تجربة لينسكي:التطور يحدث أمامنا
تجربة ريتشارد لينسكي الشهيرة، المعروفة باسم
LTEE – Long-Term Evolution Experiment
هي واحدة من أهم التجارب في علم التطور، لأنها سمحت للعلماء بمراقبة التطور في الزمن الحقيقي على مدى عقود، وليس الاعتماد فقط على السجل الأحفوري أو المقارنات الجينية.
فيما يلي شرحًا مبسّطًا ودقيقًا:
ما هي تجربة LTEE؟
هي تجربة بدأت عام 1988 وما تزال مستمرة حتى اليوم، أي أنها تجاوزت 75,000 جيل من البكتيريا E. coli المتواجدة في الأمعاء— وهذا يعادل ملايين السنين من التطور لو قورنت بالكائنات المعقدة.
الهدف كان بسيطًا لكنه ثوري:
ترك مجموعات من بكتيريا E. coli تعيش في بيئة ثابتة، ومراقبة كيفية تطورها عبر الأجيال.
كيف صُمِّمت التجربة؟
لينسكي بدأ بـ 12 سلالة متماثلة وراثيًا من E. coli.
كل يوم:
- تُنقل 1٪ من كل سلالة إلى وسط غذائي جديد.
- يسمح لها بالنمو والتكاثر × 6 أو 7 مرات يوميًا.
- تُجمَّد عيّنات كل 500 جيل في “أرشيف” يمكن العودة إليه — كأنها آلة زمن للمقارنة.
هذه البساطة في التصميم هي ما جعلها قويّة للغاية.
ماذا تراقب التجربة؟
- معدل التكاثر
- تغيّر الجينات
- ظهور طفرات مفيدة
- التنافس بين السلالات
- التكيف مع البيئة
- حدود التطور في بيئة ثابتة
أهم النتائج
1. تطور قدرة جديدة تمامًا: استخدام السيتريت (Citrate)
في عام 2003، لاحظ لينسكي أن إحدى السلالات أصبحت قادرة على استخدام مادة السيتريت كمصدر للطاقة في وجود الأكسجين.
وهو أمر لم تستطع E. coli فعله طوال تاريخها التطوري المعروف.
هذه كانت لحظة تاريخية لأنها:
- تُظهر ظهور صفة تطورية جديدة
- نتجت عن سلسلة من الطفرات التمهيدية (potentiating mutations)
- تُثبت أن التطور ليس عشوائيًا تمامًا بل يتأثر بـ”المسار التاريخي” للسلالة
2. تحسن مستمر في اللياقة (Fitness)
مع أن البيئة ثابتة، إلا أن البكتيريا تستمر في التحسن:
- تكاثر أسرع
- استهلاك أفضل للغذاء
- انخفاض في حجم الخلية (أكثر كفاءة)
ومن المدهش أن التحسن لا يتوقف، بل يتباطأ تدريجيًا — وهذا يشبه منحنى اللياقة في التطور الطبيعي.
3. ظهور “طفرات فائقة” (Hypermutators)
بعض السلالات طورت طفرات في أنظمة إصلاح الـDNA، مما جعلها:
- أسرع في اكتساب الطفرات
- أسرع في التكيف
- لكنها أيضًا أكثر عرضة للطفرات الضارة
تُظهر هذه السلالات توازنًا بين مخاطرة الطفرات وفائدتها التطورية.
4. انعزالات تطورية بين السلالات
حتى مع نفس البيئة، السلالات الـ12 سارت في:
- مسارات مختلفة
- مع طفرات مختلفة
- مع قدرات تكيف مختلفة
ما يبرهن على وجود “قدر كبير من العشوائية” في تفاصيل التطور.
5. “خطوط زمنية” يمكن الرجوع إليها
مع تجميد العينات كل 500 جيل، يمكن للعلماء:
- إحياء سلالة من الماضي
- منافستها مع سلالة حديثة
- رؤية مقدار التطور
- تحديد ترتيب الطفرات الضرورية لتطور صفة معينة
يشبه ذلك وجود سجل أحفوري دقيق جدًا لكن حيّ.
لماذا تعتبر LTEE واحدة من أهم التجارب في العلم؟
- أطول تجربة مستمرة على الإطلاق لمراقبة التطور.
- أثبتت أن التطور قابل للقياس ولإعادة التجربة.
- قدمت دليلًا مباشرًا على ظهور وظائف جينية جديدة.
- سمحت بفهم “قوانين” التطور مثل:
- التكيف المستمر
- القيود التاريخية
- العشوائية مقابل الاتجاه
- حدود الانتقاء الطبيعي
مقارنة مع الإنسان
يمكن مقارنة أجيال تجربة لينسكي (LTEE) بأجيال تطور الإنسان لمعرفة “إلى أي زمن من التاريخ التطوري” تعادل هذه التجربة، لكن مع ملاحظة أن:
جيل البكتيريا قصير جدًا مقارنة بوقت جيل الإنسان، لذلك عدد قليل من أجيال البشر يعادل آلاف أو ملايين أجيال البكتيريا.
ما هو طول الجيل في LTEE؟
في تجربة لينسكي:
- مدة جيل E. coli ≈ 20 دقيقة – 1 ساعة
نتيجة لذلك، يمكن أن تنشأ 6–7 أجيال يوميًا.
حتى اليوم وصلت التجربة إلى نحو 75,000 جيل تقريبًا.
طول الجيل عند الإنسان
في التطور البشري:
- متوسط مدة الجيل = 25 سنة
(هذا رقم متفق عليه في علم الوراثة السكانية).
مقارنة زمنية مباشرة
إذا أردنا “تحويل” 75,000 جيل بكتيري إلى أجيال بشرية:
75,000 جيل في البكتيريا تعادل تقريبًا:1,9مليون سنة عند الإنسان.
قبل 1.9 مليون سنة تقريبًا كنا في مرحلة:
- Homo habilis (الإنسان الماهر)
- بداية Homo erectus (الإنسان المنتصب)
أي الفترة التي بدأ فيها أجداد البشر:
- استخدام الأدوات الحجرية المبكرة
- بدء المشي المستقيم المتطور
- زيادة حجم الدماغ تدريجيًا
بمعنى آخر:
تجربة لينسكي تُمكّننا من رؤية “حجم تطور” يعادل المسافة الزمنية بين الإنسان الحديث وبين بدايات جنس الإنسان Homo.
لكن هناك نقطة مهمة جدًا
رغم أن عدد الأجيال قد يكون مساويًا، إلا أن:
- معدل الطفرات
- حجم الجينوم
- بنية الكائن
- التعقيد
- الضغوط البيئية
كلها تجعل تطور البشر أبطأ بكثير من تطور البكتيريا.
وهذا يعني أن:
75,000 جيل بكتيري = زمن تطوري هائل جدًا عند الإنسان، لكن تأثيره الجيني ليس بمستوى الإبداع الذي يحدث لدى البشر عبر الزمن الطويل.
ومع ذلك، المقارنة مفيدة لتوضيح:
- لماذا تتطور البكتيريا والفيروسات بسرعة
- ولماذا مقاومة المضادات تنشأ خلال أسابيع، بينما تطور الإنسان يحتاج ملايين السنين