آخر الأخبار

هل الكون المتعدد موجود حقا؟

مازال البرهان على وجود أكوان متوازية مختلفة
جذريا عن كوننا مسألة تقع خارج مجال العلم.

<R .F .G. إليس>

 

باختصار

  في تسعينات القرن المنصرم ، قفزت فكرة الأكوان المتوازية من قصص الخيال العلمي إلى المجلات العلمية. فكثير من العلماء يدعي أن ثمة ملايين من أكوان أخرى، لكل منها قوانينه الفيزيائية الخاصة به، وتقع هذه الأكوان وراء أفق رؤيتنا وتعرف باسم الكون المتعدد multiverse.

  وتكمن المشكلة في عدم قدرة أي من الأرصاد الممكنة على رؤية تلك الأكوان الأخرى، والحجج على وجودها غير مباشرة في أفضل الأحوال. وحتى لو كان الكون المتعدد موجودا، فإنه لن يفسر الأسرار العميقة للطبيعة.
 

 

في العقد الماضي، أسر ادعاء غريب ألباب الكوسمولوجيين: إن الكون المتمدد الذي نراه حولنا ليس الوحيـد، وإن بلايين أخرى من الأكوان موجـودة هي أيضا. لا يوجد كون وحيد بل كون متعدد. وفي مقالات نشرتها مجلـة ساينتفيك أمريكان، وكتبٌ مثل آخـر كتاب ألَّفـه <B. گرين> بعنـوان «الحقيقة الخفية (1)»، تحدث علماء كبار عن ثورة تفوق ثورة كوپرنيك(2). إن كوكبنا من وجهة النظر هذه ليس مجرد واحد من بين كثير من الكواكب فحسب بل إن الكون كله شيء تافه في المقياس الكوني للأشياء، فهو ليس سوى واحد فقط من عدد لا يحصى من الأكوان، لكل منها سماته التي تميزه من غيره.
 

لكلمة الكون المتعدد multiverse معان مختلفة. ففي استطاعة الفلكيين رؤية أشياء تبعد عنهم قرابة 42 بليون سنة ضوئية وهي أفق رؤيتهم الكوسمولوجية، ولكن ما من سبب يدعو إلى الظن بأن الكون يتوقف عندها. فقد يوجد بعد هذه المسافة كثير - بل عدد غير منته - من المناطق الشبيهة بالمنطقة التي نراها. ومع أن لكل منها توزعا ابتدائيا للمادة يميزها من غيرها، فإن القوانين الفيزيائية التي تحكمها واحدة. هذا وإن جميع الكوسمولوجيين تقريبا (وأنا منهم) يقبلون بهذا النمط من الكون المتعدد الذي يصفه <M. تكمارك> بأنه من المستوى 1(3). بيد أن بعضهم يذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يقترح أنواعا مغايرة تماما من الأكوان تحكمها قوانين فيزيائية مختلفة، ولها تواريخ مختلفة وربما لكل منها أبعاد مكانية مختلفة. ومع أن معظمها لا حياة فيه، فقد يضج بعضها الآخر بالحياة. ومن الدعاة الرئيسيين للمستوى 2(4) للكون المتعدد <A. فيلنكن>، الذي يرسم صورة مثيرة لمجموعة غير منتهية من الأكوان مع عدد غير منته من المجرات وعدد غير منته من الكواكب وعدد غير منته من الناس الذين ينتمي إليهم قارىء/ قارئة هذه المجلة.
 

لقد قدمت ادعاءات مشابهة منذ العصور القديمة من قبل ثقافات كثيرة. ولكن الجديد هو التأكيد أن الكون المتعدد نظرية علمية، مع كل ما يقتضيه ذلك من كونها دقيقة رياضياتيا(5) وقابلة للاختبار تجريبيا(6). إنني متشكك في هذا الزعم، ولا أعتقد أنه تم إثبات وجود تلك الأكوان الأخرى أو أنه قد يحصل يوما ما. إلا أنه بقدر ما يقوم مؤيدو الكون المتعدد بتوسيع مفاهيمنا للحقيقة الفيزيائية، فإنهم يعيدون ضمنا تعريف ما يعنيه «العِلم».
 

فوق الأفق(**)
 

يقدم المنتمون إلى هذا المفهوم الواسع للكون المتعدد اقتراحات متنوعة تتعلق بالكيفية التي قد تكون تكاثرت بها هذه الأكوان وبالأمكنة التي قد تشغلها. قد تكون موجـودة في بقاع من الفضاء بعيدة جدا عن موقعنا، وهذا ما توصـل إليه نموذج التضخم الشواشي chaotic inflation model الذي أنجزه <H .A. كوت> و<A. لنـد> وآخرون [انظـر: «الكون التضخمي المتجدد ذاتيا»،مجلة العلوم، العددان 8/9 (1995)، صفحة 24]. قد تكون نشأت في عصور مختلفة من الزمن، وهذا ما نصَّ عليه نموذج الكون الدوري(7) الــــذي اقتــرحـــــه <J .P. ســـتاينهـــارت> و<N. تـوروك>(8). وقــــد تكــــون فـي فــضــــائنــــا نفســـه، ولكــــن فـي فـــــرع مخـتـــلـــــف مــــن دالـة الموجة الكمومية quantum wave function، وهـذا ما دافـع عنـــه <D. دوتش>
 

 

إن أكثر الخيارات قبولا على نطاق واسع هو نموذج التضخم الشواشي، لذا سأركز عليه. ومع ذلك، فإن أغلب ملاحظاتي تنطبق كذلك على جميع الخيارات الأخرى. الفكرة هي أن الفضاء بمعناه الواسع، هو خلاء يتمدد إلى الأبد، ويرافق هذا التمدد آثار كمومية تولد باستمرار أكواناً جديدة كالطفل الذي يذر فقاقيع الصابون في الهواء. يعود مفهوم التضخم إلى الثمانينات من القرن العشرين، وقد درسه الفيزيائيون بالتفصيل، معتمدين على أشمل نظرياتهم في الطبيعة: نظرية الأوتار(10) string theory. تسمح نظرية الأوتار بأن تبدو الفقاقيع مختلفة جدا بعضها عن بعض. وفي الحقيقة، لا تبدأ كل منها حياتها بتوزع عشوائي للمادة فحسب، بل أيضا بأنواع عشوائية من المادة. يحتوي عالمنا على جسيمات مثل الإلكترونات والكواركات(11) تتفاعل فيما بينها بتأثير قوى مثل القوة الكهرطيسية؛ أما الأكوان الأخرى، فقد تكون لها أنواع مختلفة من الجسيمات والقوى - أي التي تحكمها قوانين فيزيائية محلية مغايرة. وتعرف المجموعة الكاملة من القوانين المحلية باسم المشهد الطبيعي landscape. وهو مشهد ضخم في بعض توصيفات نظرية الأوتار، يضمن وجود قدر هائل من الأكوان المتنوعة.
 

 

[أخطار الاستقراء الخارجي]

ما الذي يوجد وراء أفق رؤيتنا؟(***)

  حين يحدق الفلكيون في الكون، فإن مدى رؤيتهم تمتد مسافة 42 بليون سنة ضوئية تقريبا، وهو مدى أفق رؤيتنا الذي يمثل المسافة التي قطعها الضوء منذ الانفجار الأعظم (ويمثل أيضا مقدار تمدد حجم الكون منذ حدوث هذا الانفجار). وبافتراض أن الفضاء لا يتوقف عند هذا الحد، وأنه قد يكون لامتناهيا في الكبر، يطرح الكوسمولوجيون تخمينات علمية لما قد تكون عليه بقية الفضاء.
 

  كون متعدد من المستوى 1: معقول لأول وهلة. إن أقرب فرضية تخطر بالبال هي أن حجم فضائنا يمثل عينة من الكون كلّه. والكائنات الغريبة «عنا والبعيدة»، ترى حجوما مختلفة، لكنها جميعا تبدو أساسا متشابهة، ماعدا تغيرات عشوائية في توزع المادة. وهذه المناطق جميعها، المرئية منها وغير المرئية، تكوّن نمطا أساسيا لكون متعدد.
 

  كون متعدد من المستوى 2: مشكوك فيه. يذهب كثير من الكوسمولوجيين شوطا أبعد إذ يتصورون أن الأشياء البعيدة جدا عنا تظهر بمظهر مختلف تماما عما نراه. وربما يكون جوارنا environs إحدى فقاقيع عديدة عائمة في خلفية خاوية. وتختلف القوانين الفيزيائية من فقاعة إلى أخرى، وهذا يؤدي إلى تنوع من النتائج يكاد لا يمكن إدراكه. وقد تكون الفقاقيع الأخرى مستحيلة الرصد، ولو من حيث المبدأ. إن كاتب هذه المقالة، وغيره من المتشككين، يشعرون بالريبة حيال هذا النمط من الكون المتعدد.
 

 

 

كثير من الفيزيائيين الذين يتحدثون عن الكون المتعدد، وبخاصة المدافعين عن مشهد الأوتار، لا يهتمون بالأكوان المتوازية(12) في حد ذاتها؛ فالاعتراضات على الكون المتعدد كمفهوم أمر غير ذي بال بالنسبة إليهم. فنظرياتهم تحيا أو تموت بناء على اتساقها الداخلي وعلى التجارب المختبرية المأمولة؛ وهم يقبلون بوجود كون متعدد كإطار في نظرياتهم غير مهتمين بكيفية نشوئه - لأن هذا الموضوع يعني الكوسمولوجيين.
 

فالمسألة الأساسية في جميع فرضيات الكون المتعدد بالنسبة إلى الكوسمولوجيين هي وجود أفق مرئي كوني(13). إن الأفق هو الحد الذي لا نستطيع الرؤية بعده، لأن الإشارات التي تأتينا من بداية الكون بسرعة الضوء (المنتهية)(14) لم يتوفر لها الوقت الكافي لتصل إلينا من مصادرها الأبعد عنا. وتقع جميع الأكوان المتوازية خارج أفقنا وتظل خارج مجال رؤيتنا، بصرف النظر عن التطورات التقانية. وفي الواقع، فإن هذه الأكوان بعيدة إلى حد يستحيل معه أن يكون لها أي تأثير في كوننا. ولهذا لا يمكن إثبات صحة أي من دعاوى المتحمسين للكون المتعدد مباشرة.
 

ويخبرنا هؤلاء المؤيدون أنه بإمكاننا التحدث بخطوط عريضة عما يحدث على مسافة أكبر من أفقنا الكوني بـ 1000 مرة و10100 مرة و 101.000.000 مرة، لانهاية infinity - انطلاقا من بيانات نحصل عليها ضمن الأفق. إنه استقراء خارجي extrapolation غريب النوع. فقد ينغلق الكون على مقياس كبير جدا، وعندئذ لا وجود هناك للانهاية. وربما تنتهي كل المادة الكونية في مكان ما، وعندئذ يوجد فضاء خال وإلى الأبد بعد ذلك المكان. وربما يبلغ المكان والزمان نهايتيهما في منطقة تفرُّد(15) singularity تحد الكون. ونحن لا نعلم ببساطة ما يحدث في الواقع لأننا لا نمتلك معلومات عن تلك المناطق ولن نمتلكها أبدا.
 

سبع حجج مدعاة للتساؤل(****)
 

معظم مؤيدي نظرية الكون المتعدد علماء متبصرون يعرفون تماما هذه المشكلة، بيد أنهم يظنون أنه مازال بمقدورنا تقديم تخمينات علمية رصينة عما يجري هناك. ويمكن تقسيم حججهم إلى سبعة أنماط واسعة يعاني كل منها علة ما.
 

لا وجود لنهاية الكون. قلّ من يجادل في أن الفضاء يمتد إلى خارج أفقنا الكوني، وأن ثمة مناطق كثيرة أخرى تقع خارج حدود رؤيتنا. فإذا وجد هذا النمط المحدود للكون المتعدد، فبمقدورنا أن نستقرئ خارجيا(16) ما نراه لنرى بقاعا خارج الأفق، مع ارتياب(17) متزايد فيما يتعلق بالبقاع التي تقع على مسافات أبعد. وعندئذ يصبح من السهل تخيل أنماط أكثر تفصيلا للتغير في تلك البقاع، بما في ذلك الفيزياء البديلة التي تحكم البقاع التي لا يمكننا رؤيتها. ولكن العلة في هذا النمط من الاستقراء الخارجي، من المعلوم إلى المجهول، هي أنه ما من أحد يمكنه إثبات أنك على خطأ. فكيف يمكن للعلماء أن يقرروا أن صورة بقعة لا يمكن رصدها من الزمكان هي استقراء خارجي مقبول أو غير مقبول لما نراه؟ هل يمكن أن تكون لأكوان أخرى توزعات ابتدائية مختلفة للمادة، أو هل يمكن أن تكون لها أيضا قيم مختلفة للثوابت الفيزيائية الأساسية كتلك التي تحدد شروط القوى النووية؟ يمكنك القبول بأي منهما بناء على ما تفترضه.
 

تتنبأ الفيزياء المعروفة ببقاع أخرى. تتنبأ النظريات الموحدة المقترحة بكيانات مثل الحقول السُلَّمية scalar fields، وهي حقول مفترضة شبيهة بالحقول الأخرى التي تملأ الفضاء كالحقل المغنطيسي. يقع على مثل هذه الحقول إحداث التضخم الكوني وتوليد أكوان لا حصر لها ad infinitum. تقوم هذه النظريات على أساس جيد نظريا، ولكن طبيعة الحقول المفترضة مجهولة، ولم يكن بمقدور التجريبيين حتى الآن إثبات وجودها، ناهيك عن قياس خواصها المفترضة. والأهم لم يثبت الفيزيائيون أنه يمكن لديناميك dynamics هذه الحقول أن يولد قوانين فيزيائية مختلفة لتعمل في عالم فقاقيع مختلف.
 

إن النظرية التي تتنبأ بعدد غير منته من الأكوان تجتاز اختبارا رصديا أساسيا. يُظهر إشعاع الخلفية الكوني الميكروي الموجة(18) كيف كان يبدو الكون في نهاية حقبة تمدده المبكرة الحارة. وتوحي الأنماط فيه أن كوننا مَرّ فعلا بمرحلة تضخم. ولكن لا تستمر جميع أنماط التضخم إلى الأبد، لتولد عددا غير منته من أكوان الفقاقيع(19). هذا ولا تميز الأرصاد نمط التضخم المطلوب من بين أنماط أخرى. حتى إن بعض الكوسمولوجيين، مثل <ستاينهارت> يحاجون في أن التضخم الأبدي ربما أدى إلى أنماط لإشعاع الخلفية مختلفة عما نراه(20). ولكن <لند> وآخرين لا يوافقون على هذا الرأي. ترى من هو الذي على حق؟ هذا يتوقف على ما تفترضه فيما يتعلق بفيزياء الحقل التضخمي.

 

الثوابت الأساسية منسجمة جيدا مع الحياة. ثمة حقيقة لافتة للنظر تتعلق بكوننا، مفادها أن للثوابت الفيزيائية القيم المطلوبة بالضبط لملاءمة البنى المعقدة، بما في ذلك الكائنات الحية. ويرى <S. واينبرگ> و<M. ريز> و<L. سسكند> وآخرون في وجود هذه الأكوان المتعددة الغريبة(21) تفسيرا أنيقا لهذا التطابق الظاهر. فلو تحققت جميع القيم الممكنة في مجموعة كبيرة بما فيه الكفاية من الأكوان، فلابد عندئذ أن يتحقق في مكان من بينها ما هو صالح للحياة فيه. وقد طبق هذا النوع من المحاكمة، بوجه خاص، على تفسير كثافة الطاقة المعتمة التي تُسرّع تمدد الكون في أيامنا. وإني أتفق مع فكرة أن الكون المتعدد تفسير سليم ممكن لقيمة هذه الكثافة؛ وقد يكون الخيار الوحيد المستند إلى أساس علمي المتوفر لدينا حاليا. ولكن لا أمل لنا في اختباره عن طريق الرصد. أضف إلى ذلك أن معظم التحليلات لهذا الموضوع تفترض أن المعادلات الأساسية في الفيزياء هي نفسها في كل مكان، ولا يتغير فيها سوى الثوابت - لكن إذا اتخذنا موقفا جديا من الكون المتعدد، فلا يتطلب الأمر أن يكون كذلك(22).
 

 

[طاقة معتمة والكون المتعدد]

هل القفاز مناسب؟(*****)

  غالبا ما يذكر مؤيدو كون متعدد، كدليل على وجوده كثافة الطاقة المعتمة التي تهيمن على كوننا. وتزود سيرورة التضخم الأبدية كل كون في كون متعدد بكثافة عشوائية للطاقة المعتمة. وثمة عدد صغير نسبيا من الأكوان قيمة كثافة الطاقة المعتمة فيها منخفضة وقد تصل إلى الصفر؛ لكنها تأخذ قيما أعلى في معظم الأكوان (المنطقة الزرقاء). بيد أن توفر قدر كبير جدا من الطاقة المعتمة يمزق البنى المعقدة اللازمة لاستدامة الحياة (المنطقة الحمراء). لذا يتعين على معظم الأكوان الصالحة لوجود حياة عليها أن تنعم بكثافة معتدلة للطاقة المعتمة (ذروة المنطقة المتداخلة الألوان) – يا للغرابة! وكوننا واحد منها. ومع ذلك، فإن المتشككين في وجود كون متعدد يقولون إن هذه محاكمة دائرية، لا تصح إلا إذا افترضنا منذ البداية وجود كون متعدد. إنه اختبار للاتساق المنطقي وليس برهانا.

 

 

الثوابت الأساسية تلائم تنبؤات الكون المتعدد. وهذه الحجة تصقل سابقتها، إذ تفترض أن الكون ليس أكثر ملاءمة للحياة مما يجب أن يكون عليه بدقة. لقد قيّم المؤيدون احتمالات قيم مختلفة لكثافة الطاقة المعتمة. كلما ازدادت قيمتها ازداد احتمالها، وكلما ازدادت في الوقت نفسه عدائية الكون للحياة فيه. يجب أن تقع القيمة التي نرصدها تماما على الخط الفاصل بين قابلية العيش وعدم قابليته، وتبدو أنها كذلك فعلا [انظر الشكل في هذه الصفحة]. يقع الحرج في هذه الحجة في عدم قدرتنا على تطبيق حجة احتمالية إذا لم يكن هناك كون متعدد لتطبيق مفهوم الاحتمال عليه. لذا فإن الحجة تقبل بالنتيجة المرغوب فيها قبل أن تبدأ؛ وهي ببساطة، غير قابلة للتطبيق إذا كان ثمة كون واحد موجود ماديا. والاحتمال اختبار لاتساق فرضية الكون المتعدد، وليس إثباتا لوجوده.
 

تتنبأ نظرية الأوتار بمجموعة متنوعة من الأكوان. لقد تحولت نظرية الأوتار من كونها نظرية تفسر كل شيء إلى نظرية تجعل كل شيء تقريبا ممكنا. فهي تتنبأ في صيغتها الحالية بأن كثيرا من الخواص الأساسية لكوننا مصادفة صرفة. ولو كان الكون من نوع واحد، لاستحال تفسير تلك الخواص. كيف يمكننا مثلا أن نفهم حقيقة أن الفيزياء تنعم بالضبط بتلك الخواص البالغة التقييد التي تسمح للحياة بالوجود؟ ليس لتلك الخواص معنى إلا إذا كان الكون واحدا من عدة أكوان، لا يميزها شيء؛ إنها، ببساطة، تلك التي نشأت في منطقتنا من الفضاء. فلو كنا نعيش في مكان آخر، لرصدنا خواص مغايرة، لو استطعنا حقا أن نوجد هناك (فالحياة مستحيلة في معظم الأماكن). ولكن نظرية الأوتار ليست نظرية جربت أو اختبرت بل إنها ليست نظرية كاملة(23). ولو كان لدينا برهان على أن نظرية الأوتار صحيحة، لأمكن أن تكون تنبؤاتها النظرية حجة مشروعة ومدعومة نظريا على وجود كون متعدد. ولكن ليس لدينا مثل هذا البرهان.
 

إن كل ما يمكن حدوثه فإنه يحدث. ما الذي يجعل الطبيعة تخضع لبعض القوانين دون سواها؟ عند الإجابة عن هذا التساؤل، يرى بعض الفيزيائيين والفلاسفة أن الطبيعة لم تختر على الإطلاق، وأن جميع القوانين التي يمكن تصورها تطبق في مكان ما. وقد أوحى الميكانيك الكمومي بهذه الفكرة جزئيا، فهو ينص - حسب تعبير <M. كيلمان> الشهير - على أن كل ما هو غير محظور هو إلزامي(24). فالجزيء يسلك جميع المسارات التي يستطيع سلوكها، وما نراه هو المتوسط المتوازن weighted average لجميع هذه الإمكانات. وقد يصح هذا على الكون كله، مما يقتضي وجود كون متعدد. ولكن ليس لدى الفلكيين أدنى فرصة لرصد هذه الإمكانات المتعددة. وفي الواقع، إننا غير قادرين حتى على معرفة ما هي الإمكانات. ويمكننا أن نعطي معنى لهذا الاقتراح إن نحن قبلنا بوجود مبدأ منظم أو إطار لا يمكن التحقق منه، يحدد ما هو المسموح به وما هو المحظور - على غرار القول إن على جميع البنى الرياضياتية(25) الممكنة أن تتحقق في مجال فيزيائي ما (كما اقترح <تكمارك>). إلا أنه ليس لدينا أي فكرة عن أنواع الوجود التي يقتضيها هذا المبدأ، ماعدا أنها يجب أن تتضمن بالضرورة العالم الذي نـــراه من حـــولنـــا. ومن ثم فلا سبيل أمامنا للتثبت من وجود أو طبيعة مثل هذا المبدأ المنظم. إنه على نحو ما، اقتراح جذاب، ولكن تطبيقه المقترح على الواقع ليس سوى تخمين صرف.
 

غياب دليل(******)
 

مع أن الحجج النظرية غير كافية، فقد اقترح الكوسمولوجيون أيضا اختبارات تجربية empirical متنوعة للأكوان المتوازية. وربما يحمل إشعاع الخلفية الكوني الميكروي الموجة بعض آثار أكوان فقاعية أخرى، وذلك، مثلا، فيما لو تصادم كوننا بفقاعة أخرى من النوع الذي يستلزمه سيناريو التضخم الشواشي chaotic inflation. وقد يحتوي أيضا إشعاع الخلفية على بقايا أكوان كانت موجودة قبل الانفجار الأعظم big bang في دورة لا نهاية لها من الأكوان. وهذه، في الحقيقة، وسائل قد توفر دليلا على أكوان أخرى. وقد ذهب بعض الكوسمولوجيين إلى الادعاء برؤية هذه البقايا. بيد أن الادعاءات الرصدية مجال خلاف شديد بينهم، ثم إن كثيرا من الأكوان الممكنة افتراضيا لن تقود إلى مثل هذه الأدلة. لذا فكل ما يمكن أن يختبره الراصد هو بعض الأصناف المعينة لنماذج الكون المتعدد بهذه الطريقة.
 

وثمـة اختبار رصـدي ثـان هو البحث عن التغيرات في واحـد أو أكثـر من الثـوابت الأساسية، التي ستعزز القبـول بالمقدمـة premise القائلـة: إن القـوانين الفيزيائية ليست مع كل ذلك عصية جدا على التغييـر. يدعـي بعض الفلكـيين أنهـم وجـــدوا هــــذه التغييــرات [انظـر: «ثوابت فيزيائية متـغــيـــــرة»، ، الـعـــــدد 9 (2005)، صـفـحـــــة 32]. ومــــع ذلك، فمعظم الباحثين يعد هذا الدليل مشكوكا فيه.
 

وثمة اختبار ثالث هو قياس هيئة الكون الرصود. هل هو كروي الشكل (تحدبه إيجابي) أو زائدي hyperbolic (تحدبه سلبي) أو «منبسط» (غير محدب). وبصورة عامة لا تتنبأ سيناريوهات الكون المتعدد بكروية الكون، لأن الكرة منغلقة على نفسها، وبالتالي فحجمها منته. ولسوء الحظ، فهذا الاختبار ليس دقيقا، فالكون الموجود وراء أفقنا قد يكون له شكل مختلف عن ذاك الموجود في الجزء المرصود؛ وأكثر من ذلك، لا تستثني جميع نظريات الكون المتعدد هندسة كروية spherical geometry.
 

وهناك اختبار أفضل هو طبولوجيا الكون: فهل يلتف الكون حول نفسه مثل كعكة doughnut أو مثل قطعة الحلوى الشهيرة pretzel على شكل عقدة؟ فإذا كان كذلك، فسيكون حجمه منتهيا، الذي قد يستبعد قَطْعا معظم نماذج التضخم، وبوجه خاص، سيناريوهات الكون المتعدد المبنية على التضخم الشواشي. قد يولد أشكالا تتكرر في السماء، مثل الدوائـر العملاقة في إشعاع الخلفية الكوني الميكروي الموجة(26). وقد بحث الراصدون عنها ولكنهم فشلوا في العثور على أي من هذه الأشكال. لا يمكن اعتبار هذه النتيجة اللاغية null في مصلحة الكون المتعدد.
 

وأخيرا، قد يستطيع الفيزيائيون إثبات أو دحض بعض النظــريات التي تتنبــأ بوجــود كــون متعـدد. وربمـــا يعثــرون على دليــــل رصـــــدي يدحــض النمــاذج الشــواشــية للتضــخم، أو يكتشفون تناقضا رياضياتيا أو تجربيا empirical يجبرهم على هجر سيناريو (مشهد) نظرية الأوتار، وسيقوض هذا السيناريو عندئذ أغلب الدوافع لدعم فكرة الكون المتعدد، مع أنه ربما لا يلغي هذا المفهوم برمته.
 

مجال واسع لقول الشيء وعكسه(*******)
 

وبصورة عامة، يمكن القول، إن مسألة الكون المتعدد غير حاسمة. ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى المرونة القصوى في عرضها: فهي مفهوم أكثر من كونها نظرية معرفة جيدا. ويتضمن معظم ما يطرح خليطا من الأفكار المختلفة وليس كلاً متسقاً. فالآلية الأساسية للتضخيم الأبدي لا تجعل الفيزياء مختلفة في كل ساحة من كون متعدد؛ ولهذا فلا بد من أن تقرن بنظرية تأملية أخرى. ومع أنه يمكن الملاءمة بينهما، فلا وجود لشيء محتم في هذا الأمر.
 

إن مفتاح تبرير وجود كون متعدد هو الاستقراء الخارجي من المعلوم إلى المجهول، مما يمكن اختباره إلى ما يستحيل اختباره. وتتوقف الأجوبة على ما اخترنا استقراءه خارجيا. ولما كانت النظريات التي تتضمن كونا متعددا قادرة على تفسير كل شيء تقريبا، فإنه من الممكن لأي رصد أن يتواءم مع أحد أشكال نظرية كون متعدد. وفي الواقع، تقترح «البراهين» المتنوعة قبولَ التفسير النظري بدلا من الإصرار على الاختبار الرصدي. ولكن هذا الاختبار، كان ومازال، المتطلب المركزي للبحث العلمي، والتخلي عنه مجازفة كبرى. وإذا أضعفنا متطلبات البيانات الرصينة، فإننا نضعف السبب الجوهري لنجاح العلم طوال القرون الماضية.
 

والآن، صحيح أن قيمة التفسير الموحد والمرضي لمجال معين من الظواهر هي أهم بكثير من قيمة خليط من الحجج المنفصلة للظواهر نفسها. وإذا كان التفسير الموحد يفترض وجود كيانات لا يمكن رصدها، مثل الأكوان المتوازية، فقد نشعر بأننا مرغمون على قبول هذه الكيانات. بيد أن المشكلة الرئيسية هنا هي كم نحتاج من الكيانات التي لا يمكن التحقق من وجودها؟ وتحديدا، هل نضع فرضيات لكيانات أقل أو أكثر عددا من الظواهر التي سيجري تفسيرها؟ وفي حال الكون المتعدد، فإننا نفترض وجود عدد هائل - وربما عدد غير منته - من الكيانات التي لا يمكن رصدها لتفسير كون واحد فقط. وهو أمر أبعد ما يكون عن صرامة الفيلسوف الإنكليزي <W. أوف أوكهام> الذي عاش في القرن الرابع عشر: «يجب ألا تتضاعف الكيانات أكثر من اللازم.»
 

إن حجة مؤيدي نظرية الكون المتعدد الأخيرة هي عدم وجود بدائل جيدة لها. ومع أننا نجد كعلميين أن تكاثر العوالم المتوازية(27) أمر غير مستساغ، فإننا سنجد أنفسنا مضطرين لقبوله إذا كان التفسير الأفضل. وعلى العكس من ذلك، فإننا بحاجة إلى بديل قابل للنجاح إذا تخلينا عن الأكوان المتعددة. يتوقف استكشاف البدائل على نوع التفسير الذي نريد القبول به. وقد كان أمل الفيزيائيين على الدوام أن لا مفر من قوانين الطبيعة – أن الأمور تأخذ المجرى الذي تأخذه لأنه لا طريق آخر أمامها – لكننا لم نكن قادرين على تبيان صحة هذا الأمر. وهناك أيضا بدائل أخرى. فقد يكون الكـون مجرد صدفة happenstance - شاءت الظروف أن تكون كذلك. أو أنه قد أريد للأشياء على نحو ما، أن تكون على ما هي عليه - فالقصد أو النية، هو بشكل آخر هو أساس الوجود. ولا يستطيع العلم الفصل في هذه الحالة لأن الأمر يتعلق بقضايا ميتافيزيائية.
 

اقترح العلماء الكون المتعدد كطريقة لحل مشكلات عميقة تتعلق بطبيعة الوجود، لكن هذا الاقتراح ترك المشكلات الجوهرية دون حل. فذات المشكلات التي تبرز فيما يتعلق بالكــون تبـــرز ثـــانيــة فيما يتعلق بالكون المتعدد. وإذا كان الكون المتعــدد موجــــودا، فهل كان وجوده من خلال الضرورة أو الصدفة أو القصد؟ هذا سؤال ميتافيزيائي لا يمكن لأي نظرية فيزيائية الإجابة عنه سواء تعلق الأمر بالكون أم بالكون المتعدد.
 

وعلينا، إذا ما أردنا التقدم، التمسك بالفكرة القائلة إن الاختبار التجربي هو جوهر العلم. فنحن بحاجة إلى نوع من الصلة السببية بأي كيانات نقترحها، وإلا فلا حدود. وقد تكون الصلة غير مباشرة إلى حد ما. فإذا كان كيان غير مرصود ضروريا بشكل مطلق لإثبات خواص كيانات أخرى جرى التحقق منها فعلا، فيمكن اعتباره محققا. ويقع عبء إثبات ضرورته المطلقة عندئذ على عاتق التفسير. ولذا أطرح التحدي التالي على مؤيدي الكون المتعدد: هل بمقدوركم البرهان على أن الأكوان المتوازية غير المرئية جوهرية لتفسير العالم الذي نراه؟ وهل هذه الصلة أساسية ولا مفر منها؟
 

وبصفتي متشككا، فإنني أظن أن التأمل في الكون المتعدد هو فرصة ممتازة للتفكير في طبيعة العلم، وفي الطبيعة الجوهرية للوجود: لماذا نحن هنا؟ وهذا يقودنا إلى تبصرات جديدة مثيرة للاهتمام، ومن ثم فهو برنامج مثمر للبحث العلمي. ونحن بحاجة عند النظر إلى هذا المفهوم، إلى عقل منفتح، لكن ليس أكثر مما يلزم، فالطريق صعبة المسالك. هذا وقد تكون الأكوان المتعددة موجودة أو غير موجودة، وهذا أمر لم يفصل فيه بعد في هذه المسألة وعلينا التعايش مع هذا اللايقين. لا غبار على التأملات الفلسفية القائمة على العلم، وهذا هو حال مقترحات تعدد الأكوان. ولكن علينا تسمية الأشياء بأسمائها.

 


المؤلف

 

  George F.R. Ellis

<إليس> كوسمولوجي وأستاذ متميز emeritus للرياضيات في جامعة كيب تاون بجنوب إفريقيا. وهو أحد الخبراء العالميين الرواد في نظرية النسبية العامة لآينشتاين، وقد ألف مع .S< هوكينك> الكتاب الخصب بعنوان The Large Scale Structure of Space-Time [من منشورات مطبعة جامعة كيمبردج عام 1975].

 


  مراجع للاستزادة

 

Issues in the Philosophy of Cosmology. George F. R. Ellis in Philosophy of Physics. Edited by
Jeremy Butterfield and John Earman. Elsevier, 2006. http://arxiv.org/abs/astro-ph/0602280
Universe or Multiverse? Edited by Bernard Carr. Cambridge University Press, 2009.
The Hidden Reality: Parallel Universes and the Deep Laws of the Cosmos. Brian Greene.
Knopf, 2011
Higher Speculations: Grand Theories and Failed Revolutions in Physics and Cosmology.
Helga Kragh. Oxford University Press, 2011.


(*)DOES THE MULTIVERSE REALLY EXIST?

(**)OVER THE HORIZON

(***)What Lies Beyond?

(****)SEVEN QUESTIONABLE ARGUMENTS

(*****)Does the Glove Fit?

(******)ABSENCE OF EVIDENCE

(*******)TOO MUCH WIGGLE ROOM


(1) The Hidden Reality
(2) copernican revolution
(3) level 1

(4) level 2

(5) mathematically

(6) experimentally
(7) cyclic universe model
(8) انظر: “The Myth of the Beginning of Time” by Gabriele Veneziano;
Scientific American, May 2004

(9) spacetime = زمكان، وهذه نحت من زمن-مكان.

(10) انظـر: «الكـون الـذكي»، ، الـعــددان 7/8 (2007)، ص 74: كتابان جديدان يقولان إن الوقت قد حان لإسقاط نظرية الأوتار!
وانظــــر أيضـا: «نظريــة كــل شيء اللامــدركـــة»، العـددان 1/2 (2011)، ص 36.
(التحرير)
(11) quarks
(12) parallel universes

(13) cosmic visual horizon

(14) finite
(15) أو: شذوذ. (التحرير)
(16) extrapolate

(17) uncertainty

(18) the cosmic microwave background radiation
(19) bubble universes
(20) انظر: “The Inflation Debate” by P.J. Steinhardt; Scientific American, April 2011

(21) an exotic multiverse

(22) انظر: “Looking for life in the Multiverse” by Alejandro Jenkins - Gilad Perez;
Scientific American, January 2010
(23) انظر حاشيتنا (3) في الصفحة 67. (التحرير)
(24) everything not forbidden is compulsory

(25) mathematical structures
(26) انظر: “Is Space Finite?” by Jean-Pierre Luminet - Glenn D. Starkman -
Jeffrey R. Weeks; Scientific American, April 1999
(27) parallel worlds

(العلوم-الترجمة العربية لscintific amercan)

إضافة تعليق جديد