تتحطم النظرية عندما يتعلق الأمر بالثقوب السوداء.بقلم: ستيوارت كلارك Stuart Clark وريتشارد ويب Richard Webbترجمة: همام بيطار
تُمثل كلٌّ من نظرية النسبية العامة ونظرية الكم العمودين الأساسيين في الفيزياء الحديثة، فهاتان النظريتان دقيقتان بشكل منقطع النظير في عوالمها الكبيرة جداً وتلك الصغيرة جداً. لكنهما عندما تلتقيان تقدمان أجوبة متناقضة – والمشكلات الأخرى التي تطرحها تلك الأجوبة تعني أنها تُعطي أيضاً صورة بعيدة عن أن تكون كاملة. ولمعرفة المزيد عن أساسيات النظريات، ألقِ نظرة على دليل الواقع: القوانين الأساسية للكوزمولوجيا، ودليل الواقع: القوانين الأساسية لفيزياء الكم.
المسألة 1: المادة المُعتمة
تدور المجرات بسرعة كبيرة جداً بالنسبة إلى ما تحتوي عليه من مادة مرئية.
تدور الأرض حول الشمس بسرعة يُحددها بُعْدَها، وكلٌّ من كتلة الشمس وشدة جاذبيتها، التي تعتبر ثابتا كونيا من ثوابت الطبيعة. أنت لست بحاجة إلى النسبية العامة لمعرفة ذلك، فمدرسة نيوتن القديمة في الجاذبية ستتولى الأمر، ويُطبق القانون نفسه على المجرات البعيدة التي تدور حول مركز كتلتها المُشترك.
لكن، عالم الفلك فريتز زفيكي Fritz Zwicky في ثلاثينات القرن الماضي اكتشف أن الأجزاء الخارجية من عنقود “كوما” المجري Coma galactic cluster كانت تدور بسرعة أكبر بكثير مما تسمح به الكتلة المقدرة لذلك العنقود. وفي سبعينات القرن الماضي، أكدت فيرا روبن Vera Rubin وجود عدم تطابق كبير في مجموعة من المجرات الحلزونية المشابهة لدرب التبانة، وتوقعت أنها يجب أن تحتوي على نحو ستة أجزاء من مادة غير مرئية مقابل كل جزء من مادة مرئية.
ويجب أن تتفاعل هذه المادة المُعتمة جاذبياً (ثقالياً) لتُنتج الحركة، لكن من الصعب جدا أن تتفاعل بالاعتماد على قِوىً أخرى في الطبيعة، إذ لا يُقدم النموذج القياسي (المعياري) Standard model في فيزياء الجسيمات أي جسيم يتناسب مع ذلك، وكل الجهود المبذولة لاكتشاف جسيم المادة المُعتمة الموجود خلف النموذج القياسي، أو لتصنيعه بالاعتماد على التصادمات التي تحدث عند طاقات عالية لم تأتِ بشيء حتى الآن. إذن، لا بد أنّ هناك شيئا ما مفقوداً!
نيوترينوات
هل يُمكن أن تكون النيوترينوات هي المادة المُعتمة؟ ويقول النموذج القياسي في فيزياء الجسيمات إن هذه الجسيمات المراوغة لا تمتلك كتلة، لكن التجارب التي تُجرى حالياً تقول إن لديها كتلة صغيرة – وهو التناقض المباشر والوحيد حتى الآن مع تنبؤات النموذج القياسي. لكن لا يبدو أن تلك الكتلة الزائدة كافية لتفسير المادة المُعتمة ما لم يتم تأكيد وجود أنواع جديدة من النيوترينوات تُعرف بالنيوترينو “العقيم” Sterile Neutrino. ويبدو أن النتائج الأخيرة القادمة من كلٍ من قمر وكالة الفضاء الأوروبية الصناعي بلانك ومن مرصد “آيس كيوب” للنيوترينوات IceCube Neutrino Observatory الموجود في القارة القطبية الجنوبية تستبعد ذلك.
المسألة 2: الطاقة المُعتمة
يزداد تحليق أجزاء الكون مبتعدةً عن بعضها البعض بشكل أسرع وأسرع!
في وقت متأخر من تسعينات القرن الماضي، اكتشف فريقان كانا يدرسان السوبرنوفا (المستعرات الفائقة) Supernovae البعيدة أن تلك الانفجارات النجمية كانت أشد خفوتا من المتوقع، ونص استنتاجهم على أن الفضاء الذي يقطعه ضوؤها للوصول إلينا تمدد بسرعة أكبر من المتوقعة، ولذلك فتلك السوبرنوفا هي أبعد مما افترضناه.
الطاقة المُعتمة Dark energy هو اسم ذلك الشيء الذي يُسبب هذا التوسع المتسارع، وهي تهيمن على الكون وتؤلف ما يقرب من 68 ٪ من كل ما هو موجود وفقاً لأحدث الحسابات. لكن ما هو ذلك الشيء؟ قد تكون طاقة فراغ من النوع الذي يدفع بجسيمات كمومية إلى حيز الفضاء، ومن ثم إلى الخروج منه. وسيكون ذلك بمثابة “البعث” لثابت آينشتاين الكوني Cosmological constant الذي طُرِح في البداية داخل معادلات النسبية العامة، لتجري إزالته بعد ذلك، أو قد يكون ذلك “العنصر الخامس” Quintessence، الذي يُنظر إليه بمثابة القوة الخامسة غير المكتشفة في الطبيعة.
لكلتا من تلك الفرضيتين مشكلاته الخاصة، ومن المحتمل وجود طريق آخر لنسلكه؛ فكونٌ بكثافة مادة متغيرة سيتوسع بمعدلات مختلفة في أماكن مختلفة، ليُنتِج ربما وهمَ التوسع المتسارع. ولذلك إذا ما أسقطنا المبدأ الكوني Cosmological principle، فقد نتمكن حينها من التخلص من الطاقة المُعتمة أيضاً.
الثابت الكوني
عندما وضع آينشتاين نموذج الكون الثابت، أضاف حداًّ إضافياً إلى معادلات النسبية العامة لمواجهة سحب الجاذبية (السحب الثقالي)، ودعا آينشتاين ذلك الثابت الكوني بعد ذلك “بخطئه الأعظم”. فهذا الثابت المُعدَّل لتمثيل الطاقة الكمومية- الميكانيكية في الفضاء الخالي قد يشرح الطاقة المُعتمة، لكن نظرية الكم تزودنا برقم يفوق -وبشكلٍ هائل- ما يحتاج إليه الكون ليتوسع بسرعته الحالية بنحو 10120 مرة؛ ولعلّ ذلك أكبر عدم تطابق عددي مُبهِر في كل الفيزياء.
المسألة 3: التضخم
توسّع أسرع من الضوء يَلد العديد من الأكوان الأخرى.
تجول بنظرك في أنحاء الكون، وستجد مميزتين من الصعب تفسيرهما؛ فالكون شبه “مسطَّح” هندسياً، ولجميع الأجزاء درجة الحرارة نفسها تقريباً. ويحل التضخم الكوني هذه المسائل بضربة واحدة. ففي اللحظات الأولى من عمره، توسع الكون بسرعة أكبر من سرعة الضوء (يُطبق القيد المفروض على سرعة الضوء على الأشياء الموجودة داخل الكون فقط). وقد أدى ذلك إلى تسوية التجاعيد التي كانت موجودة في الحالة الابتدائية الفوضوية للكون، وعنى أنه حتى الأجزاء غير المرئية الآن كانت في يوم ما متلاصقة ببعضها، بحيث أمكنها تبادل الحرارة.
عام 2014، ادعى باحثون أنهم شاهدوا تموجات قادمة من التضخم موجودة في إشعاع الخلفية الكونية الميكروية Cosmic microwave background. لكنه ظهر أنّ ذلك كان خاطئاً، ومازال من غير الواضح ما الذي تسبب في تضخم الكون في مراحله المبكرة. والأسوأ من ذلك هو أنه من الصعب جداً إيقاف التضخم، مما يؤدي إلى ظهور كون متعدد Multiverse يتألّف من مجموعة من الأكوان المنفصلة سببياً والتي تُزهر من بعضها البعض. وربما تتمثل إحدى الطرق للخروج من هذا المأزق بإضعاف ثابت سرعة الضوء. فلو كانت سرعة الضوء أكبر في المراحل الأولى من عمر الكون، فحينها سيسمح ذلك بتفسير مسألة درجة الحرارة. إذن، ربما مازال الضوء يتباطأ الآن، لكن بمعدلٍ لا يُمكن حتى لأدق كواشفنا الحساسة اكتشافه.
المسألة 4: توحيد القوى
نظرياتنا عن الواقع لا تتلاءم مع بعضها البعض!
يشمل النموذج القياسي في فيزياء الجسيمات ثلاث قوىً من قوى الطبيعة، لكنه لا يُوحِّد نظريات القوة الكهروضعيفة والقوة النووية الشديدة بشكلٍ أنيق. وفي الوقت نفسه، تقف الجاذبية Gravity بعيداً لتكون بذلك القوة الوحيدة التي لا يُمكننا وصفها باستخدام نظرية الكم. وأي سعي إلى جعل هذه القوة كموميةً -أي وصفها عبر تبادل جسيمات تُعرف بالغرافيتونات Gravitons، بدلاً من استخدام فضاء النسبية العامة- باء بالفشل جرّاء وجود اللانهايات التي لا يمكن التحكم بها، والتي تقوم في الوقت نفسه بجعل جميع الحسابات بلا معنى.
عندما تتفاعل الجسيمات تحت الذرية (دون الذرية) Subatomic، تكون الجاذبية -بشكلٍ عام- ضعيفة جداً، بحيث يُمكن إهمالها بأمان. لكن في بعض العوالم، يوجد هذان الأمران سويةً، كما هي الحال على سبيل المثال في الثقوب السوداء، أو عند وصف الأصول الصغيرة جداً للكون في حدث الانفجار الكبير Big bang. وسيواجه العلم في غياب نظرية كمية للجاذبية -الخطوة الأولى لـ “نظرية كل شيء” Theory of Everything مُوحدة- حاجزا لا يُمكن اختراقه للوصول إلى التنوير النهائي.
وبالمناسبة، فإنّ أي نظرية للجاذبية الكمومية ستتطلب تحطيم الرابط الموجود بين الكتلة القصور (العطالية) Inertial mass وكتلة الجاذبية (الكتلة الثقالية) Gravitational mass المُجسد في مبدأ التكافؤ، مما يقوض واحداً من الأركان الأساسية للفيزياء الحديثة.
ثقوب سوداء
الثقوب السوداء عبارة عن أجسام فائقة الكثافة تقوم بابتلاع كل شيء يقترب منها، بما في ذلك الضوء. وتأتي هذه الثقوب السوداء في أحجام مختلفة: الثقوب السوداء فائقة الكتلة Supermassive black holes التي تقبع في قلب معظم المجرات، وتتشكل الثقوب السوداء نجمية الكتلة Stellar-mass عندما تنهار النجوم -التي استهلكت وقودها- على نفسها بفعل جاذبيتها. فهذه الثقوب السوداء، التي تنبأت بها النسبية العامة، هي أماكن تكون فيها الجاذبية قويةً إلى درجة لا يُمكن معها بعد الآن إهمالها عند الأحجام الصغيرة لنظرية الكم، ولذلك ليس لدينا اليوم أي فهم لما يحصل عند حافة ثقب أسود، أو داخله.
المسألة 5: ضبط دقيق
لا نستطيع تفسير الأرقام التي تحكم الكون!
النموذج القياسي في فيزياء الجسيمات فعالٌ جداً، لكنه غير مكتمل. فهو -على سبيل المثال- لا يفسر بشكلٍ كامل الشدِّات المختلفة للقوى الكهرومغناطيسية وتلك الضعيفة والشديدة، أو بين تلك الاختلافات الكامنة بين كتل الجسيمات التي تُوجدها. ويجب قياس هذه الكميات تجريبياً ومن ثمّ ربطها بالنظرية، ولو اختلفت قيمة أي منها ولو بمقدارٍ هامشي، لأدّى ذلك إلى ظهور الكون بشكلٍ مختلف جداً عما هو عليه حالياً؛ فمثلاً قيمة كتلة بوزون هيغز هي القيمة الأصغر التي لولاها لأصبحت مادة الكون غير مستقرة.
تستمر مسائل “ضبط دقيق” مشابهة لذلك بالتسبب بالمشكلات في الكوزمولوجيا (علم الكون)، ومنها لماذا تبدو كمية الطاقة المُعتمة والمادة المُعتمة في الكون متوازنة بدقة بما يسمح للمجرات بالتَّشكل؟ لماذا تشكلت ذرة الكربون بدقة كبيرة بحيث تسمح بوجود ما يكفي من الكربون لظهور الحياة في الكون؟ وربما يكون التوازن الأكثر دقة كامن في التساؤل التالي: لماذا بحوزة الكون الكثير من المادة، وليس المادة المضادة؟
المادة المضادة
المادة المضادة موجودة. فقد اكتُشفت هذه المادة التي تنبأ بها باول ديراك Paul Dirac عن غير قصد عام 1928، في الأشعة الكونية بعد ذلك بقليل، ويكمن اللغز في السبب وراء وجود القليل جداً منها -أو في الواقع أي شيء منها على الإطلاق. وينص النموذج القياسي على أن المادة والمادة المضادة لابدّ وأنهما تشكلتا بكميات متساوية أثناء الانفجار الكبير، ومن ثمّ “فنتا” في سحابة ضوء بعد ذلك بوقتٍ قصير. وقد تسبب عدم التوازن الصغير وغير المفسر حالياً بفوز المادة، مما سمح لكوننا المؤلف من النجوم والمجرات بالظهور.
المسألة 6: مسألة القياس
هل نتحكم من دون قصد في كل شيء يحصل؟
تسلط مميزات مثل ثنائية الموجة-الجسيم Wave-particle duality والتشابك بينهما على لغز يقبع في قلب فيزياء الكم. إذ يبدو أن اتخاذنا لقرار قياس الأجسام الكمومية يُغير طبيعتها، ويجبرها على أن “تنهار” وتتبنى حالات محددة. فهل نحن متآمرون يساعدون في تشكيل الواقع؟ وإذا كان ذلك صحيحاً، فبماذا تتسبب عملية قياس جسم كمومي، إن تسببت بأي شيء طبعاً؟
أحد الاقتراحات الجريئة هي فرضية العوالم المتعددة Many worlds، والتي تقول إن الكون ينشطر إلى كون متعدد من الاحتمالات في كل مرة نقيس فيها شيئاً ما، أو ربما يكون الانهيار ميزة عشوائية ومبرمجة مسبقاً في العالم الكمومي، ليكُون من ثم مبدأ مركزيا جداً كما هي الحال مع ثنائية الموجة-الجسيم أو مبدأ الشك Uncertainty. أو ربما كما اعتقد آينشتاين، هنالك شيء جوهري خاطئ في رؤيتنا لنظرية الكم -وفي هذه الحالة سنكون بحاجة إلى مراجعة كل المبادئ الموجودة فيها.
فهنالك حل لكل مسألة، ونحن لا نفتقر إلى وجود الأفكار غير المختبرة التي قد تدفعنا إلى الوصول فهمٍ أعمق.
إضافة تعليق جديد