مضى أربعون عامًا على مسرحية "فيلم أميركي طويل" لزياد الرحباني. وهي جمعت مجريات الحرب التي بدأت في 1975، وفاجأ تفاقمها واشتدادها اللبنانيين. كما نقلت وضعًا سياسيًا نفسيًا (كما جاء في مقدّمتها) زعمت أنه لم يتغيّر على مدى ثلاث سنوات (1978، 79، و80 في شهر تشرين الأول تحديدًا).
وبواسطة نماذج اجتماعية واقعية شكّلتها المستجدات، ظهّرت أيضًا ممارسات نظام - لم يكن رسخ بعد - ترمي إلى تأمين استمراريته من خلال إخضاع الشعب بـ "تعويده" على الصبر لتحمّل الضربات والاقتناع بحاله، وعلى الخوف من الانسلاخ عن الجماعة وإلّا ضاعت الهوية… وإلّا فسيظل "المواطن" في حالة قلق والتباس… وبمعنى أو بآخر، أن يبقى مريضًا معتلًا.
عودة سريعة إلى أحوالنا: في 10 أيلول كانت بيروت على موعد مع حريق كبير ثانٍ في المرفأ، ولم تكن مبالغة في تخيّل الذين كانوا قبالته، أجسادَهم مطوية على أطفالهم، يسدّون آذانهم بأكفّهم، يعدّون الثواني قبل أن تهتز بهم الأرض ويدوّي الانفجار.
وما بدا، في ذلك اليوم، أنه تعلّم الدرس من تجربة مأسوية حدثت قبل أسابيع قليلة - والأمر (أي تعلّم الدرس) نادر في ناحيتنا - أو ما بدا أنه أشبه بتمرين ناجح على النجاة، كان بالفعل استجابة بافلوفيّة بامتياز لإنذار خطر زائف. بتنا، مثلما كنّا، مختلين نفسيًا. وأمسى الشرط البافلوفي الجديد للشعور بالخوف هو "عمود دخان = انفجار نووي"، تقابله معادلة "لا تقرَب عامل التلحيم"، وهي نكتة درجت بعد أن "تبيّن بلا أدلة" (هذا بحد ذاته كوميديا سوداء) أن ذلك العامل تسبب بالانفجار والأهوال التي تلته... ولا يزال تداول نكتة التلحيم مستمرًا مع استمرار اندلاع حرائق وحصول انفجارات بقيت أسبابها مجهولة أو ملتبسة.
والنكتة في لبنان رفيقة المأساة، تارةً تضخّم الأولى عواقب الثانية على النفس البشرية، وطورًا تخفّفها وتميّعها. هكذا قاربَ زياد الرحباني شخصياتنا ونفسياتنا في مسرحيته "فيلم أميركي طويل" (1980) التي دارت أحداثها داخل مصحّة عقلية تقع في الضاحية الجنوبية قرب مطار بيروت. والقرب منه كان بهدف طوي الصفحة على مشهد في المسرحية أثناء هدير الطائرة وهي تمرّ فوقه.
في ذلك العام، بلغت حرب الـ 75 خمس سنوات كانت كفيلة بتمزيق رسالة التعايش "كلنا أخوة إسلام ومسيحيّي"، بفعل مجازر وتطهير طائفي وارتهان علني إلى جهات خارجية شقيقة ومعادية ومعسكرات متناحرة حول الكوكب. وشكّل لنا ذلك صدمات متتالية فتحت جفوننا على وسعها وارتخت معها أشداقنا… وسال لعابنا على "لعبة" الحرب والخوف والقتل والخطف والسرقة، فضلًا عن النضال لنصرة القضايا. ولم ينسَ شطر منّا البحث عن التوازن العقلي بالبقاء على الحياد وتحمّل المهانة والذل… "بيييأمركن يا خيّي"، خصوصًا عند حواجز الفصل أو نهايات المناطق.
وسط تلك الأزمات، قدّم زياد الرحباني رابع مسرحياته "فيلم أميركي طويل"، وفيها ظهر تسعة "مجانين"، على ما كان يوصف به الذين يدخلون المصحات العقلية حتى لو كان للعلاج من الإدمان. عبارة "المريض النفسي" لم تكن دارجةً بعد. وحملت كل شخصية إلى المتفرّجين والمستمعين (عبر الكاسيت) أمراض مجتمعنا المستجدّة.
والحق أن الرحباني لم يستعن بعلوم النفس وعلمائه لكي يعالج عُقَدها. هي شخصيات أفرزتها الحرب، موجودة بكثرة في كل المناطق. غير أن "جنون" كل منها حمل جزءّا من واقع الحال. والمفارقة هي أن تعبير "المجنون" عن مشكلته كان حقيقيًا ومنطقيًا، بينما طرح العاقل (الطبيب وطاقمه) لإعادة المعتلّ إلى حالة "طبيعية" كان يفوق قدرة البشر على تحمّلها. ولعل في هذه المفارقة تكمن مثيرات الضحك لدى جمهور الفُرجة، علمًا أن هذا الأخير كان يضحك على مآسيه وأوجاعه ويسخر منها.
إنها قوة الواقع وعنفه معقودين على براعة مولّف أحداثه الدرامية في تظهير الأمراض المستعصية ثم مداواة أصحابها بالكي (صعقات الكهرباء) لكي يتوهّموا شفاءهم بالكذب على ذواته: "كلنا اخوة... كل عمرنا عايشين مع بعضنا إسلام ومسيحيّي"..."ما عليه، بالحرب بيصير في تجاوزات"... وكأن المطلوب من هؤلاء التسعة العودة إلى بيئاتهم المتقاتلة و"مواجهة الرشاش" بـ "قناعة اصطناعية".
ويمكن القول إن "فيلم أميركي طويل" كانت تصويرًا لعملية ترويض شعب على تقبل أوضاعه مهما تقلّبت وكيفما تغيّرت، وأن عليه أن ينهض من جديد مقتنعًا وراضيًا بواقعه الجديد. والأهم أن يبقى "لبنانيًا فاردًا" يتصرّف بما تملي عليه "إشارات يتلقّاها من الأرض" تحول دون تفاهمه واتفاقه مع أترابه... وإلّا رحل مثل الأرمني زافين "عندو محل هون ومحل هونيك… ستيريو يعني وكتّر خيرِك ألله. بوف محل هون بوف محل هونيك… يخرب بيتِك ألله"... لم يكمل علاجه. ذهب إلى كندا.
أربع مسائل مهمة أخرى طرحتها المسرحية، توقّعت استمرار عملية الترويض في الواقع ما بعد 1980، هي: الهوية والبحث عن الحقيقة والقلق وطول البال. فهوس نزار تجلّى في محاولة كشف كيف انتهى الأمر، بعد كل النضالات، إلى وجود جميع الأطراف المتناحرة داخليًا وخارجيًا في خندق واحد: الحركة الوطنية مع الانعزاليين والرجعية العربية والإمبريالية والتقدّمية العالمية. حاليًا يبدو أن الخندق الواحد يشهد تحولات وانشطارات لكنه لم يخلُ من وجود أطراف متناقضة ومتعارضة.
كشف حقيقة ما يجري بالأدلة الدامغة وتفاصيلها شكّل عقدة عبد الأمير الذي تسرّبت المؤامرة وفرّت من كتابه العتيد ولم يستطع تحذير الجماهير من مغبّتها فبقيت صفحات الكتاب بيضاء. وهي حال الغموض والالتباس التي تكتنف كل ما حصل بعد 1980. حال تفضي إلى تأزّم وتعقيد مثلما تفضي إلى تدوير زوايا.
قلق نزار من المصادفات القاتلة "إذا إجا حدا لهون ورشّنا"... "إذا أنا ماشي حد زلمة وقوّصه حدا ما بيعرف يصيب"... وافتراضات كثيرة على هذا المنوال تحققت، كانفجار 4 آب الأخير العصي حتى على المخيّلة، لكن الحقيقة أن نزارات كثيرة وُلدوا ووُلِدن من بعده.
وأما رشيد الذي ضرب رجُلًا يمشي في الشارع لمجرّد أنه يتمسكن، فطلب منه الطبيب أن يهدأ ويطوّل باله، ليجيبّ بشراسة "ما بقا تقول طوّل بالك. ما بقا يطْوَل أكتر من هيك. ع كتر ما طُوِل صرت عم جرّه وراي". لعل منطق طول البال (ومنح الفرص للسلطة وأركانها) هو ما أخمد ثورة/حراك/غضبة "17 تشرين" وجعلنا نعلّق مشانق من دون رؤوس على رغم كل ما حصل ويحصل.
في فيلم "الثور الهائج" (1980 أيضًا) قدّم مارتن سكورسيزي، السيرة الخوتاء للملاكم الأميركي من أصل إيطالي، جايك لاموتا (مثّل دوره روبرت دينيرو). واستعرض فيه مبارياته الست مع خصمه اللدود شوغر راي روبنسون. وفي الجولة الثالثة عشرة من المباراة الأخيرة، تمسّك لاموتا بالحبل وفتح وجهه أمام قبضتي شوغر راي الذي راح يكيل له لكمات سريعة وموجعة، ما اضطر الحَكَم إلى وقف المباراة وإعلان فوز شوغر راي، على رغم أن لاموتا لم يقع أرضًا. بعد سنوات، علّق لاموتا على تلك الواقعة بالقول: "لو تأخّر الحكم 30 ثانية أخرى لانهار شوغر راي بفعل ضرباته لي".
تاريخنا الذي وصفه زياد الرحباني أيضًا بأنه "ناطر كف من غيمة" (نزل السرور، 1974)، تاريخ هذا الشاطئ المشؤوم، إذا كثّفناه واستعرضنا اللكمات والصفعات التي تلقاها من غيره، منذ عهد الفينيقيين حتى الآن، يصبح كجايك لاموتا خاسرًا، يكابر في أنه لم يقع أرضًا. ولبنان الحديث لا يحتاج أصلًا إلى لكمات لكي يخسر واقًفا أم جالسًا أم مبطوحًا، يكفي فقط فكّ اللحام عن قطع هذا البازْل العاصي، التي رُكّبت منذ قرن، لكي يزول.
زكي محفوض
إضافة تعليق جديد