا وهدوءًا، كما يفعل المرء تجاه فيضان أو كسوف الشمس، فلا يستخدم معايير أخلاقية، بل يتعامل معها كمعطيات. (...) أحسُّ أن كل هذا الوحل الأخلاقي الذي يغمرنا، وأن مشفى المجانين الكبير الذي نعيش فيه، لا بد أن ينقلب بين ليلة وضحاها إلى العكس، إلى شيء عظيم وبطولي، كما لو أن عصا سحرية قد مسّته. ينبغي علينا التعامل مع الأمور على المستوى الاجتماعي كما نفعل في حياتنا الخاصة: بهدوء وشهامة وابتسامة رقيقة. أظن أن كل شيء سوف يتغير نحو الأفضل بعد انقضاء الحرب...».
من أين جاءت بالأمل كي تكتب هذه الرسائل رغم حبسها الذي أنهى إذاك عامه الثاني، وكي تواصل كفاحها من أجل إيقاف الحرب عبر كتابة المقالات والمناشير وتهريبها من السجن؟ لا بد أن أعترف أن هذه الرسائل زعزعت تصوري عنها كثائرة هائجة تحاول بلا طائل حثّ الناس على النضال. وأوافق حنة آرنت التي كتبت في مقالتها بطلة ثورة التي صدرت في ذي نيويوركر (1966) أن الرسائل «شاعرية وإنسانية بشكل مؤثر» و«تحطم صورة روزا الدموية التي تكونت عنها لاحقًا». حتى أن روزا كانت برأيها «أكثر ثوار عصرها ضد العسكرة»، ولا بد أن آرنت تأثرت برأي زوجها هاينريش بلوخر، المؤرخ الألماني الذي قاتل أيام دراسته في برلين جنبًا إلى جنب مع لوكسمبورغ وليبكنيخت أثناء ثورة سبارتاكوس عام 1917.
في كانون الأول 1917 كتبت لوكسمبورغ إلى سونيا ليبكنيخت: «هذا ثالث عيد ميلاد أقضيه في السجن، ولكن أرجو ألا تفهميني بطريقة مأساوية. أنا مستلقية بمنتهى السكون والوحدة، وملتحفة بسواد وشاحات العتمة والملل ونقص الحرية، ومع ذلك ينبض قلبي بعذوبة غير مسبوقة أو مفهومة، كما لو أني أتنره تحت أشعة الشمس في حقل مزهر. وأبتسم إلى الحياة من خلال العتمة، كما لو أني مطّلِعة على سرٍ سحري يكذّب كل حزن وشر٬ ويقلبهما صفاء وسعادة محضة. أؤمن أن هذا السر ليس سوى الحياة ذاتها. عتمة الليل جميلة وناعمة كالمخمل، فقط لو ننظر جيدًا. في لحظات كهذه أفكر بكِ، وأتمنى لو أناولك هذا المفتاح السحري، كي تنغمسي دومًا وتحت أي ظرف في جمال الحياة وبهجتها. لا أنوي توريطك بالزهد والبهجات الواهمة، كل ما أريده هو منحك فرحي الداخلي، لأطمئن أنك تكابدين الحياة وأنت ملتحفة بمعطف مرصع بالنجوم ويحميك من كل السوء والابتذال والضيق. سونيا، عزيزتي، كوني رغم كل شيء هادئة ومبتهجة. هكذا هي الحياة، وما علينا سوى أن نقبل بها بشجاعة وابتسامة – رغم كل شيء».
لا بد أن الأمل في كلمات روزا المشجعة قد نال إعجاب حنة آرنت. فها هي تختم مقالتها حول روزا لوكسمبورغ بالقول: «عسى أن يكون ثمة أمل بالاعتراف المتأخر بها وبأعمالها، وأن تحصل أخيرًا على المكانة التي تستحقها في العلوم السياسية». يبدو أن الأمل تحقق بعد أكثر من نصف قرن، نظرًا للطبعات الجديدة التي صدرت عن أعمال لوكسمبورغ، وللمؤتمرات العالمية التي عُقِدت في باريس وبرلين ومدريد وسيول وشيكاغو حول الموضوع. كما ازدادت الكتب التي صدرت حول أعمالها، على سبيل المثال نساء في أزمنة مظلمة للكاتبة جاكلين روز (2014)، ومتمردات لسيمون فريلينغ (2018)، والرواية المصوَّرة البارعة روزا الحمراء لكيت إيفانس (2018).
قد تقولون إن الأمل أعمى. ربما، ولكن من دون أمل لن يحدث شيءٌ على الإطلاق. وروزا لوكسمبورغ كانت متأكدة من أن علينا تغيير المسار، وألا نبقى على الطريق نفسه. من لا يأمل، يكون استسلم سلفًا. هكذا ختمتُ مقالتي الطويلة سوداوية القلق (2017). نحتاج الأمل كي نتجاوز الهزائم وخيبات الأمل، ونستوعب خسارتنا وزوالنا. من دون الأمل لا يمكننا أن نؤمن بوعد البدايات الجديدة، ولا بإمكانية التغيير.
لم تكن لوكسمبورغ تفتقد الأمل مثلنا. فقد كانت مقتنعة منذ صغرها أن الرأسمالية نموذج مدمر للبشرية والأرض، بينما نؤمن من جهتنا أن ما من نظام ممكن غيرها. لا فائدة، إذ كيف سنواصل على هذا المنوال؟ وكيف بمقدورنا معالجة المشاكل إن بقينا ننظر إلى العالم بارتياب وتهكم؟ فضلًا عن الاهتمام بالنظر حولنا جيدًا، والكشف عن أخبار العالم بدقة، كي نفرّق بين الحقيقة والأكاذيب، ونصل إلى محاكمات متروية حول العالم، فقد استنتجتُ في مقالتي السابقة أنه يتوجب علينا البحث عن الأفكار والقصص المتفائلة التي سنحتاجها من أجل التحرك. إنها رحلة البحث ذاتها التي أطلق عليها المفكر الألماني إرنست بلوخ تسمية «مبدأ الأمل». ففي كتابه مبدأ الأمل (1955) أوضحَ أنه ما من شيء كالأمل والتوقع يحرّضان الإنسان على عدم قبول الوضع الراهن، وهجر الطرق المعبّدة، والعمل على تطوير أنفسنا والمجتمع في آن. «المهم أن نتعلم الأمل من جديد، لأن الشغف الذي يتولد عن الأمل يجعل الإنسان أوسع بدلًا من أضيق»، كتب بلوخ. الأمل ليس وصفة هائمة، بل ضرورة مُرة من أجل التمرد وعدم السكوت على السياسة الحالية.
كتبت حنة آرنت في شخصيات من العصور المظلمة أنه ينبغي الاحتفاظ بالأمل حتى في «أحلك الأزمنة»، وتوجيهه إلى ما «قد يلقي الضوء» على العصر الذي نحيا فيه. ومن أجل ذلك علينا أن نحفر «في أعماق الماضي»، لا مدفوعين بحنين نحوه، وإنما لنفهم ما يجري الآن بشكل أفضل، ونسمح للجيد والتثقيفي منه أن «يبقى بأشكال وهيئات جديدة». في كتابها حول الثورة كتبت آرنت أنه بوسعنا إضاءة شعلتنا من خلال أعمال المفكرين والشعراء الثوريين الذين سبقونا. ويقول إيدو دي هان في المقدمة: «لا يهمها أن نعيد إنتاج الماضي، بقدر ما تهتم بشحذ قدرتنا على تصوره ومحاكمته، لنكشف عن إمكانيات جديدة وغير متحققة أو متوقعة فيه».
نقّبتُ في العام الماضي عن مصطلحات فلسفية لأتمكن من صياغة ذلك الأمل في مقالة جديدة. حتى أنني ابتكرت عنوانًا لها: «هل يحق لنا أن نأمل؟»، وأعترف أني أردت أن يغلب الشك فيه. ولكن بدلًا من أن أجد مفهومًا معينًا وجدت شخصًا، إنسانًا: روزا لوكسمبورغ التي نذرت فكرها وعملها للأمل بعالم أفضل وأكثر عدلًا.
3
«أكثر الأعمال ثورية مما بوسعنا القيام به هو رفع الصوت للإخبار عما يحصل في هذه اللحظة بالذات»، كتبت روزا لوكسمبورغ. وهذا فعلًا ما كانت تفعله منذ الصغر. ولِدت في 5 آذار 1871 في زاموسك البولونية الروسية، وترعرت في وارسو، حيث كانت استثناءً الفتاة اليهودية الوحيدة التي سُمِح لها بالالتحاق بالثانوية. وما لبثت أن خبِرت هناك أساليب النظام القيصري القاسية التي تمنع التحدث باللغة البولونية في المدرسة، وتعاقب على كل محاولة تمرد. وبما أنها ابنة بولونيين يهود، فقد كانت تُعامل كتلميذة من الدرجة الثانية. ومع أنها تخرجت بأعلى الدرجات من الثانوية، إلا أنها لم تنل الوسام الذهبي «جراء تمردها على السلطة»، ولكن في واقع الأمر بسبب خلفيتها اليهودية. سوف تشحذ هذه الواقعة وعيها الناقد باكرًا.
وانتسبت مذ أن كانت تلميذة في سن الخامسة عشرة إلى الحزب الثوري البولوني الذي يشجب الفقر المدقع للطبقة العاملة البولونية، كما قرأت أعمال كارل ماركس في الفترة نفسها. كانت متأكدة من أن «الصراع الطبقي» الذي تسببت به الرأسمالية بين مجموعة صغيرة من الأثرياء ذوي الامتيازات وبين الغالبية العظمى من العمال الفقراء والجنود والحِرفيين والموظفين، لن ينتهي إلا باستبداله بالاشتراكية الديمقراطية. جهرت روزا بهذا الرأي منذ صغرها، ولم تكن قد تجاوزت الثامنة عشرة حين هربت من بلدها مغطاة بالقش في عربة فلاح. واستخدمت أوراقًا مزورة كي تعبر الحدود إلى مدينة زوريخ التي كانت إذاك ملاذًا للاشتراكيين الروس والبولونيين والألمان. ودرست هناك الفيزياء والفلسفة والاقتصاد والحقوق، كما ختمت دراستها بأعلى درجات الامتياز بكتابة أطروحة دكتوراه بعنوان «النمو الصناعي في بولونيا». وتعرّفت في زوريخ على الاشتراكي الروسي ليو جوغيشس الذي عشقته لفترة وبقي صديقها حتى آخر حياتها.
في 1893 سُمِح لها بتمثيل الحزب البولوني الثوري في مؤتمر الأممية الثانية في زوريخ. وقد حضر ذلك المؤتمر رجل السياسة الهولندي بيتر يليس ترولسترا الذي أعجب جدًا وتأثر بالاشتراكية البولونية روزا لوكسمبورغ ذات الواحد والعشرين ربيعًا. وهكذا تراسل الإثنين لفترة، وللأسف ضاعت رسائلهما مع مرور الزمن. ولكن لحسن الحظ حُفِظت رسائل روزا إلى هنريت رولاند هولست والتي أرفقتها الأخيرة كملحق بالسيرة التي خطتها عن صديقتها. «محبوبتي هنريت»، كتبت لوكسمبورغ في نهاية 1904. «كم جميل أنكِ موجودة. فكلما اسودت روحي وبهُتت جراء فوضى الحياة والحزب على وجه الخصوص، أتذكر أمستردام فيشع النور. تقولين أني أرى هولندا بمنظار وردي، ولكن لماذا لا تتركيني أحتفظ على الأقل بذلك الوهم حيال بعض الأشخاص الجميلين. كم نحتاج إلى ذخيرة من الذكريات الصافية والعبِقة. ننتظر خبر حضوركِ، وها هي لويز تصرّ على أن يأتي هرمان خورتر مع شريكته، وحينها سنكوّن مع بعض «أمستردام صغيرة»، ياللفرحة! ولكن متى؟».
كتبت هنريت هولست بإعجاب عن صديقتها البولونية، غير أنها لم تقدّر نقدها للينين وتروتسكي جيدًا. ومع ذلك رسمتها في سيرتها كـ«أكثر ممثلة للتطرف الاشتراكي الرومانسي عبقريةً وشجاعة». لا بد أن لوكسمبورغ كانت سترفع حاجبيها استغرابًا من كلمة «رومانسي» وتتمتم «واقعي، هذا ما تقصدين!». بيد أن رولاند هولست أضافت أن «داخلها الحقيقي دفء ورحابة إنسانية. ولم تقسُ أبدًا بنقدها على الآخرين كما كانوا هم يفعلون». فقد تلقت لوكسمبورع نقدًا لاذعًا يميل غالبًا إلى معاداة السامية وكره النساء من قبل أعضاء حزبها وغيرهم. على أنها وثقت برؤيتها ومعرفتها وقدراتها البلاغية فاستطاعت أن تثبت مكانتها كيهودية وامرأة تشتغل في السياسة.
بعد زواجٍ وهمي بالاشتراكي الألماني غوستاف لوبيك الذي منحها رخصة إقامة في ألمانيا، انتقلت لوكسمبورغ في عام 1898 إلى برلين حيث لعبت دورًا قياديًا في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني. وصادقت سياسيين مثل كلارا زيتكين وكارل ليبكنيخت، الذين اصطفّا معها في الجناح اليساري للحزب. كما جادلت المعتدلين في الحزب مثل ليونارد بيرنستاين الذي كان متأكدًا أن الإصلاح التدريجي للرأسمالية سوف يحسّن ظروف العمال المعيشية كذلك. بيد أن لوكسمبورغ لم تؤمن بذلك وصبّت نقدها في سلسلة من المقالات سمتها «الإصلاح الاجتماعي أم الثورة؟» (1899). كانت ترى أنه لا بأس من بدء الإصلاحات، غير أنه لن يلغي العقد بين الإمبراطورية الألمانية والرأسمالية. الإصلاحات هي مجرد وسيلة من أجل تحقيق الغاية النهائية: الانقلاب السياسي.
ترى لوكسمبورغ أن لا شيء يمنع الرأسمالية من الاستفحال عالميًا مثلما تفعل «ديمقراطية اللجان» التي سوف تمنح الشعب فرصة إبداء الرأي وصلاحية القرار السياسي من خلال «اللجان الشعبية». لن تُعنى هذه اللجان بتحسين الظروف المعيشية بشكل ملحوظ فقط، بل بتأسيس الاقتصاد على سد احتياجات الجميع بالتساوي أيضًا. وستحل وسائل الإنتاج التعاونية محل الرأسمالية، ويستلم العمال عملية الإنتاج ويشاركون بملكيتها. لا مكان لنموذج مبني على الربح لعدد محدود من الأفراد، بل لاقتصاد يعتمد على الاستثمار الحَذِر والمشترك للبضائع والأراضي الزراعية والقوة العاملة.
كتبت لوكسمبورغ في التأهيل الاجتماعي للمجتمع (1918): «ينبغي ألا يكون هدف الإنتاج إثراء بعض الأفراد، بل تلبية احتياجات المجتمع بأسره». ينبغي أن يكون هدف الاقتصاد «تأمين حياة كريمة وغِذاء كافٍ وفرصٍ ثقافية للجميع». ولأجل ذلك الغرض يتوجب «تأهيل» الصناعات والشركات الكبرى «اجتماعيًا»، وهذا تلطيفٌ لكلمة «مصادرة»، أي سحب الملكية من الإدارة والمساهمين ومنحها لجميع موظفي الشركة «التعاونية».
ألن تفزعي من هكذا اقتراحات لو كنتِ قارئة تعيش في القرن الواحد والعشرين وتحملين إرث الاتحاد السوفييتي في ذاكرتك؟ أنا فزعت فعلاً، ولكن ينبغي ألا ننسى أن لوكسمبورغ كتبت هذا النص قبل أن تنحط الاشتراكية إلى الشمولية بفترة طويلة، وأنها كانت مِن أوائل الذين حذرونا من ذلك الانحطاط. فضلًا عن أنها طمأنتنا أن تلك «المصادرة لا تنطبق أبدًا على الحِرفيين والفلاحين الذين يكسبون مالهم بعرق جبينهم من خلال استثمار ورشة أو قطعة أرض»، بل فقط على «الصناعات الكبرى» حيث أجور العمال لا تتناسب إطلاقًا مع الأرباح. «يحق لكل شخص يقوم بعمل يدوي أو فكري مفيد أن يتلقى سبل العيش من المجتمع، ويحق لغير القادرين على العمل – الأطفال والمرضى وكبار السن – أن يحصلوا على الرعاية والخدمات اللازمة».
كان يهمّها أن يسترد الإنسان كرامته من خلال كسر طوق الفقر وعدم المساواة واسترجاع تحكّمه بحياته وعمله بدلًا من التسليم لقيادة الإدارات. «لقد سُلِبنا كرامتنا الإنسانية، كرامتنا كبشر يعملون»، هذا ما سمعتُه كثيرًا خلال إجازتي الصيفية على الراديوهات الفرنسية، والذي تردد بانتظام على مدى شهور لاحقة. كتبت روزا لوكسمبورغ أن «العمل صار عبءاً وعذابًا للكثيرين»، ولذا توجّبَ «الاهتمام أكثر بصحة العمال الجسدية والأخلاقية وبحماستهم للعمل: تخفيض عدد ساعات العمل، والتنويع في المهام، وتفعيل كل أشكال النقاهة حتى يتمكن الجميع من تنفيذ مهامهم بأخلاق وحسّ بالكرامة والمسؤولية العالية».
وقد أشارت مرارًا وتكرارًا إلى ضرورة الراحة والتطوير الذاتي المستمر. لم يكن كيان الإنسان بالنسبة لها حقيقة مكتملة، كالمنتَج مثلًا حين نفرغ من صنعه، بل صيرورة مستمرة ونمواً. كانت تطمح إلى تحرير كل الناس ليتطوروا باتجاه يناسب طبيعتهم البشرية، بدل أن يغتربوا عن أنفسهم ومواهبهم الكامنة جراء ضغط العمل.
استخدم ماركس مصطلح «الاغتراب» في مخطوطات باريسية (1844)، فاستعارته لوكسمبورغ منه لاحقًا. الإنسان المُختَزل إلى رادار صغير في آلة إنتاج عملاقة لا يغترب عن عمله فحسب، بل عن نفسه والآخرين أيضًا. فالرأسمالية أجبرت العمال على وتيرة عمل صارمة بحيث قلما تمكنوا من تطوير أنفسهم، وجعلتهم يتنافسون فيما بينهم، مما أدى إلى اغترابهم عن طبيعتهم البشرية التي هي في أصلها اجتماعية. تتوقع لوكسمبورغ أن يكون تبديل النموذج الرأسمالي باشتراكية ديمقراطية ترياقًا لذلك الاغتراب، جنبًا إلى جنب مع الفن والموسيقى والأدب والعلم ومعرفة الطبيعة. إذ أن «المغترب والمُهان ليس ذلك الشخص الذي لا يملك قوت يومه فحسب، بل أيضًا من لا يحق له استخدام مواهب الإنسانية العظيمة».
4
انشغلتُ أثناء الصيف بالإطلاع على أعمال روزا لوكسمبورغ، بينما بدأت الانتفاضة الشعبية الفرنسية تزداد زخمًا في الأسابيع الأولى من الخريف. راح الفلاحون يرمون حزم القش على الطرقات ويلوثون دور البلديات بالحليب أو العلف. كنا قد تعودنا على هذه المشاهد في الريف الفرنسي، إلا أنه لم تمض بضعة أيام حتى تم احتلال دوارات المرور في منطقة نيفير من قبل عددٍ لا يحصى من السترات الصفراء. بين ليلة وضحاها لبس سكان المنطقة المحليون بشكل جماعي وعفوي السترات الصفراء التي أُجبِروا قبل عامين على وضعها في سياراتهم. لا بد أن الحكومة الفرنسية تندمت على اتخاذها هكذا إجراء يومًا ما.
بصراحة لم ندرِ كيف نحكم على هذه «الاحتلالات». ففي بادئ الأمر بثّ الإعلام الفرنسي أخبارًا تفيد بأنهم غوغائيون يمينيون وشعبويون، بيد أنه سرعان ما توجب تصحيح هذه الصورة، رغم تلكؤ بعض الجرائد ووسائل الإعلام.
من دون قيادة نقابة أو حزب سياسي بنى الناس متاريس لعرقلة العبور إلى الطرقات الرئيسة والسريعة في جميع أرجاء فرنسا. والتموا في الدوارات المرورية ليتدفؤوا حول نار أضرِمت في براميل زيت كبيرة. وزعوا القهوة والخبز، ومع استمرار العصيان جاؤوا بأشجار عيد الميلاد ليضفوا الأنس على المكان. كان انطباعنا الأول عن الانتفاضة في الريف أنها أشبه بمهرجانات الكعك اللطيفة، فيما طغت الخشونة في ثورة المدن. فقد تحول التمرد في باريس والمدن الأخرى (مثل مارسيليا وبوردو وتولوز) إلى مظاهرات ضخمة أيام السبت، حيث اصطدم مئات من رماة الحجارة مع الشرطة ومجموعات حفظ الأمن الفرنسي الأخرى كـالـ (سي إر إس). ورغم التخريب الذي أصاب الدكاكين والسيارات، بقيت أكثرية الشعب الفرنسي تساند الفعاليات. ومن هنا جاء طرح إدوارد لويز لسؤاله البلاغي في ذي نيويوركر (15-12-2018): «ما قيمة شباك مكسور أو سيارة محروقة أمام عنف الفقر والهيمنة الاجتماعية؟».
وفي تلك الأثناء انضم التلاميذ والطلاب والمعلمين – الأقلام الحمراء! – إلى فعاليات السترات الصفراء العفوية التي طرحت نفسها كحركة تمردية ولم ترتبط بحزب سياسي معين. كان شعارها: «السترات الصفراء ليست ملك أحد، لذلك هي ملك الجميع». وقد اندلعت الانتفاضة إثر سلسلة من الإجراءات لرفع الضرائب، كان آخرها على البنزين، بيد أنها تحولت خلال أسابيع معدودة إلى ثورة شعبية فقدت إيمانها بمؤسسات الجمهورية الخامسة. وراحت تطالب ليس بتنحي الحكومة فحسب، بل برفع الحد الأدنى للأجور، ورفع الضريبة على صناعة الطيران الملوِّثة للبيئة، والعودة إلى نظام ضريبي يفرض حسب الثروة، والمشاركة السياسية عبر الاستفتاءات والمجالس الشعبية.
وقد ضمت السترات الصفراء حركات احتجاجية أخرى من قبيل حركة مقاومة العنصرية، ومجموعات الحدّ من التقشف على التعليم والقطاع العام، وأصدقاء البيئة، فشكلت خليطًا متنوعًا من المتظاهرين الذين عبّروا عن استياء جماعي من الرأسمالية والمسار النيوليبرالي الجديد للحكومة الفرنسية. كنت أشاهد الصور من خلال التلفزيون الفرنسي، وأستمع إلى الراديو الفرنسية، وأقرأ التعليقات في الجرائد الفرنسية، فأتعجب من الانتفاضة التي تبنّت خلال بضعة أسابيع تحليلات روزا لوكسمبورغ الثورية. وكلما توسعت المظاهرات في فرنسا وحمِي وطيس المناظرات التلفزيونية حول سؤال «ماذا أصابنا؟»، تابعت قراءتي لأعمال روزا لوكسمبورغ بحثًا عن الإجابة.
بعد إنهائي للرسائل، بدأتُ بقراءة أهم أعمالها التي كتبتها بين 1896 و1918. كانت كتبها متوفرة في مكتبات الأثريات فقط، ولكن يبدو أن الزمن دار دورته، كما يحصل غالبًا عبر التاريخ، فشرع المستقبل يأتينا، جزئيًا على الأقل، من خلال الماضي.
في كتابها إضراب جماعي الذي صدر عام 1905 أكدت روزا لوكسمبورغ على أن الجماهير نادرًا ما تتحرك عقب نداءات الأحزاب السياسية والمنظمات، بل تشتعل المقاومة «عفويًا» إثر جرح مشاعر العدالة لفترة طويلة. برأيها، ينبغي على التظاهرات والإضرابات والاجتماعات السياسية الأخرى أن تنبع عن همّة الشعب وإرادته، كي تكون تعبيرًا عن الحرية السياسية ويُكتب لها النجاح. فقط ضمن سياق الثورة سيتعلم الناس تنظيم أنفسهم في «مجالس شعبية» وضمن الروابط الاجتماعية الأخرى، وينتسبون بعدئذ إلى الأحزاب والنقابات المتواجدة ضمن شروطه الخاصة.
كتب كات في مقدمته لرسائل لوكسمبورغ: «هذا يعني أن الأمور تجري عكس ما كان رؤساء النقابات يزعمون دائمًا. إذ أن حجم النقابة ليس العامل الحاسم بالنسبة للنشاط، بل النشاط هو العامل الحاسم في نمو النقابة». قد يكون هذا الدرس بمثابة المرهم الشافي للنقابات الحالية التي تشهد تراجعًا مأساويًا في عدد الأعضاء، وللناشطين الذين لا يتلقون الدعم الكافي من النقابات. ومن أهم ما قالته لوكسمبورغ: «ليست مهمة النقابات والسياسيين أن يسيطروا على بداية الانتفاضة، بل على نهاياتها». لا نعرف فيما إذا كانت انتفاضة السترات الصفراء ستكون قادرة على هذا النوع من تنظيم النفس، بيد أن نضالها من أجل العدالة الاجتماعية والاقتصادية ومشاركة المدنيين السياسية لم ينتهِ بعد. إن الاستياء أكبر وأوسع انتشارًا من أن يزول بهذه السرعة.
لا غرابة في ذلك، طالما أن أغلبية الشعب الفرنسي ما زالت تعيش على الحد الأدنى للرواتب أو المعاش الاجتماعي كما أورد مختص الديموغرافية الاجتماعية إيمانويل تود. وفي حال أضفنا إليهم جماعة «الموظفين المَرِنين» المتزايدة، أي ذوي الأعمال الحرة الصغار والمتعاقدين وفق شروط سائلة، سوف تصير احتمالات الحركة أكبر.
كما أشارت مريام ده رايك في مقالة لها (2018) إلى أن «رواتب الموظفين العاديين بالكاد ارتفعت، على عكس أرباح الشركات والمؤسسات المالية». إذ أن «المسار النيوليبرالي» الذي اتخذته هولندا في السنوات الأخيرة قد أضعف مكانة الموظفين وثبّت وضع رؤساء العمل وأصحاب رؤوس الأموال. واستنتجت أن الأزمة الاقتصادية في 2008 بالكاد سببت هبوطًا في أرباح المتعهدين، في حين تدهور حال الموظفين بشكل كبير. وقد تكبّد الشعب والقطاع العام المصاريف اللازمة لإنقاذ البنوك، من بينها مزيد من التقشف على التعليم والرعاية الصحية.
كما اقتبست الكاتبة مقولة المؤرخ الاقتصادي باس فان بافل: «لقد عدنا إلى القرن التاسع عشر، فالسوق هو الوحيد الذي يحدد ثمن الرأسمال والعمل». حيث انتشرت عادة احتكار الشركات، والتوسع بغرض حظر المنافسة، وتخفيض الأجور، وتقليص حقوق الموظفين من خلال فرض العقود المرنة.
5
ولقد سبق أن عالجت روزا لوكسمبورغ موضوع حدود الرأسمالية وتركيز الثروات في كتابها تراكم الرأسمال (1913). برأيها ليس بالضرورة أن تنهزم الرأسمالية في صراعٍ جدلي مع البروليتاريا، كما كان يعتقد ماركس، بل بمقدورها الاستمرار بتوسعها الجغرافي جراء اعتمادها على نموذج اقتصادي للنمو والتمدد، مما سيؤدي إلى حروب تجارية طويلة الأمد، بهدف السيطرة على الأراضي والمواد الخام والقوة العاملة. وسوف تدوم هذه الحروب إلى أن يتم استنزاف العالم بأسره لأغراض رأسمالية وبطريقة مسيئة للبيئة والإنسان.
تقول نظرية ماركس إن الجهد يتحول مع مرور الزمن إلى عملٍ مأجور بالساعة، إذ لا شيء ينتج قيمة إضافية للرأسمالية كما العمل المأجور. ويتم إحراز الربح من خلال الفرق بين الزمن الوسطي الذي يستغرقه العمل وبين الحد الأدنى الضروري للقيام به، بحيث يُجبر الناس على إنجاز أكبر كمية من العمل في أقل وقتٍ ممكن. بيد أن روزا لوكسمبورغ وصفت في كتابها تراكم الرأسمال أن العمل غير المأجور أو شبه المجاني يساهم في أرباح الرأسمالية، وأشارت إذاك إلى العبيد وسكان البلدان المستعمرة، وهذا ما نسميه اليوم بتصدير العمل إلى «بلدان الأجور المنخفضة». أي أنها، باختصار، أضافت حجةً جغرافية إلى تحليل ماركس القائل بأن «الوقت ذهب». لا بل اعتبرت ضرورة التوسع الجغرافي المستمر للمناطق الرأسمالية بغرض الإنتاج الرخيص والسيطرة على السوق الشرائية عمادًا أساسيًا لتلك الديناميكية: «الإمبريالية ليست خيارًا حرًا، بل قانونًا رأسماليًا».
ارتأت لوكسمبورغ أن الرأسمالية سوف تحتاج دائمًا إلى شيء من خارجها كي تضمن نموها ووجودها. وقد ألقت هذه الفكرة، التي اعتبرتها حنة آرنت «عبقرية»، ضوءًا جديدًا على الاستعمار. غير أنه لم يكن بوسع لوكسمبورغ التنبؤ بأن الرأسمالية ستجد «مناطق» جديدة صالحة للاستصلاح في المجال الخصوصي للإنسان عبر بيع بيانات الإنترنت والمعلومات الخاصة مثلًا. فقد دخل غوغل والفيس بوك مجالنا الخصوصي من خلال نوعٍ جديد من الرأسمالية، حسب تعبير مختصة الاقتصاد البريطانية شولانا زوبهوف في دراستها الحديثة عصر رأسمالية المراقبة (2019). قدّموا خدمات الإنترنت مجانًا، ولكنهم راحوا في الوقت نفسه «يراقبون» أدق تفاصيل سلوكنا على النت، ليبيعوها من دون إذن منا لشركات الدعاية والصناعات الأخرى. وقد سمّت الباحثة هذه المرحلة بـ «رأسمالية المراقبة» التي لا تنتهك حقنا بالخصوصية وحقوق أخرى كالطبع والنشر والملكية الفكرية فحسب، بل تمسك من دون أدنى رقابة ديمقراطية زمام السلطة والمعرفة بأوضاعنا، بهدف إثراء الشركات نفسها والمشترين السياسيين والتجاريين. كما تقوّض رأسماليةُ المراقبة دولةَ القانون والديمقراطية، وتطمح إلى التحويل الرقمي الكامل وأتمتة حياتنا، لتضع يدها على كل جوانبها، بما فيها ملفاتنا الطبية وسِيَرنا الذاتية. وفي محاولة لتلخيص كتابها في حوار مع الغارديان (20-01-2019) قالت زوبهوف: «كنا نبحث في غوغل، والآن صار غوغل يبحث فينا».
غلاف كتاب "روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت بين المدّ والجزر"
في ثمانينات القرن الماضي تكلم عدد من العلماء الألمان عن «رأسملة» الحياة الخاصة، حيث أشاروا إلى الإتجار بجسد المرأة و«سوق الإنجاب» الذي يُجبر النساء الضعيفات اقتصاديًا على تأجير أرحامهنّ والتبني. ويمكننا هنا الإشارة إلى «الميادين غير الرأسمالية» التي تمّ ضمها للسوق الحر دون أخذ مصلحة المواطن بعين الاعتبار، كالإتجار بأعضاء الجسم وسلطة صناعة الأدوية وتجارة الرعاية الصحية. إن تفكير السوق موجه تمامًا نحو الكمية والمطابقة وتحقيق الربح على المدى القصير، لذلك يجب نفيه من الفضاء العام.
ما عدا احتلال المناطق غير الرأسمالية، فقد لاحظت لوكسمبورغ ازديادًا في تركيز الرأسمال وكتبت عنه في تأهيل المجتمع (1916): «صارت كل الثروات في يد عدد من الإقطاعيين والرأسماليين الأفراد، هم الذين يقررون أين وكيف يتم الإنتاج، وأين ومتى وكيف تُباع المنتجات. إن هدف الاقتصاد الحالي لا يتجاوز إثراء عدد صغير من البشر». ورغم أن مفرداتها تعرضت للتقادم، إلا أن تحليلها لا زال راهنًا. دعونا ننظر مثلًا إلى العنوان العريض الذي نزل في جريدة هولندية عام 2018: «كبار الأغنياء يشهدون تبخر المليارات جراء هبوط البورصات». وفي نهاية ذلك العام هبطت البورصات فعلًا بمقدار عشرة بالمائة عالميًا، فصرّحت الجريدة «أن أغنى خمسمائة شخص على الكرة الأرضية خسروا مبلغًا يصل مجموعه إلى 415 مليار دولار». يالها من مبالغ خرافية لا تستطيع حتى روزا لوكسمبورغ استيعابها. الفوارق الاقتصادية بين البشر تتفاقم عالميًا، ولا توجد اقتراحات ملموسة لإيقافها.
لذلك نادى الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي أثناء مناظرته مع السترات الصفراء أنه ينبغي «تحويل مسار الرأسمالية الفاحشة!». وقد اشتهر بيكيتي عالميًا بعد صدور كتابه الرأسمال في القرن الواحد والعشرين الذي ذكر فيه أن أكبر مشكلة تواجهنا هي تراكم الرأسمال وتوزيعه غير المتساوي. وفي حال لم تُلجم الرأسماليةُ التوسعية، فإن ذلك لن يؤدي إلى تكثيف أكبر للثروات فحسب، بل إلى قلاقل سياسية وهجرة على نطاق واسع وحروب تجارية كما يحدث حاليًا بين أميركا والصين. فضلًا عن تهديد البيئة والمناخ بشكل خطير من قبل الصناعة التوسعية التي لا ترغب بتحمل المسؤولية. قد يكون فرض ضريبة CO2 صارمة على الصناعة الملوّثة من الحلول المعقولة، كما طرح فان دربلوخ بعد فشل آخر اجتماعٍ حول «منضدة المناخ». حيث غادرت منظمات البيئة قبل الأوان، لأنه أصبح من واجب المواطن أن يدفع «فاتورة المناخ» عوضًا عن الصناعة الملوِّثة. قال فان دربلوخ الذي يقطن خارج هولندا: «لو كنت في هولندا، لخرجتُ أتظاهر»، مع أنه توجد أسباب كافية للاحتجاج في شوارع لندن، مكان سكنه الحالي.
اقترح بيكيتي فرض ضريبة عالمية على الثروات، غير أن حكومة ماكرون فعلت العكس بإلغائها لضريبة الثروات الفرنسية. وقد عبر بيكيتي عن استيائه على التلفزيون الفرنسي في حواره مع السترات الصفراء الذين ما انفكوا يهتفون «نهاية الشهر، نهاية العالم!» لمدة أسابيع في الشوارع. وهكذا ارتبط النضال ضد الظلم الاقتصادي ونفاذ الراتب قبل «نهاية الشهر» بالنضال ضد الاحتباس الحراري، أي «نهاية العالم». بيد أن بيكيتي اعترف أن ضريبة الثروات لن تحل جميع المشاكل، بل علينا أن نوحد صفوفنا ضد الرأسمالية الفاحشة وننظم سياساتنا. مهما كان تقييمنا لانتفاضة السترات الصفراء الفرنسية، إلا أنه لا يمكن إنكار أنهم على الأقل حاولوا فعل ذلك.
6
تعتبر روزا لوكسمبورغ من المفكرين السياسيين الذين استطاعوا عبر دراساتهم ومقالاتهم حول المجتمع والسياسة والاقتصاد أن يزوّدوا الشعب بالمعرفة، فضلًا عن تنبيهها إياهم إلى إمكانية الكفاح الجماعي. لم يكن هدفها الحصول على السلطة داخل الحزب، بل ضمان حرية التعبير عن الرأي للجميع. فبعد نشر كتابها تراكم الرأسمال في عام 1913، بدأت تلك الحرية تتآكل شيئًا فشيئًا جراء الفجوة بين الجناح الأيسر الذي تنتمي إليه روزا وكارل ليبكنيخت وبين بقية أعضاء الحزب. إذ أن الاشتراكيين الديمقراطيين لم يرغبوا بالتفريط بالسلطة السياسية التي حصلوا عليها مؤخرًا، في سبيل انقلابٍ سياسي غير مضمون يطمح إلى تحقيق «ديمقراطية المجالس الشعبية»، بل صاروا حسب قول لوكسمبورغ يميلون أكثر نحو «الامتثال للبرجوازية البرلمانية». بدؤوا ينادون بإصلاحات الخطوة بخطوة التي من المفترض أن تحصر الرأسمالية مع مرور الزمن، غير أن لوكسمبورغ لم تؤمن بذلك. غير أن أكثر ما عكر صلتها مع الحزب هو استعداد الأخير للقتال جنبًا إلى جنب مع القيصر.
في 4 آب 1914 اكتشف كل من لوكسمبورغ وليبكنيخت أن الديمقراطية الاشتراكية لم تفشل بنظرهما فحسب، بل قضت على نفسها كحزبٍ اشتراكي. ففي ذلك اليوم صوّت الحزب لصالح رفع قروض الحرب لجيوش القيصر، مما يعني أنه وافق عمليًا على إعلان الحرب على فرنسا. كان هذا أصعب يومٍ في حياة لوكسمبورغ، حسب ما أكد كتّاب سيرتها لاحقًا. هاهي تكتب بكامل المرارة: «بدل أن يوحد عمال العالم أنفسهم، هجموا ليقطّعوا رقاب بعضهم بعضًا». كما تنبأت أن الأمور ستفضي إلى كارثة لا سابق لها في التاريخ، بسبب التقنية العسكرية وحجم الصراع الذي لن يقضي على الأممية فحسب، بل سيمحي أثر البروليتاريا عن الأرض أيضًا. لذلك كتبت في 1 تشرين الثاني 1914 إلى صديقها هانس ديفنباخ الذي سوف يقتل لاحقًا بقنبلة على الجبهة: «لا أشك أن الحزب والأممية قد تحطما فعلًا، ولكن هذا الويل الذي يتوسع شيئًا فشيئًا سوف يفضي إلى مأساةٍ عالمية».
ولم يخطئ حدسها، فقد تسببت الحرب بسقوط ثماني ملايين ضحية، تسعون بالمائة منهم ينتمون إلى الطبقة العاملة. وكانت قد دعت أثناء مؤتمرٍ في شتوتغارت عام 1907 إلى فعل المستحيل في سبيل تجنب حربٍ كهذه، كما اعتبرتها حربًا رأسمالية بين القوى الإمبريالية بشكل أساسي. برأيها هدف الصراع الأساسي هو السيطرة على الأراضي المستعمَرة وتوسيع السلطة الاقتصادية. ففي منشورٍ شهيرٍ صدر عام 1915 راحت تحلل الحرب التي «لم تبدأ في سراييفو عام 1914، وإنما قبل ذلك بسنوات، جراء طمع الصناعة والجشع المليوني الذي أصاب البنك الألماني الراغب باستثمار مناطق في آسيا وتركيا، فسعى للحصول على الإنذار الأخير الذي أعلنته النمسا على صربيا». حتى حين كانت الحرب في أوجها، واصلت لوكسمبورغ نداءها برمي السلاح، «فمن واجبنا جميعًا أن نعمل على نهاية سريعة لهذه الحرب اللاإنسانية». بيد أنها اتُهِمت بخيانة الوطن، ورُمِيت في السجن لفترة طويلة أثناء الحرب.
وفي عام 1917 أرسلت لوكسمبورغ رسالة من حبسها إلى لويز كاوتسكي: «عندما يوشك العالم على الانهيار، أحاول فقط أن أفهم ماذا ولماذا يحدث ذلك. وحين أقوم بواجبي، أشعر بالارتياح ويتحسن مزاجي. لا أحتمل تسليم نفسي بشكلٍ كامل لبؤس الحدث. تذكري كيف عانى غوته من الحروب المتواصلة التي جعلت العالم أشبه بالعصفورية، وكيف بقي هادئًا وواصل درسه وشِعره بكامل السكينة. كل ما علينا فعله هو أن نتكاتف أكثر كي يعمّ الدفء. أضمكِ إلى قلبي. روزا».
استمر حبس لوكسمبورغ حتى تشرين الثاني 1918. وحالما أطلِق سراحها، انغمست في الثورة الشعبية الألمانية التي اندلعت في تشرين الأول بعد رفض الجنود المتمردين في مدينة كيل تنفيذ الهجمات اليائسة التي أمر بها الإمبراطور وحكومته. وامتدت المقاومة إلى المدن الأخرى حيث انضمت أعداد كبيرة من العمال إلى الإضراب، مما أفضى إلى تنحية الإمبراطور غليوم الثاني وتأسيس الجمهورية الألمانية. غير أن الثقة بالحكومة كانت ضعيفة، فانتشرت الروح الثورية في بقية البلاد المعطوبة بالجوع وويلات الحرب. وأضرب مئات الآلاف من العمال في برلين والمدن الأخرى، ليخرجوا جماعيًا إلى الشوارع مطالبين بمحاسبة حكومة إيبر التي ساقتهم إلى حرب كارثية دامت أربع سنوات.
حالما خرجت لوكسمبورغ من السجن، شرعت تعمل بلا هوادة على توجيه الانتفاضة إلى المسار الصحيح. لم تكن مهمتها سهلة على الإطلاق. وبخلاف أعضاء رابطة سبارتكوس – الجناح الأيسر للحزب الاشتراكي الديمقراطي – فقد شككت لوكسمبورغ بحسن توقيت الانتفاضة التي جاءت بعد فوضى عارمة حدّت من قدرة الشعب على التحمل. وفي تلك الأثناء وقعت اشتباكات دموية بين جماعات ثورية وميليشيات الثورة المضادة المدعومة ماديًا من قبل الحكومة. كما راحت لوكسمبورغ تكتب مقالات يومية لجريدة الراية الحمراء تحضّ فيها على رباطة الجأش، من بينها منشور بعنوان «ماذا تريد رابطة سبارتكوس؟» الذي قالت فيه: «نريد أن نعيد تنظيم المجتمع في جوٍ من السلام». نادت لوكسمبورغ مرارًا وتكرارًا إلى نبذ العنف. وقد نُظّمت في تلك الفترة بعض «اللقاءات» والخطابات في ساحات برلين، حيث كان الشاعر الهولندي هيرمان خورتر أحد الحضور الذين ظنوا حينها أن «الربيع الجديد» قادم على جناح السرعة. حتى هنريت رولاند كانت تنتظر تأشيرتها إلى برلين بفارغ الصبر كي تقف إلى جانب صديقتها. فبعد فشل الثورة في هولندا، وجهت آمالها نحو الثورة الألمانية. غير أنها لم تنجح بذلك، ولم ترَ روزا لوكسمبورغ بعد ذلك.
في الأسابيع القليلة التي سبقت، اندلع تمردٌ بين الجنود، فخشيت الحكومة أن تكون شرارة الثورة الألمانية قد وصلت هولندا. وقد كان خوفهم في محله، ففي 11 تشرين الثاني 1918 نادى أحد رجال السياسة الهولنديين العمالَ أن يقبضوا على زمام السلطة. كان هذا أثناء اجتماع حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي في روتردام. ولم يمضِ يومان حتى وقفت الشخصيات الاشتراكية البارزة تخطب في صالات مكتظة بآلاف المستمعين، من بينهم مئات الجنود. وبما أن الحشد كان متأكدًا من قدوم الثورة، انطلق العمال والبحارة والجنود وبقية المتعاطفين إلى الثكنة العسكرية ليطالبوا الجنود بالانضمام إليهم. على أن قناصة الشرطة العسكرية أطلقت النار على المتظاهرين، مما أدى إلى تفريق المظاهرة وسقوط الضحايا والجرحى. وفي اليوم التالي توجهت جحافل العسكر الموالين للحكومة إلى أمستردام، فامتنع المتظاهرون عن الخروج إلى الشارع وفشلت «الثورة» في هولندا بعد يومها الأول.
أما في ألمانيا فقد استمرت الثورة شهرين. في الأسابيع الأولى من عام 1919 وصلت الفوضى في برلين إلى درجة تهديد حكومة الحزب الاشتراكي الديمقراطي. فقررت الحكومة أن تقمع الثورة بالعنف والدعاية، حتى ولو كان مؤيدو الحزب منضمين إليها. وهكذا ظهرت العناوين العريضة التالية في الجرائد الموالية للحكومة: «سبارتكوس ترتكب الفظائع» و«سبارتكوس هي المسؤولة عن كل شيء». بيد أن لوكسمبورغ وليبكنيخت لم يفقدا الأمل. وبدلًا من أن يهربا من برلين، واصلا كفاحهما بشجاعةٍ لطالما اعتاداها، وحاولا ثني الأمزجة عن العنف في اللقاءات العامة. مجرد إيمانهما بإمكانية ذلك هو دليل كاف على أنهما لم يدركا حقيقة الوضع. ورغم أن لوكسمبورغ لم توافق على محاولة الانقلاب على الحكم، ورغم اختلافها مع ليبكنيخت بهذا الخصوص، إلا أنها لم تتخلى عن ناسها.
في 15 كانون الثاني 1919 ألقي القبض على روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنيخت من قبل الفيلق اليميني المتطرف الموالي للإمبراطور غليوم الثاني الهارب إلى هولندا، وتمّ نقلهما إلى فندق إيدن في برلين. وحسب ما ورد في السيرة التي خطتها هنريت رولاند: «نراها لحظة اعتقالها كما وصفتها السيدة ماركوسون. ثمة هالات تحيط بعينيها بعد ليالٍ من السهر، ويستحوذ الإرهاق بجسدها، غير أن روحها القوية لا ترتعد. ها هي تملأ حقيبتها بأشياء تعتقد أنها سوف تحتاجها: ملابس داخلية ومستحضرات الجسم وكتاب فاوست للكاتب غوته. تودع مضيفتها بهدوء ووداعة وتلحق بالخفر إلى السيارة». ظنت أنه مجرد اعتقال وسوف تذهب إلى السجن.
بعد وصول لوكسمبورغ وليبكنيخت إلى فندق إيدن تمّ التحقيق معهما وتعذيبهما من قبل القوات المدرعة برئاسة فالدمر بابست، ليُنقلا بعد ذلك بسيارتين، كل واحد على حدة. وقد كتبت هنريت رولاند: «حالما غادرت لوكسمبورغ الفندق، ضربها ضابط الصف رونغ بعقب بندقيته على رأسها من الخلف. تكوّمت على الأرض، فحملوها إلى السيارة. أثناء الرحلة ظهرت عليها علامات تشي بأنها ما زالت على قيد الحياة. لا تطلق النار!! هذه آخر كلمة قالتها قبل موتها للرجل الذي صوّب المسدس نحو رأسها، ولكنه قتلها. ورموا جثتها في قناة مائية في برلين، ولم يتم العثور عليها إلا بعد مضي شهور. كما لو أنهم لم يكتفوا بميتة واحدة!». وقد اجتذبت مسيرة إحياء ذكراهما حينها مئات الآلاف من المشاركين. كما أسس ألبرت أينشتاين والفنانة كايت كولفيتس ما يسمى بالرابطة الألمانية لحقوق الإنسان بعد بضعة أيام من انتشار الإشاعات حول جريمة القتل المزدوجة.
وتمّ تنظيم اجتماع تذكاري في أمستردام، حيث عبرت هنريت رولاند عن «حزنها العميق واستيائها الذي لا يوصف. وكم كانت معجبة بمواهب صديقتها المميزة وشجاعتها البطولية». وقد خص الشاعر هيرمان خورتر لوكسمبورغ بأغنية: «لقد رحلتِ/ ولكن من المسؤول؟/ الرأسمال/ وكذلك العمال/ الذين خانوكِ/ رحلتِ يا روزا / ولم يبقَ في جعبتنا سوى الفقدان/ والمساء/ الكون فراغ/ والساحات/ بعد أن اختفى الشعاع».
بالنسبة لحنة آرنت كانت جريمة قتل ناشِطَين اشتراكيَين سِلميَين بمثابة «نقطة تحولٍ بين ألمانيا ما قبل وما بعد الحرب العالمية الأولى». وحسب تقرير الشرطة، فقد تمّ القتل إثر محاولة هرب. غير أنها كانت جريمة قتل بعد سبق إصرار وترصد وبموافقة الوزير التابع للحزب الاشتراكي الديمقراطي غوستاف نوكه. كتبت حنة آرنت: «سوف يصبح القتل عقب محاولة هرب الكذبة النموذجية لتبرير مئات الجرائم بحق الثوار اليساريين، من بينهم ليو جوغيشس وغوستاف لانداور وفالتر راتينو الذين قُتِلوا لاحقًا». وقد صرّح الضابط فالدمير بابست، الذي اعتلى منصبًا رفيعًا إبان حكم النازية، لجريدة دير شبيغل في عام 1962 أنه ما زال يؤمن «أن تصفيتهم مقبولة جدًا من زاوية نظر أخلاقية لاهوتية».
وقد تمّ قمع الثورة الألمانية من قبل الميليشيات اليمينية المتطرفة نفسها التي ساعدت هتلر على تسلّم زمام السلطة بعد بضعة سنين. إذ ترافق انتخابه من قبل حزبه النازي بإطلاق الشعارات ضد السامية وضد الشيوعية ذاتها التي استُخدِمت للقضاء على رابطة سبارتكوس. كان عمر حنة آرنت اثني عشر عامًا حين جابت بها أمها، المعجبة كثيرًا بروزا لوكسمبورغ، شارع كونينغسبرغ قائلة: «انتبهي جيدًا يا حنة، فهذه اللحظة تاريخية!». ففي ذلك الشارع اختار العمال أن يضربوا عن عملهم بشكل جماعي وأن يجتمعوا في المباني التي قصدها السبارتكسيون من برلين ليلقوا خطاباتهم فيها. وقد آمنت والدة حنة أن ألمانيا المدمرة قادرة على النهوض من جديد، وبالأخص بعد هروب الإمبراطور إلى هولندا وانتشار مئات آلاف الثوار الاشتراكيين في الشوارع للمطالبة بتنحي الحكومة. بيد أن الأمور جرت خلاف ذلك.
ترى آرنت أن جريمة قتل لوكسمبورغ وليبكنيخت عبّدت الطريق لهتلر. ها هو يبدأ مشواره على ركام الحرب العالمية الأولى والعنف السياسي الذي توسلته جمهورية فايمر، و«ينتقي أعضاء حملته السياسية من الفيلق نفسه الذي قمع الثورة». وسوف يُدفع ثمن ذلك غاليًا جدًا، إذ أن أكثر مقولة للوكسمبورغ انتشارًا هي عنوان مقالتها حول الاشتراكية الديمقراطية: الاشتراكية أم الهمجية؟ (1916). جميعنا نعلم أن الصراع انتهى لصالح الأخيرة في العقود التي تلت. ويمكننا الإجابة على تساؤل آرنت «فيما إذا كان التاريخ سيختلف في حال نظرنا إليه من خلال عدسة أعمال لوكسمبورغ» بالإيجاب، رغم أنه لا يسعنا سوى تخيل كيف ستكون ألمانيا في حال تحققت اشتراكيتها الديمقراطية.
7
مضى مائة عام على ذكرى مقتل روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنيخت التي أحييناها في عدة أماكن الشهر الماضي [مطلع 2019]. كما بدأ الاهتمام بأعمال حنة آرنت يزداد مع مرور الزمن. ورغم أن حربًا عالمية ونظامَين استبداديين يفصلان الفيلسوفتين تاريخيًا، إلا أنه يحصل كثيرًا أن تُناقش أعمالهما سوية، كما حصل في متمردات (2018) لسيمون فريلينغ. ومع ذلك تبقى بعض الاختلافات، ففيما أكدت لوكسمبورغ على أهمية الانقلاب السياسي جراء افتقارها للمعلومات حول ديكتاتورية النظام الستاليني، اتخذت آرنت موقع المراقب السياسي والفلسفي. بيد أن كفاحهما في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية والحقوق الديمقراطية لا يختلفان.
ارتأت آرنت أنه ينبغي الحذر من الشمولية حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لأنها «شكل من أشكال الحكم القادر على الظهور في كل لحظة وأي مكان» ويعمل على تثبط العفوية الإنسانية والتعددية والحرية السياسية. كما تحاول الإيديولوجيات الشمولية عبر الدعاية والخوف والبيروقراطية صهر تنوع الشعب إلى كتلة مطيعة وأحادية الشكل متوسلة نظريات كبش الفداء والأساطير القومية لذلك الغرض. وتقول آرنت في كتابها الشمولية (1951) أن هذه الأساطير والنظريات قادرة على «إقناع البشر الذين يعيشون في عزلة وخوف من الآخرين عبر استخدام أسلوب عاطفي خطير».
ومن اللافت أنه بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات، راح كثير من المعلّقين السياسيين يوردون الاقتباس ذاته من كتاب الشمولية: «إن مرحلة التوجس التي نعيشها أشبه بحلول الصمت بعد فقدان كل الأمل. ومهما اختلفت الظروف، فإننا نشهد تطور ظواهر متشابهة. لم يسبق أن كان مستقبلنا غائمًا كما هو الآن، أو كنا محكومين بقوى غير موثوق بها وتدوس على قوانين العقل السليم إلى هذه الدرجة». كيف نقي أنفسنا من هذه «القوى غير الموثوق بها»؟ قالت آرنت – ولوكسمبورغ أيضًا – إن علينا الحذر من جميع أشكال الحدّ من حرية التعبير ونشر الدعاية (أو ما نسميه اليوم بالأخبار الكاذبة) التي ستعلن بداية انهيار الديمقراطية، إذ أن «الحكم الشمولي لا يستهدف ذلك النازي أو الشيوعي، بل أولئك الذين لا فرق لديهم بين الواقع والخيال». حين يتمّ الكذب على الناس بشكل متواصل، ستأتي اللحظة التي لن يصدقون فيها أي شيء بعد الآن. «وحين يعجز الناس عن التصديق، لن يتمكنوا من تكوين رأي خاص بهم. حينها لن يحرموا من القدرة على الفعل فقط، بل من القدرة على التفكير والمحاكمة أيضًا، وسيكون بإمكانك فعل ما يحلو لك بهم».
أما لوكسمبورغ فقد كتبت في الثورة الروسية (1918): «لذلك يتصف العالم العام الذي تنقصه الحرية السياسية بالهزالة والتبسيط والعُقر والجفاف، لأنهم بالابتعاد عن مبدأ الديمقراطية سيقطعون صلتهم بينابيع الثراء الروحي والتطور». ومن هنا أتى نقدها الحاد للينين وتروتسكي اللذين راحا يحدّان من حرية التعبير منذ انطلاقة الثورة الروسية في عام 1917، فأدخلا نظام الحزب الواحد بعد حلّ البرلمان من دون الإعلان عن انتخابات جديدة. بالنسبة للوكسمبورغ وآرنت، تُعتبر حرية التعبير والتجمع من القيم الديمقراطية الحصينة التي لا يحق لأي إيديولوجية سياسية أن تستهين بها. «من غير المعقول أن تتحقق سيادة شرائح المجتمع العريضة من دون إعلام حر وناقد، ومن دون حق التجمع وتشكيل الجمعيات».
ترى لوكسمبورغ أن الثورة الروسية فقدت صلتها بالاشتراكية الديمقراطية: «من دون انتخابات عامة وإعلام حر وحرية تعبير، سوف تذوي الحياة في كافة المؤسسات العامة، وتصبح وهمًا يفتقد جميع عناصر الحيوية ما عدا البيروقراطية. وسوف تغط الحياة العامة في سبات عميق، ويستلم عدد قليل من رؤساء الأحزاب القيادة (.....) ستفضي هذه الأوضاع إلى إهمال الحياة العامة وتوحشها على المدى القريب». كما تنبأت بأن الثورة ستنتهي بديكتاتورية بعض القادة، وسرعان ما تتحطم وعود الحرية والمساواة ويعمّ الإرهاب. وقالت:«الحرية لا تعني أن يكون الموالون وأعضاء الحزب أحرارًا، الحرية هي دومًا حرية المخالفين بالرأي».
وقد قدمت آرنت في مقالتها حول لوكسمبورغ ملاحظة واقعية مفادها أن «التاريخ أثبت أنها كانت على صواب». بالنسبة لكليهما لم تكن الحرية شيئًا قابلًا للتلاعب به، بل شرطًا للتغيير السياسي. كما أكدتا على أن الحرية لا تتحقق إلا بالشراكة مع الآخرين، وعندما تحلّ القضية العامة محل المصلحة الشخصية. قد يحصل ذلك في العالم العام أو في المنزل حين ينحو الحديث حول المائدة إلى حب العالم. ولطالما أحبت حنة آرنت أن تقتبس قصيدة رينيه شار التي قال فيها:
ندعو الحرية إلى كل وجباتنا التي نتناولها معًا.
كرسيها خال، غير أن طبقها على المائدة جاهز دومًا.
كانت روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت مفكرتين ضد التيار، لا تخجلان من المواضيع الخلافية أو الصدام مع خط أنصارهم الفكري. إن شحذ الوعي الناقد والحضّ على تشكيل رأي أو محاكمة شخصية للأمور وعرضها على الملأ – شفويًا أو كتابيًا أو فعليًا – يشكلان جزءًا أصيلًا من عمل روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت على حد سواء. فقد كتبت حنة آرنت في الوضع البشري: «بوسع فعلٍ واحدٍ فقط، وأحيانًا كلمة واحدة فقط، أن تغير أي وضع محتمل». وقد كانت معجبة بالنهج الفلسفي الذي اتبعه سقراط، الملقب أحيانًا بذبابة الخيل الإغريقية، لأنه استطاع بآرائه الخلافية والعنيدة أن يثير الآخرين ليصحوا من غفوتهم ويفكروا بأنفسهم.
ويسمى نهج سقراط بالداية. من المغري حقًا أن نعتبر كلًا من لوكسمبورغ وآرنت «داية» الفلسفة السياسية المعاصرة، نظرًا لتوافقهما مع الفيلسوف الإغريقي. فقد أخذتا على عاتقهما مساعدة الآخرين على إنجاب أفكارهم النقدية، إذ لا شيء سوى ذلك سيبشر ببداية جديدة. من ناحيتها كتبت آرنت في الوضع البشري: «حياتنا القصيرة المستعجلة على الموت سوف تفضي لا محالة إلى انحطاط كل شيء إنساني في حال لم ننجح بإيقاف مسيرة الموت والبدء بشيء جديد، أي تكريس القدرة الكامنة في الفعل، كما لو كانت تذكرنا أبدًا أن البشر، حتى ولو أن مآلهم الموت، لم يولدوا ليموتوا، بل ليصنعوا بدايات جديدة».
كما أكدت سيدونيا بلاتر في نصها ضد تدمير المجال السياسي للحرية(2005) أن روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت كانتا تطمحان إلى امتلاك المساحة السياسية للحرية اللازمة للبدء من جديد وإنقاذها من أيادي القوى الاقتصادية المحضة وجعلها مُتاحة للشعب. وزعمت آرنت أن المجتمع الاستهلاكي غير قادر على رعاية العالم، لأن الاستهلاك لا يوفر رعاية مستديمة، بل يعتمد على الاستخدام المباشر كمبدأ أساسي. ويتميز المجتمع الاستهلاكي بالغزارة والتشابه وسوف ينتهي بدمار نهائي للحس المجتمعي، أي المشاركة بتحمل مسؤولية العالم. هذا شكل من أشكال فقدان الصلة بالعالم الذي يؤدي مع مرور الوقت إلى عزلة الإنسان واغترابه واقتلاعه. وبما أن مجتمعنا بات يتميز عبر الاستهلاك أو عدمه، صارت رعايتنا للعالم ومشاركتنا السياسية ضرورية أكثر من أي وقت مضى. لا تنتقد لوكسمبورغ وآرنت الرأسمالية والمجتمع الاستهلاكي فحسب، بل تقدمان اقتراحات ملموسة لدعم مشاركة الشعب السياسية.
8
«قبل اندلاع الثورة، يعتقدون أنها مستحيلة. وبعد اندلاعها، يحسبونها حتمية»، هكذا كتبت روزا لوكسمبورغ. وقد استلهمت فكرة المجالس الاشتراكية الديمقراطية من كومونة باريس (1871) التي تهدف إلى منح كافة الجماعات الاجتماعية صلاحية اتخاذ القرار السياسي والتعبير عن رأيها عبر «مجالس شعبية». وقد حصل في الشهور الماضية أن عقدت الجرائد الفرنسية المقارنة بين انتفاضة السترات الصفراء من جهة وبين الثورة الفرنسية في 1789 وانتفاضة الطلاب في 1968 من جهة أخرى، ولكن لم يتم التطرق إلى الانتفاضة التي اندلعت قبل مائة عام تقريبًا وعُرفت باسم كومونة باريس إلا مرة واحدة فقط. كانت تلك الانتفاضة الجماعية على حكومة نابوليون الثالث نابعة عن رفض الفقر والبطالة والإجراءات الضريبية الظالمة، وقد تمكنت بعد انطلاقة فوضوية من تنظيم نفسها في مجالس أحياء ومجالس شعبية انتسبت إليها النساء والعمال لأول مرة في التاريخ.
وقد نجح الكومينيون خلال تلك الفترة القصيرة بتنفيذ بعض الإصلاحات المهمة، مما جعل حنة آرنت تشبّه تلك المجالس المنتخبة شعبيًا بـ «جوهرة الحكم الذاتي» في كتابها الثورة. كما وصفت روزا لوكسمبورغ هذه الكومونة الباريسية كأول محاولة لإحلال الاشتراكية الديمقراطية التي يستلم فيها الشعب زمام السلطة السياسية. وفي نصها الأخير بعنوان النظام يسود في برلين والذي كتبته بضعة ساعات قبل مقتلها، استذكرت – من دون أن تدري شيئًا عن مصيرها – «الأعمال الوحشية» و«حياة كثير من الضحايا والنساء والأطفال المغلوبين على أمرهم» والتي ستكون ثمن قمع هذه الانتفاضة الشعبية. ألم يقتل جيش نابوليون الثالث ثلاثة آلاف كومينيًا ويسجن أربعين آلفًا آخرين في أيار 1871؟ كتبت لوكسمبورغ نصها الأخير كما لو أنها تتنبأ بما سيصيبها – وكثيرين غيرها – قريبًا.
تتميز الكومونة الباريسية بأنها لم تكن انتفاضة على الجوع والفاقة فحسب، بل من أجل تحقيق الحرية السياسية من خلال المجالس الشعبية أيضًا. ويشكل هذا فارقًا جوهريًا بالنسبة لآرنت التي أكدت في كتابها الثورة على أن الثورات لا تملك فرصة للنجاح إن لم تطالب بالحرية السياسية بالإضافة إلى الانعتاق الاقتصادي. إن لم يترافق المطلبان لن يتغير شيء في النموذج السياسي الذي يُجبر على الفقر، وستنحصر التعديلات في رفع الأجور. قد يكون التحرر من الفقر والاضطهاد شرطًا للحرية فعلًا، بيد أنه لا يؤدي من تلقاء نفسه إلى الحرية السياسية، أي إلى تحقيق شيء جديد كما تشترط آرنت.
وفي الكتاب نفسه تصف آرنت مجالس الحكم الذاتي التي نشأت إبان الثورة الروسية الأولى (1905) والهنغارية (1956) كمظهرٍ سياسي لذلك التجدد. وتتحدث بتفاؤل عنها وتشبهها بـ«الواحات في قلب الصحراء» التي ستُمكّن المواطنين من «المشاركة الفعلية بالحكم». فمشكلة النظام البرلماني هي أنه «قد يُعتبر أوليغارشيًا، فتنحصر الحرية السياسية في امتيازات عددٍ محددٍ من ممثلي الشعب» الذين ستتاح لهم فرصة تكريس أنفسهم لـ«نشاطات من قبيل تقديم المقترحات والنقاش واتخاذ القرار، وهي جميعها تعبيرات إيجابية عن الحرية». ولن يسع المواطنون الآخرون سوى أن يتأملوا حُسن «تمثيلهم» بما يخص رفاههم العام، دون أفعالهم وآرائهم الفردية. والسبب البسيط هو أن وجودهم سينتفي فور الإدلاء بأصواتهم. أحد أهم أسباب الكارثة المؤسساتية الفرنسية هي، كما رأينا، أن السترات الصفراء لا يشعرون أنهم مُمثَّلون بالحد الأدنى.
وكتبت آرنت أننا «قد نميل إلى توسيع إمكانيات المجالس، إلا أنه لا شك في حصافة جيفرسون القائل: باشروا بتأسيسها من أجل غاية معينة، وسوف تكتشفون سريعًا أي غايات أخرى ستخدمها على أكمل وجه». والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ألم يحن الوقت بعد لنشتغل على هذه المهمة فعلًا؟ ها هي السترات الصفراء تطمح إلى امتلاك سلطة سياسية أوسع، فتطالب باعتماد الاستفتاء التشريعي على أساس مبادرة المواطنين. بدل من أن يملأ الجميع اعتباطًا خانةً صغيرةً في ورقة الاستفتاء، بوسعنا توكيل مجالس منتخبة مؤقتًا ومنح أعضائها المواطنين الوقت الكافي للاستعلام والإدلاء بصوت مشترك للمجلس الواحد. لن يرفع هذا من مستوى مشاركة الشعب السياسية فحسب، بل سيعزز الترابط الاجتماعي ويدحض الشعور بفشل التمثيل أو عدم وصول الصوت.
كما ستساعد مجالس المواطنين على كبح لجام القادة اليمينيين المتطرفين، لأن الناس سوف يحصلون على بقعة في هذا العالم، مما سيحدّ من شعورهم بالعجز وعدم الانتماء. حالما يسترد الناس استقلاليتهم ومسؤوليتهم، سوف يزدهر العالم. هذا شكل من الديمقراطية المباشرة التي دعت إليها روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت، والتي نجدها كذلك في مرافعات كتّاب معاصرين، كالكاتب البلجيكي دافيد فان رايبروك. ففي مقالته الطويلة ضد الانتخابات (2014) انتقد فشل الديمقراطية البرلمانية وتراجع ثقة المواطنين بالديمقراطية. كما زعم أننا نعاني من «متلازمة الإرهاق الديمقراطي»، واقترح مداواتها بإنشاء مجالس المواطنين، وهي نموذج أشبه بهيئة التحكيم التي يتم من خلالها اختيار المواطنين عبر القرعة لضمان تمثيلهم لكافة تكوينات الشعب، من دون أن تعترض مصالح انتخابية أو سياسات حزبية عملهم المشترك على القضايا السياسية. وتقدّم آيسلندا أحد الأمثلة المعاصرة عن مجلس المواطنين، حيث تمكن عدد من المواطنين من إعادة صياغة الدستور خلال أربعة أشهر والحصول على استحسان سبعين بالمائة من الشعب. كما سمحت هولندا لبعض البلديات أن تجري تجاربها على مجالس المواطنين المتشكلة عبر القرعة.
شخصيًا كنتُ عضوة لعدة سنوات في أحد مجالس الحي الأمستردامية، حيث ضمّ مجلسنا ما يقارب العشرين من السكان المنتمين إلى خلفيات ثقافية مختلفة. وقد كان هدف المقترح الذي قدمته مرسيدس زاندفايكن تعزيز التلاحم الاجتماعي الذي نحن بأمس الحاجة إليه، لأننا للأسف لا نعيش سوية، بل بجوار بعضنا فقط. تعلمنا الكثير من خلال اجتماعاتنا الملهِمة والتي حققت أهدافها كمجلسٍ للحي متعدد الثقافات. هذا بالإضافة إلى المشاريع التي طورناها في تلك الفترة. تعرفنا أثناء المحادثات التي أجريناها على قصص الآخرين وآرائهم وهمومهم وخلفياتهم، مما مكّننا من تطوير العديد من المبادرات في الحي. كما اجتزنا حدودًا قومية ودينية وثقافية، ولم نطبّق التعددية التي دافعت عنها حنة آرنت واعتبرتها عماد الديمقراطية فحسب، بل مارسنا قدرتنا على التفكير بـ «وعي واسع» أيضًا. لطالما شعرتُ بعد انقضاء اجتماعاتنا برحابة وعيي وروحي على حد سواء.
لقد أشارت الفيلسوفتان إلى أن العالم الثقافوسياسي المتواجد بين الناس ليس عالمًا «إنسانيًا» بطبيعة الحال. فحسب آرنت لا يصبح العالم إنسانيًا إلا بعد أن يغدو موضوعًا للاهتمام والحديث والتفاعل. أما حين ننكفئ عن العالم العام جرّاء إحباطاتنا أو ضيق الوقت أو اللامبالاة، سوف نفقد صلتنا بالعالم وقد ننحو إلى الهمجية. وتذهب روزا لوكسمبورغ إلى أبعد من ذلك، وتحاكم بمنتهى الجذرية ذلك المجتمع الرأسمالي الذي يعتمد برأيها على سوء فهمٍ أساسي مفاده أننا قادرون على إنشاء عالم عادل مبني على التنافس والتباري واستغلال الآخرين والجري وراء الأرباح. غير أن كلتيهما نادتا بالحرية والمشاركة السياسية، إذ لا شيء آخر يضمن المنسوب الديمقراطي في المجتمع. وكما لو كانتا «أنتيجون» عصرية، راحتا تدافعان عن حق المقاومة في حالة عدم تطابق القانون والإدارة السياسية مع صوت الضمير، أي مع حسّ التفريق بين الخير والشر. المعنى الحرفي لاسم «أنتيجون» الإغريقي هو الحركة المضادة: تحتاج الديمقراطية إذن إلى تيارات عكسية كي تحافظ على صحتها وديناميكيتها.
وبالحماسة التي تمتلكها لوكسمبورغ عادة، احتفت آرنت بالمقاومة السياسية في مقالتها عصيان مدني (1970): لا فرق بين المظاهرات والإضرابات ورفض الخدمة وأي شكل آخر. وقد كتبت مقالتها نظرًا لتزايد عدد الأميركيين الرافضين للحرب الفيتنامية أو الامتثال للقوانين العنصرية، كالتفرقة العرقية في المواصلات العامة. حيث فرَّقت بين هذين النوعين الإيجابيين جدًا من العصيان المدني وبين المخالفات «العادية» للقانون. حين يرفض ضميرنا قوانين معينة أو سياسة ما، فمن «واجبنا كمواطنين» أن نفعل شيئًا للتغيير. وهكذا يغدو «العصيان المدني علاجًا هامًا لفشل المؤسسات السياسية». كما أكدت آرنت أن «القضايا السياسية أهم من أن تُترك للسياسيين فقط».
9
عدتُ إلى هولندا، بينما استمرت مظاهرات السترات الصفراء الفرنسية فترة أطول من المتوقع. بعد قرنٍ كاملٍ من رحيل روزا لوكسمبورغ، نجد أنفسنا في خضم انتفاضة فرنسية شعبية عفوية اندلعت منذ شهرين ولا تنوي التوقف. وفي تلك الأثناء قُبِض على قرابة ألفي شخص، من بينهم مئات التلاميذ الذين تمّ احتجازهم وقائيًا. وسقط بعض القتلى وأصيب مئات المتظاهرين بجراح، من بينهم صحافيون فقدوا عينًا أو يدًا جراء الكرات المطاطية المحظور استخدامها ضد المتظاهرين في جميع البلدان الأوروبية إلا عند الشرطة الفرنسية.
حاولت الحكومة الفرنسية تهدئة الانتفاضة من خلال سحب قرار الضريبة على البنزين ورفع الحد الأدنى للأجور، ولكن يبدو أن السترات الصفراء لن يقتنعوا بذلك. كما استمر تأييد الشعب الفرنسي للانتفاضة رغم الضحايا والتخريب في المدن وتعطيل المواصلات لمدة أسابيع، حتى أنه وصل إلى نسبة 65 بالمائة في مطلع كانون الثاني 2019. أما تأييد الخمسمائة وسبعة وسبعين عضوًا في الجمعية الوطنية الفرنسية، فلم يتجاوز الـ 18 بالمائة. ويوضح هذا الفارق أن الانتفاضة الفرنسية نابعة عن خللٍ في التمثيل السياسي، فالسترات الصفراء لا يشعرون أنهم مُمَثّلون من قبل أعضاء حزب إلى الأمام المنحدرين غالبًا من الطبقات العليا، والذين تمكنوا أثناء الانتخابات الأخيرة من محو الحزب الاشتراكي عن الخارطة.
لا أحد يدري كيف ستجري الأمور – أكتب ونحن في منتصف كانون الثاني –، بيد أنه لا مجال لإنكار الكارثة المؤسساتية في فرنسا. بالمناسبة: ليس في فرنسا فقط، فقد رأينا مطلع هذا العام، وبخاصة بعد البريكسيت في إنكلترا وتعطل الحكومة في الولايات المتحدة، أن هذين البلدين يعانيان من أزمة حقيقية. غير أن بقية البلدان الغربية ليست أهدأ بكثير، فالمظاهرات الأسبوعية تعمّ هنغاريا وصربيا، فضلًا عن انطلاق شرارة ثورة التلاميذ ضد الاحتباس الحراري من السويد إلى بلجيكا وألمانيا وسويسرا وهولندا. في فرنسا سيعتمد كل شيء خلال الفترة القادمة على موقف الحكومة والرئيس اللذين تألقا مؤخرًا بالاغتراب عن العالم والغطرسة. ففي خطاب رأس السنة بالكاد استطاع ماكرون حبس غضبه من «حشود الكراهية»، مما ثبّت تهمة «الازدراء» التي طالما نالته. وقد كتبت روزا لوكسمبورغ في 16 شباط 1917 في رسالة إلى ماتيلدا فورم: «لا شيء متغير كنفس الإنسان، فهي تخبئ في طياتها كل الإمكانيات، مثلها مثل البحر الأبدي: السكون القاتل والعاصفة العتية وأسوأ الجبن وأعنف البطولات. الجماهير في تناغم دائم مع ما ينبغي أن تكونه ضمن زمن ووضع ما، وهي دائمًا على تأهب للقفزة الجريئة لتغدو شيئًا مختلفًا تمامًا عما تبدو».
وفي تلك الغضون ستنتشر انتفاضة السترات الصفراء إلى بلدان أخرى، وتصل هولندا بكامل تنوعها السياسي، ولن تنحصر عندئذ على بضعة مئات من المتظاهرين المتطرفين. وكما حصل في فرنسا، سوف تتوحد السترات الصفراء الهولندية مع أقلام المعلمين الحمراء، وسترات المدافعين عن البيئة الزرقاء، وغيرها من الجماعات المعارضة، كحركة مقاومة العنصرية، وكافة الحركات الطلابية، وحركة هولندا على طريق التغيير، وتجمع العلوم الإنسانية، وحركة الفضاء العام الفاعل. وقد نظم قطاع التعليم تظاهرة واسعة في 14 كانون الثاني 2018 في لاهاي، حيث حضرها ما يزيد على ثلاثة آلاف أستاذ جامعي وطالب احتجاجًا على سياسة التقشف. لم يُرِنا وزير التعليم وجهه يومها، ولكنه أعلن في اليوم التالي أن التقشف سيستمر. وجاء الرد بالإعلان عن إضرابٍ عن التدريس في 15 آذار القادم، والذي سيشارك فيه أساتذة من كافة فروع التعليم.
وحتى في هولندا لن تنتهي الاحتجاجات على خير، فحكومتنا تفرض سياستها النيوليبرالية العنيدة منذ عقود، متجنبة بذلك القطاع الخاص وذوي الدخل العالي والشركات متعددة الجنسيات على حساب ذوي الدخل المنخفض والبيئة والمجال العام. ويكتب تشينك فيلينك الذي أعتبره أبعد ما يكون عن بث الفوضى: «نعمل حاليًا على تفريغ قضيتنا العامة من محتواها. ينبغي اتخاذ موقف حاسم، ورفع صوتنا، والدخول في مناظرة عامة!». يبدو أن وزير الدولة متوجس من انهيار النظام الديمقراطي، فطفق ينادي المواطنين إلى الاحتجاج، لأن «الكلمات المفتاحية في الديمقراطية هي المعارضة والقوة المضادة».
السؤال الذي يطرح نفسه هو ماذا تُرانا فاعلين إن خرجنا أخيرًا لنحتل الدوارات المرورية بستراتنا الصفراء أو أي لون آخر، مثبّتين المربع الأحمر على معاطفنا – رمز انتفاضة الطلبة والأساتذة؟ نطمح إلى تغيير مدّ وجزر الزمان، ولكن هذا يعني التدخل لإيقاف مسار حتمي وثنيه في اتجاه بديل. من المعروف أن السياسيين يحبون المثل القائل: «يتوجب علينا قلب المدّ والجزر»، ذلك أن السير على الطريق ذاته غير مجدٍ وقد يؤدي إلى التهلكة. وليسوا كثيرين أبدًا أولئك الذين يدركون أن ذلك يحتاج إلى طاقة عظيمة تكاد تتجاوز القدرة البشرية. قد يبدو الأمر كما لو أننا ننوي تقشير موزة فقط، وليس تغيير المد والجزر اللذين لم يعرفا الراحة أو الهوادة منذ الأمد. هل يدفعنا هذا الجهد المستحيل بالذات نحو التخيل يا تُرى، ألم تملأ كلمات الفيلسوف بلوخ جدرانَ باريس وجسورها وأرصفتها أثناء الانتفاضة الطلابية في عام 1968: «كن واقعيًا، وفكر المستحيل»؟ حيث تميزت تلك الانتفاضة بـ«القدرة على قول لا» في سبيل فتح المجال لـ«حساسية جديدة» تحثّ على التغيير، كما قال بعض المفكرين الفرنسيين من قبيل سيمون فايل وألبرت كامو.
أعتقد أن كثيرين متفقون على ضرورة إيقاف مدّ الأزمة الاقتصادية والسياسية والبيئية، غير أن قلة منهم مستعدون لقلب الموازين السياسية. يريدون الشروع بالعمل مباشرة عبر طرح مقترحات عملية من المفترض تنفيذها ضمن البنية القائمة، ويستغربون مع ذلك أن الروح لم تنضج بعد لتقبّل الانتقال الجذري. لكلّ ثورة جانبها الفجائي، فضلًا عن جانبها المستحيل أو الطوباوي (حرفيًا: بقعة جيدة ولكن ما زالت غير موجودة) الذي يهزّ الروح ويوسعها لتتمكن من المقاومة وقلب الموازين. باختصار، نحتاج إلى قصصٍ وأفكار وأحلام طوباوية لنقدر على الحركة، عسى أن تكون مجالس المواطنين حلمًا طوباويًا يتجاوب مع واقعية ملحة جدًا.
لم تدرك السترات الصفراء في بادئ الأمر أنها على وشك إضرام ثورة شعبية، ناهيك عن تجهيزها أي برنامج لمرحلة لاحقة. لا أحد يعلم الآن فيما إذا كانت التظاهرات كل يوم سبت ستحقق الغرض، فها نحن في هولندا ننتظر النهاية بكل ما لدينا من شكوك. بيد أن السترات الصفراء اسمتلكت حرية الفعل السياسي حقًا، وهذا بحد ذاته من دواعي الأمل. نحن بأمس الحاجة إلى تغيير مسار جذري يجعل الأرض صالحة للعيش ويحافظ على إنسانية العالم. ولكن ينبغي ألا نوجه آمالنا نحو المعركة الفائزة في المستقبل فقط، بل نبحث عن الإلهام في قصص المفكرين السياسيين الذين عاشوا في الماضي، حتى ولو كان الهدف ليس أكثر من تهيئة أنفسنا لقنص اللحظة الكبرى التي تسنح فيها فرصةُ قلب التاريخ.
10
روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت كانتا مدفوعتين بتوقهما نحو الحرية وحبهما ومسؤوليتهما تجاه العالم. إذ كتبت آرنت في 1955 إلى الفيلسوف كارل ياسبرس: «لقد تأخرتُ في عشق العالم. وامتنانًا مني سأسمي كتابي: حب العالم amor mundi». ورغم أنها منحت كتابها عنوانًا آخر لاحقًا، إلا أن «حب العالم» سيتغلغل في معظم أعمالها.
نتفهم أن تحتاج آرنت –الفيلسوفة الشابة الهاربة من النازية في أواخر الثلاثينات – إلى بعض الوقت كي تحب العالم من جديد. ولا شك أنها احتاجت إلى شجاعة كبيرة كي تُرضخ ذلك العالم بالذات لبحثها الناقد والدقيق. من اللافت إذن إصرارها في أعمالها على طرح «حب العالم» كترياق ضد خطر فقدان الصلة بالعالم – وعنف الأنظمة الشمولية الناتجة عن ذلك.
من دون حبٍ أو مسؤولية مشتركة تجاه العالم لا مجال للقضاء على الأنانية amor sui التي تشكل أولوية الرأسمالية. نحن لن نتحرر فقط، بل لن نصبح إنسانًا إن لم نجرؤ على التخلي عن مصالحنا الشخصية والتركيز على العالم السياسي والثقافي الذي يربطنا ببعض. ينبغي ألا نتعلم التساؤل «ما هو الأفضل بالنسبة لي؟» فقط، ولكن أيضًا «ما هو الأفضل من أجل العالم؟». من دون الاهتمام بالعالم، سوف نُسلَب كثيراً مما يحدد أملنا وحريتنا وإنسانيتنا، أي قدرتنا على التكافل والوقوف في محل الآخر وإبداع البدايات الجديدة. قالت لوكسمبورغ: «أهم شيء على الإطلاق هو أن نكون إنسانًا جيدًا» وقالت آرنت: ««فقط حين نتحدث عن العالم، نؤنسن ما يدور فيه وفي أنفسنا على حد سواء».
وقد نادت لوكسمبورغ المفعمة بالأمل يومًا ما: «الحماسة والوعي الناقد، هما كل ما نحتاجه». ولكن سرعان ما سيتضح أن هذا ليس كافيًا. وستزيل السلطات البولونية مؤخرًا الملصق الجميل الذي كان يزين منزلها في مسقط رأسها، بغية وأد الاهتمام المتجدد في سيرتها وأعمالها.
يجب ألا نسمح بذلك، ونستغل فرصة إحياء ذكراها المئوية لنضيء «الكنز الخفي» في ثورتها، حسب تعبير آرنت، ونتتبع إمكانياته الكامنة. لمَ لا نطبق على سبيل التجرية ذلك النوع من استشارة الشعب الذي يحفز الديمقراطية في مجتمعنا؟ قد يساعدنا ذلك جزئيًا على تجنب ولوج «الأزمنة المظلمة» مجددًا.
روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت قادرتان على منحنا الأمل من خلال قصصهما وتحليلاتهما وأفكارهما، فتضيئان بذلك العصر الذي نعيش فيه وتسبران أغواره. هما صوتان قادمان من الماضي و«كنز التاريخ الذي لم يضِع بعد». سبقتا عصرهما، لأنهما فكرتا وكتبتا من منطلق ريادي على الصعيدين الفكري والسياسي. كتبتا في اللحظة الأبدية التي تعيشها الروح المفكرة والمبدعة، والقادرة على ردم الفجوة بين ماضٍ مضى ومستقبل سيأتي.
روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت قادرتان على إلهامنا، لأن الطاقة الإنسانية والأصيلة النابعة عن تفكيرهما ما زالت قادرة على مفاجأتنا وهزّ مشاعرنا وتحريكنا إلى الأمام.
أمستردام، 21 كانون الثاني، 2019
رسالة2 من السجن كتبتها روزا لوكسمبورغ إلى سونيا ليبكنيخت في كانون الأول 1917
بريسلاو، منتصف كانون الثاني 1917
هذا ثالث عيد ميلاد أقضيه في الحبس، ولكن أرجوكِ لا تفهميني بطريقة مأساوية. أنا مبتهحة وهادئة كعادتي. أستلقي في زنزانتي على فراش قاس ٍكالصخر، ويلفني سكون المقابر الطبيعي. يتراءى للمرء أنه داخل القبر فعلًا. من خلال نافذتي ينعكس ضوء المصباح الخارجي على السقف. وبين الفينة والأخرى أسمع من بعيد قرقعةً خافتة لقطارات عابرة، أو سعال الحارس الداني الذي يمشي بضع خطوات تحت نافذتي ليحرك ساقيه المتيبستين. يتأوه الرمل تحت جزمته الثقيلة صادحًا بيأس الوجود والهجران في الليل القاتم. ها أنا مستلقية بمنتهى السكون والوحدة، ومتلفحة بسواد وشاحات العتمة والملل وفقدان الحرية والشتاء. ومع ذلك ينبض قلبي بعذوبة غير مسبوقة أو مفهومة، كما لو أني أتنزه تحت أشعة الشمس المشرقة في حقل مزهر. أبتسم إلى الحياة من خلال العتمة، كما لو أني مطلعة على سر سحري يكذّب كل الحزن والشر ويقلبهما صفاء وسعادة محضة.
أؤمن أن هذا السر ليس سوى الحياة ذاتها. إن تمعنا جيدًا، سنرى كم هي جميلة تلك العتمة العميقة وكم هي ناعمة كالمخمل. وإن أحسنا الإصغاء، سنطرب لأغنية الحياة القصيرة من خلال آهات الرمال الرطبة تحت وقع أقدام الحارس. في تلك اللحظات أفكر فيكِ، وأتمنى أن أناولكِ ذلك المفتاح السحري، كي تنغمسي دائمًا وتحت أي ظرف في جمال الحياة وبهجتها. لا أقصد توريطك بالزهد أو البهجات الواهمة، كل ما أريده هو منحك فرحي الداخلي، كي أطمئن أنكِ تكابدين الحياة وأنت ملتفحة بمعطف مطرز بالنجوم ويحميكِ من كل السوء والابتذال والضيق. (.....)
آآآه يا سونيا الصغيرة، لقد شهدتُ على حدثٍ بغاية الحزن في باحة السجن الداخلية، حيث أتريض على مدّ الساقين، وحيث تصل عادةً عرباتُ الجيش المكدسة بالمعاطف العسكرية القديمة والقمصان الملوثة بالدماء، لتفرّغ حمولتها هنا ويتم توزيعها على الزنزانات بغرض ترقيعها وشحنها من جديد إلى الجيش. أتتنا مؤخرًا عربةٌ تجرها الجواميس بدلًا من الأحصنة، فرأيت هذه الحيوانات لأول مرة عن قرب. كانت أقوى وأعرض من أبقارنا. ورؤوسها مسطحة وقرونها محنية إلى الخلف، ولشدّ ما ذكرتني جمجمتها السوداء ذات العينين الواسعتين والدافئتين بخِرافنا. أصولها رومانية، فهي غنيمة حرب. وقد أخبر الجنود الذين كانوا يسوقون العربة أن اصطياد هذه الحيوانات البرية يكلف شديد العناء، لأنها متعودة على الحرية، فما بالك بترويضها على جرّ العربات. كم كانت تُضرَب بوحشية، يبدو أن مقولة «الويل للمهزومين!» تنسحبُ عليها أيضًا.
أتت منذ بضعة أيام عربةٌ محملة بالأكياس، وقد تكدست حمولتها إلى درجة لم تستطع الجواميس رفعها فوق عتبة البوابة. كان الجندي المرافق رجلًا خشنًا، فشرع يضرب الحيوانات بسوطه غاضبًا، إلى أن اضطر المراقب أن ينهره متهمًا إياه بعدم الرحمة! فأجابه بابتسامة ساخرة: «ومن يرحمنا نحن البشر؟»، وهوى بسوطه بقسوة أكبر. استجمعت الحيوانات قواها وسحبت العربة فوق العتبة، غير أن أحد الجواميس كان يدمي بغزارة. عزيزتي سونيا، جلد الجاموس ثخين وقاس، إلا أنه تهشم تمامًا.
أثناء تفريغ الحمولة وقفت الحيوانات ساكنة من شدة التعب، أما الجاموس الدامي فقد كان يحدّق أمامه، بوجهه الأسود وعينيه الدافئتين، كطفل بكى حدّ الإعياء. كانت تعبيراته كمن عوقب دون أن يفهم السبب أو كيف يتجنب هذا العنف الخشن والألم.... وقفتُ بمحاذاته بينما راح ينظر إلي. سالت دموعي على دموعه، لا يمكن لواحدتنا أن ترتجف حزنًا على أخيها الحبيب أشدّ مما ارتجفتُ في عجزي حيال هذا العذاب الصامت. كم هي بعيدة مروج رومانيا الخضراء والغضة والحرة! كم هي تائهة وصعبة المنال! وكم يختلف شروق الشمس وهبوب الريح هناك، وكم تختلف زقزقات العصافير ونداء الراعي الرخيم!
وهنا – هذه المدينة الباردة الغريبة، هذه الحظيرة الخانقة، بين التبن المتعفن حدّ القرف والمخلوط بالقش النتن، وهؤلاء البشر الغرباء والفظيعون، وفوقها ضربات العصا والدم النازف من الجرح الطازج. آآه يا جاموسي المسكين، يا أخي الحبيب، كلانا عاجزان ومهزومان، ومتحدان فقط في الحزن والعجز والحنين.
وفي تلك الأثناء انشغل السجناء بتفريغ أكياس العربة الثقيلة وجرّها إلى الداخل، بينما وضع الجندي يديه في جيبه٬ وراح يذرع الباحة الداخلية بخطواته الواسعة ذهابًا وإيابًا وهو يصفر لحنًا هابطًا. وهكذا عبرت الحرب الرائعة أمام عيني من أولها إلى آخرها....
سونيا الغالية، كوني رغم كل شيء هادئة ومبتهجة. هكذا هي الحياة، وما علينا سوى القبول بها بشجاعة وابتسامة، رغم كل شيء.
لا تتأخري بردكِ يا سونيا، قبلاتي، روزا.
الجمهورية
ترجمة :رحاب شاكر
إضافة تعليق جديد