بيت جن وحدها (تردع العدوان)
في التاريخ لحظات تتكرر فيها المفارقة كما لو أن الزمن يعيد سرد الحكاية بوجوه مختلفة. ففي مطلع عام 1492، كانت غرناطة تُحاصر وتقاوم وحدها، تستنجد بما تبقى من روح الأندلس، بينما كانت بعض الإمارات الإسلامية القريبة غارقة في أفراح صغيرة وانتصارات هامشية، غير مكترثة لنداء مدينة تتهاوى جدرانها حجراً حجراً. لم تسقط غرناطة فقط تحت سيوف الملوك الكاثوليك، بل أيضاً تحت ثقل اللامبالاة.
صورة قديمة، لكنها استيقظت بوضوح مؤلم عندما استيقظت بيت جن على الفجر ذاته.
ففي الوقت الذي خرج فيه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع يدعو السوريين للاحتفال بذكرى انطلاق عملية “ردع العدوان”، كانت إسرائيل تشنّ عدواناً جديداً على بيت جن، القرية المعلقة عند خاصرة الجولان. كانت القوات الإسرائيلية تتقدم مع أول خيط ضوء، وكأنها تختبر من جديد صبر المكان وقدرته على الدفاع عن نفسه.
في المدن، كان الاحتفال يمضي في طريقه: منصات، أعلام,مفرقعات، هتافات تذكّر بذكريات القوة. لكن في بيت جن، لم يكن ثمة ما يُحتفل به. هناك كانت الرصاصات تكتب الحقيقة، وكان أبناء القرية يقاتلون بما لديهم، يقفون في مواجهة جيش مدجج، يعرفون أن ميزان القوة ليس في صالحهم، لكنهم يرفضون أن يمرّ الغزاة دون مقاومة.
استشهد ثلاثة عشر شابا من أبناء القرية، فيما اعترفت إسرائيل بجرح ستة من جنودها ,ثلاثة منهم بحالة حرجة— اعتراف يكشف أن تلك التلال الصغيرة كانت أعلى مما ظنّ الغزاة.
ومع ذلك، فإن المفارقة لم تتوقف عند حدود بيت جن.
فبينما كانت القرية تقاتل وحدها، كانت الساحات السورية تعج بمظاهر الاحتفال، دون حتى هتاف يدين إسرائيل.
وتزداد المفارقات قتامة حين نقرأ المشهد السوري الأوسع:
ففي تلك اللحظة التي يحتفل فيها الآلاف بذكرى “الردع”، كانت السويداء خارج سيطرة السلطة، وكذلك شمال شرق سوريا، وكانت على أرض البلاد قواعد أمريكية، وأخرى روسية، وثالثة تركية، إضافة إلى وجود نحو 20 ألف جندي تركي يتواجدون بشكل مباشر في الشمال،وغزو متدرج من قبل الجيش الإسرائيلي للجولان , فضلاً عن آلاف المقاتلين الأجانب الذين تتضارب ولاءاتهم وهوياتهم العسكرية والسياسية.
ورغم هذا المشهد المليء بالقوى المتداخلة، يجد بعض السوريين أنفسهم يحتفلون بسيادة منتهكة، وبوطن متعدد الأعلام، وبذكرى عملية لم يكن لها صدى على الأرض في تلك اللحظة إلا في قرية واحدة تحملت العبء عن الجميع.
وهنا يبرز سؤال لا يمكن الهروب منه:
ما الذي يجعل الوعي الوطني يتراجع إلى هذا الحد؟ وكيف يختلط مفهوم السيادة لدى الكثيرين، حتى يصبح الاحتفال بظل الدولة أكثر حضوراً من مواجهة الجراح الحقيقية على الأرض؟
هل هو التعب، أم البروباغندا، أم الخوف، أم الحاجة إلى وهم ينتصر في زمن الخسارات؟
بيت جن، في تلك اللحظة، لم تجادل في معنى السيادة، ولم تتوقف عند جدل الهوية الوطنية. هي فقط عرفت ما يجب فعله: أن الأرض تحتاج من يدافع عنها.
وهكذا، بينما كان الوطن يوزّع الشعارات في الساحات، كانت القرية الصغيرة توزّع دماءها على التراب، وتكتب جملتها الخاصة:
أن الردع لا يُحتفل به، بل يُمارس.
وأن البطولة قد تولد بصمت، بعيداً عن مكبرات الصوت، لكنها تبقى أصدق من كل الهتافات.
(خاص للموقع)