يتابع المايسترو عبد الحليم كركلا، في الحلقة الثانية من حواره مع «الشرق الأوسط»، الحديث عن تجربته مع مارسيل خليفة منذ كان طالباً في الكونسرفتوار (معهد الموسيقى) وحتى افتراقهما فنياً، وعن أنسي الحاج والحلقات المصوّرة له التي يحفظها في أرشيفه والمسرحية التي كتب نصّها خلال مرضه وسيراها المتفرجون قريباً، وعن الفنان إيلي شويري صاحب القريحة المتقدة، وزكي ناصيف حين صار يكره الرحابنة ويدخل في حالة «ميتامورفوز» وهو يغيّر شخصية الألحان.
كان الفولكلور الشعبي في لبنان مع انطلاق «مهرجانات بعلبك» في الستينات، شاغل الجميع. وفيما كان عبد الحليم كركلا ينهي دراسته في لندن ويعود إلى لبنان، أخذ يتساءل حين يرى الأعمال التي تقدّم: «قد نرقص الدلعونة أول سنة، وثاني سنة، ثم يضجر المتفرج، ويشبع دلعونا ويريد شيئا آخر!». فكّر أن هذا الفولكلور الخام لا يطعم خبزاً في الخارج. «أردت البناء على التراث لكن مع الخروج من الشكل الموسيقي القائم على روفران، كوبليه، وهكذا دواليك وينتهي بكودا. اعتبرت هذه الصيغة حبساً. صرت أبحث عن موهبة تجاريني موسيقياً وتنقلني إلى مكان آخر». هناك من أخبر كركلا عن مارسيل خليفة، وكان لا يزال تلميذاً في الكونسرفتوار، فأرسل في طلبه. قال له: أعطيك أسبوعاً لتكتب لي 10 دقائق موسيقى. عاد مارسيل بموسيقاه في اليوم التالي. ولما أعجبت القطعة كركلا، وأدرك أنه موهبة كبيرة، طلب إليه كتابة أربعين دقيقة لمسرحيته الأولى «اليوم بكرا امبارح».
«كان لي فضل كبير على مارسيل، أنني فتحت له باباً يدخل منه إلى العالمية. لكن أيضاً، له فضل كبير على الفرقة حين وسّع مفردات الموسيقى اللبنانية لتدخل إلى العالمية. بموهبته استطعت أن أسافر بالجسد إلى مكان أبعد. لكن الأمر العظيم الذي قدمته إلى مارسيل أنه كان يأتي إلى بيتي، وابني إيفان لا يزال طفلاً، أجلس معه وأسمعه كل التراث الذي كنت ألملمه من كل مكان. لا مقطوعة تراثية ولا أي لحن وقع بين يدي، إلا وأسمعته إياه. تكوّن لديه كنز من الألحان الشرقية، ومن هنا بدأ إبداع مارسيل خليفة. وكان كلما انتهى من عمل، نقلته إلى آخر بمضمون جديد».
وكرّت سبحة المسرحيات مع مارسيل «غرائب العجائب»، ثم «الخيام السود» التي تدور حول البداوة والعادات الصحراوية. «مع كل عمل كان مارسيل خليفة يكبر موسيقياً. عرفته صغيراً، كبرت ذقنه عندي وشابت عندي قبل أن يصعد إلى المسرح وتصبح له فرقة». كانت «طلقة النور» التي تحكي عن الثورة العربية الكبرى. من بعدها «ترويض الشرسة» لشكسبير، ثم «أصداء» و«الأندلس المجد الضائع»، و«حلم ليلة شرق» لشكسبير أيضاً ومن بعدها «بليلة قمر». كل الجزء الشرقي من المسرحيات يلحنه مارسيل. يوكل إليه ثلاثة أرباع العمل، ويكمل زكي ناصيف الفولكلور ووليد غلمية الموسيقى التعبيرية.
الموسيقى الكلاسيكية فرّقت بين كركلا ومارسيل خليفة
«بعد نحو ثمانية أعمال، كسرنا الطوق وطوّعنا الموسيقى لتصبح لها صيغة مسرحية آتية من الشرق، أرينا من خلالها الغرب رقصنا وعاداتنا ونجحنا. كان ثمة إطراء دائماً للموسيقى. لكننا افترقنا حين حاول مارسيل أن يأخذني إلى مكان كلاسيكي أكثر، ويدخل في الأوركسترا السيمفونية، لأنني لم أقبل أن أتحوّل إلى نسخة عن الآخرين. لا أريد أن أدخل إلى الموسيقى الكلاسيكية. همي دائماً أن آخذ من موروثنا لأقدم إبداعاً عالمياً».
كانت البداية معاً في السبعينات وحصل الفراق عام 2000. من هنا علاقة مارسيل بـ«مهرجانات بعلبك» بدأت باكراً. لكن حفله الخاص في القلعة تأخر حتى هذه السنة 2019. وحضر عبد الحليم كركلا بدعوة شخصية من خليفة حيث خصّه بتحية موسيقية حارة. ويقول كركلا تعليقاً على ما حدث تلك الليلة: «حين لم يعزف مارسيل النشيد الوطني في بداية الحفل، كان انقلاباً من جماهير لبنان ضده. إذ كيف تمسّ بالنشيد الوطني وتلغيه من الزمن الذي نحن فيه ويصبح مكانه نشيد بعلبك! مارسيل أخطأ لكن نحن عندنا حرية تعبير، وعليه أن يتحمل خطأه تجاه من لم يعجبهم، وإن كان عبّر بما فعل، عن غضب آخرين، وهو له تجاه القضايا الوطنية صفائح بيض».
بقي مارسيل خليفة 26 عاماً متربعاً على عرش موسيقى كركلا. «لنا معاً، ريبرتوار تاريخي. في البدايات، كنا نأتي أنا ومارسيل بالطناجر من المطبخ وندق عليها إيقاعات اللحن ويسمعني إياها بصوته. وهذا مؤرشف، والفيديوهات محفوظة عندي».
أنسي الحاج في حلقات مصورة
يوم مرض طلال حيدر واضطر للسفر، وجد كركلا نفسه بحاجة إلى شاعر يكتب له قصائد مسرحياته. كانت معرفته بأنسي الحاج في حدود التقدير المتبادل. لكن خطر له أن يهاتفه من الجزائر، حيث كان يحضّر هناك عملاً للاحتفال بالثورة الجزائرية. تخيّر كركلا كلماته جيداً، وحدثه بطريقة تجعله لا يرفض طلبه. قال لأنسي: «أنت تعرف ما تعنيه لي، لذلك لا تستطيع أن تبقى بعيداً عن كركلا. أريد روح أنسي وقلم أنسي لأحولهما إلى جسد راقص وتعبير جسدي، يجوب العالم ونشوف حالنا فيك. والمضمون الذي سيكتبه قلمك، لن يعود ملكي أو ملكك هذا سيصبح ملكاً للتاريخ». أغرت هذه المقدمة شاعر «لن»، وقال لكركلا: «آتيك لنلتقي سوياً لكن بشرط، في الليل بعد الساعة الحادية عشرة، إذا كنت على استعداد لذلك، فهذا هو وقتي، وما يناسبني». فما كان من كركلا إلا أن وافق.
وهكذا حصل، بعد عودة كركلا إلى بيروت، كان يرسل سائقه عباس عند كل جلسة عمل إلى أنسي الحاج، يأتي به إلى «مسرح الإيفوار». وعباس الذي لا يزال يعمل في المسرح، يضحك ملء قلبه وهو يحدثك عن أنسي «هذا الرجل الطيب، خفيف الظل»، الذي كان يتبادل معه الحكايا الطريفة والنكات. حين ينزل من السيارة يلقي بنفسه إلى الحائط ويكاد يسقط أرضاً من شدة الضحك. يحلو لكركلا أن يعيد تمثيل المشهد وهو يضحك أيضاً مستذكراً تلك اللحظات: «الله يرحمك يا أنسي».
«يصل أنسي إلى المسرح، ولم يبق في آخر الليل غير الصمت في المكان لنبدأ العمل. ممنوع أن يوجد أحد غيرنا». يتابع كركلا: «شخص واحد فقط سمحنا له بالوجود: صبيّة تدعى فاتن مشرف كي تقوم بتصوير الجلسات، وأحياناً يحضر إيفان أو أليسار، أي العائلة الفنية». خلاصة هذا التصوير 60 إلى 70 حلقة مدة كل منها نحو 3 ساعات. «كل شيء مصوّر، كل النقاشات التي كانت تدور بيننا. أنا أسجل كل شيء». يقول كركلا موضحاً: «لأنني أريد أن أعيد الاستماع إلى كل كلمة أقولها وأعاود مناقشته حولها».
حصل انسجام كبير بين الرجلين، وسارا في التفكير باتجاه واحد. في تلك الجلسات اكتشف كل منهما رؤية الآخر للمسرح والأدب والشعر. «لم يبق شيء لم أدخل إليه مع أنسي. كنا كلما عملنا شيئاً تحوّل كلامنا إلى مسرح»، كما قال كركلا.
أنسي يكتب «زايد والحلم»
دخل أنسي بقوة إلى فرقة كركلا حين بدأ التحضير لمسرحية «زايد والحلم». كتب أعمالاً قبلها للفرقة، لكن هذه المسرحية كتبها كلها تقريباً فيما تولى الشاعر جورج جرداق كتابة جزء صغير منها.
لم يضع أنسي اسمه على هذه المسرحية، لكنه في المقابل، وهنا تكمن المفاجأة، كتب مسرحية أخرى كاملة نثراً لا تزال نصوصها في حوزة كركلا هي «ملكة سبأ»، وستكون العمل المقبل الذي سيراه جمهور هذا المسرح الغنائي الراقص، إذ إن كل عناصرها أصبحت شبة جاهزة. «ملكة سبأ» كتبها أنسي في بداية مرضه وكان الأطباء قد طمأنوه إلى أن الشفاء ممكن. لذلك كان يكتب لعمل ينتظر أن يراه على المسرح، لكن للأسف لم يمهله العمر.
يرى كركلا أن أنسي كتب كلاماً رائعاً في «زايد والحلم» يتلاقى مع شخصية الحاكم الإنساني المؤمن الكريم الشعبي والصفات الموجودة فيه وقرّبته من الشعب. «أنسي وصفه بشكل جميل جداً. والأغاني كانت بديعة أيضاً، وقد نلنا عن المسرحية أرفع وسام في الإمارات. كان بالفعل من أنجح الأعمال التي قدمناها. من بعدها ذهبت إلى الجزائر، وهو استمر يعمل مع إيفان، في (كان يا ما كان)». علّق كركلا آمالاً كبيرة على أنسي الحاج وهو الباحث دائماً عن شاعر يفسّر رؤيته بكلمات. كان يخطط لأعمال مستقبلية معه. هو من صنف الكتاب الذين تجدهم «بحاجة لمن يحركهم فنياً ومسرحياً، لأنهم لا يعرفون ما يريده المسرحي. لكن إذا شرحت لهم المضمون يستطيعون تفسيره كتابياً ويسطرونه بلغتهم، بمخيلتهم، بتعبيرهم بصيغهم الأدبية، وتصبح كلماتهم كما لو أنها قانون للبشرية. ليس قليلاً ما كتبه لمسرحية زايد حين قال (الوقت وهم، أسرع من العمر)».
عملا معاً أربع سنوات. عرف خلالها كركلا أنسي الحاج عن كثب، أدرك أن له إيقاعه الخاص، ولا يحب الدخول حيث لا يريد. ولا يريد أن يدخل عليه أحد هو لا يريده أن يكون، أياً كان هذا الشخص. لكن بقلمه كان موجوداً في كل مكان، بأسلوبه، بمخيلته يحاول أن يستفيد من أي لحظة، ومن أي حدث يفتح له أفقاً. «إنه رائع»، يقول عنه كركلا. «أنسي الحاج لا يوصف. اعتبر أنه لا يعاد بنثره، وعنده دائماً فكرة جديدة وأسلوبه الخاص به. ونصه بحاجة للقراءة أكثر من مرة لأنه يكتب دائماً بأبعاد مختلفة».
كانت فترة مرضه قاسية جداً، تأثر نفسياً إلى حد بعيد، قرر أنه لم يعد يريد أن يعيش. «أردت أن آخذه إلى لندن فلم يقبل. كان يقول لي، ولماذا أستمر؟ هل لأستفيق كل يوم وأحلق ذقني؟». أصيب بنوع من الانهيار حين عرف أن الأجل قد اقترب، وما عاد يشعر بجدوى أن يستمر. «أقرّ بموته قبل أن يموت. لهذا ودّع أصدقاءه بالنصوص التي كتبها. كان خسارة كبيرة للبنان وللفنانين، وللأجيال التي حُرمت قراءة أنسي الحاج. كان بمقدوره أن يحملهم بقلمه إلى حيث يجب أن يكونوا. كلمته مؤثرة وقوية، وكانت في المسرحيات موحية لي ومحركة، حين أعمل بفحواها».
زكي ناصيف له عالم من الأعداء
لا يكتمل المشهد من دون زكي ناصيف الذي بقي 18 عاماً يكتب الموسيقى الفولكلورية لمسرحيات كركلا. هو عاشق لبعلبك وأحد مؤسسي مهرجاناتها. في أول مهرجان شارك كل الفنانين المعروفين تقريباً، بينهم الرحابنة وزكي ناصيف وتوفيق الباشا، وغيرهم. في السنة التي تلتها برز الثلاثي الرحباني. «صارت فيروز هي الماسة التي تضيء المهرجان، وتعطي الريع. لأن الحفلة التي فيها فيروز تنفد تذاكرها. من هنا لم يعد من مكان لبعض الآخرين». شعر زكي ناصيف بأنه تُرك وحيداً.
«أصبح العدو اللدود للرحابنة»، يقول كركلا: «وممنوع أن يُذكروا أمامه. ومن يتفوه باسمهم يتحول عدواً له. لهذا وجب التحفظ على هذا الموضوع الحساس عند الحديث معه». هم لم يناصبونه العداء و«كل ما في الأمر، أنهم يجيدون كتابة الكلمة واللحن، ولم يكن لهم حاجة به. زكي ناصيف لم يكن يطيق سماع اسم سعيد عقل أيضاً، لمجرد أنه صديق الرحابنة. وبقيت القطيعة قائمة حتى لحّن زكي قصائد لسعيد، وحُلّت الأزمة. بسبب مزاجه هذا كان عنده عالم من الأعداء».
كتب زكي ناصيف أجمل الأغنيات والدبكات لكركلا، الذي كان يشاهده وهو صغير يتردد على أخيه، مدير قلعة بعلبك حينها، بسبب انتمائهما معاً للحزب القومي. «كان من أشرف الرجال وأطيبهم. يعيش من عمله في الإذاعة ومن أغنياته، لكن مع كركلا كان يعمل بالمجان. لأن همه الوحيد معنا أن يخلق فناً جديداً ويتطور من خلال الأغنيات والموسيقى التي يكتبها للمسرح».
يصفه بأنه «عرّاب الفولكلور اللبناني». شاعر شعبي وموسيقي، حين يكتب الأغنية يزنها على صوته، الذي كان دافئاً وقريباً من القلب، وآتياً من العادات والتقاليد.
«يفرح حين يلحّن قصائد سعيد عقل وإن كان لا يعترف بذلك صراحة. يجلس ويستمع إليه وهو يلقي ثم يذهب ويلحن ويعود ويقول لي: اقعد واسمع».
أي لحن شعبي يعطى لزكي ناصيف هو قادر على هضمه وإخراجه بصيغة أخرى تشبه شخصيته. أعطاه ذات مرة كركلا أغنية بدوية تقول كلماتها «دقيت على باب إلينا، قالولي فلّيت، يا مين يقول لصويح اللي مر من هنا». حين عرضها على زكي ناصيف اعترض كالعادة، وقال إنها لا تصلح للرقص. لكنه وكما يفعل دائماً، عاد في اليوم التالي مبتهجاً ليُسمع كركلا ما ركّب من كلمات على اللحن، فإذا بها تصبح: «هلي يا دار اللينا بديارنا هلي، ما دام هالعمر اللينا قصير ومولي». يقول كركلا معلقاً: «لم أصدق كيف غيّر ملامح الأغنية وحولها».
يعطي كركلا زكي ناصيف لحن أغنية تونسية مثل «الله الله يا بابا سيدي منصور يا بابا» بإيقاعها ونغمها ويطلب إليه أن يكتب أغنية على موسيقاها فيأتي له بأغنية «يا رايتنا المرفوعة هلّي عالريح…..». هكذا يغيّر زكي ناصيف المعالم الموسيقية للأغنية، ويكتب شعراً يتناسب والعمل الجديد. اللحن يأتي دائماً من الفولكلور العربي لكن تعاد صياغته.
قضى كركلا حياته جوالاً يصطاد من التراث العربي أجمله. «نعم، أنا كركلا الاصطياد. اصطياد الألحان، واصطياد الفساتين والقصائد. أغنى ما في الحياة تراث الشعب، وهذا يحتاج فناناً يأخذه ويصنعه، وهذا ما فعلت. آخذ من كل العرب. كل العرب مدرستي».
حين بدأ ناصيف يكتب لكركلا، لم يعد يجلس في بيته صار يعيش مع الفرقة. فرحه أن يسمع لحنه والفرقة ترقص على أنغامه، ويرى كيف يتجسد حركة. يتفرج على البروفات، يجدّد، يزيد وينقص، يعيد النظر، من تلقاء نفسه، ببعض ما يضعه حين يشعر أنه على المسرح بحاجة إلى تعديل. «كان التسجيل صعباً، كله نقوم به في استوديو بعلبك مع فريد أبو الخير رحمه الله. نسجّل مرة، مرتين وثلاثاً، حتى يوافق زكي ويقرر أنها مناسبة. كم كان يحب صوته، ويحب أن يغني، أهم شيء هو أن يغني. وصوته روعة، استخدمته في كل مسرحياتي. ولا مرّة فوتت صوته. هو طفل فرح بنفسه، يعرف أنه محبوب، وهو كان كذلك».
حين يعمل يدخل في حالة «ميتامورفوز» ويخرج اللحن والأغاني. بقي يكتب لكركلا دون توقف، إلى أن رحل، وكانت آخر مسرحياته مع الفرقة، «بليلة قمر». هذه المسرحية التي سمّاها سعيد عقل، وما كان بمقدور كركلا إلا أن يقبل بالاسم. هكذا هو سعيد عقل: «حين يستشار لا يمكن إلا أن يطاع».
قبيل وفاته، وكان الرجل في المستشفى، دخل عليه كركلا، فبادره زكي ناصيف ممازحاً إياه باللهجة البعلبكية: «يا خي جيتو (أتيتم) من الجبل» مشدداً على الجيم. فرد كركلا بأن خلع قميصه وبدأ يغني له «هلّي يا دار اللينا»، فإذا به يحاول أن ينهض ويرقص معه وهو في سريره. «كانت هذه المرة الأخيرة التي رأيته فيها، لكنها كانت لحظة فرح، وتوفي بعدها بأسبوع. تقصّدت أن أدبك له كي أنتشله وأعيده إلى زكي ناصيف الذي يعرفه، لا زكي ناصيف طريح الفراش. كم كان مؤثراً وله مكانه في قلوب الناس. هؤلاء لا يعادون. لا بد من أرشيف وطني لعظماء لبنان الذين لن نرى مثلهم مرة أخرى».
إيلي شويري الشاعر الارتجالي
كل شيء في مسار كركلا يعيد إلى بعلبك، وإلى البدايات الذهبية. يومها التقى إيلي شويري في مسرحية روميو لحود «الشلال»، وفي «أيام فخر الدين» للرحبانيين، حيث بقي معهما حتى عام 75. في هذه الفترة ترك عدد من الفنانين الرحابنة، لأنهم صاروا نجوماً.
«كل واحد يشعر أنه أكبر مما يعطى له، كان يمضي. هؤلاء شعروا أنهم بحاجة إلى كرسي أعلى من التي يضعهم عليها الرحابنة، وهذا طبيعي. الذات الفنية حين تنمو لا تقبل تصغيرها، وهذا ما حدث مع إيلي شويري، لكنه بقي من أجمل الأصوات. ولم أرَ في حياتي إنساناً عنده تناغم وإحساس بلفظ الكلمة بصوته، والإيقاع ليؤدي الأغنية من أول مرة من دون خطأ إلا إيلي شويري. هو مايسترو في الغناء وليس مطرباً فقط. لذلك صار كاتب كلمات وملحناً ومطرباً في آنٍ معاً».
أعجب كركلا بصوت إيلي شويري كثيراً. كان واضحاً أنه موهوب. أتى به إلى مسرحه كمطرب في البداية ليشترك معه في مسرحية «بليلة قمر».
كان إيلي شويري معه في إحدى المرات في السيارة إلى بعلبك، وكركلا يخبره بأنه يحضّر عملاً للجزائر، ويشرح له ما يحتاجه منه. جواب شويري جاء أسرع من المتوقع. أطلت السيارة على سهل بعلبك، فإذا به يسمعه يدندن كلمات ملحنة «يا سهووول موجي بخضارك وزيدي بغلالك، دومي حرة واغتني يا سهول الخير». ثم أطلا على الجبل الشرقي، فعاد يدندن «يا جباااال شيبي بجلالك، يا جبلنا للأزل غالي ومنصان». وكان الثلج على الجبال فأوحى له بالشيب. لحظتها أدرك كركلا، كم أنه فنان يتأثر بما يسمع ويرى، وبقي يعمل معه منذ السبعينات وحتى مسرحية «أليسا ملكة قرطاج» عام 1995.
أنسي الحاج به كبرت فرقة كركلا، كما كبرت بسعيد عقل وطلال حيدر، وزكي ناصيف ومارسيل خليفة. هؤلاء يضيفون ويُزهرون. «هنا لا مكان للتجارة، هؤلاء يزرعون شخصياتهم ويعطونك أسمى ما عندهم من رؤى».
إضافة تعليق جديد