لم تحمل أية كلمة لنا من المعاني واللهفة والأمل بغد أفضل كما حملت كلمتا الثورة,والحرية.
وبقيت نفوسنا تهفو لاي تمرد على الظلم بأي شكل كان .
وفي حمأة عواطفنا وتوقنا للتغيير لم يكن هناك متسع من الوقت والتجربة للسؤال : ولكن أية ثورة واي تمرد واية حرية ؟
لقد جاءت الفاشية بهتلر الذي تسلط على أمة متحضرة وقادها للدمار الذاتي , وجاء ستالين باسم الثورة ليطحن عظام السوفييت وجاءت الثورة الفرنسية باسم الحرية والعدالة والمساواة لتنتهي بالمقصلة
ولن نمر على (ثورات)العرب فمآلها معروف..
من البديهي القول أن الدول العربية قد فشلت في بناء أطر عادلة لبناء دول حديثة,بل على العكس فقد أوصلت قوى السيطرة العربية الناس لحالة من العزلة والبعثرة والخوف بحيث بات هؤلاء ينشدون الخلاص تحت أي شعار متاح,
وباتوا يترقبون التغيير ولو كان على وهج قذائف أعداء بلدانهم وعلى وقع أزيز طائراتهم, ولو كان ذلك على حساب وحدة مجتمعهم .
ولقد أوصلهم تمردهم إلى أسوار روما ولكنهم عجزواعن اقتحامها لعلة في بنيتها وتكوينها.
فالناس قالت لا بداية, لقد استمرت الأمور أكثر مما ينبغي وهي مقتنعة أن هناك حقا عادلا يجب أن يسود,ومع نفاذ الصبر تبدأ حركة عكسية تشمل كل ما كان مقبولا في السابق ويصبح الإنسان متوحدا مع هذا الرفض ,بحيث يرى هذا القسم (فقط) من ذاته ويفضل هذا الجزء حتى على حياته ,إلى أن يصل لوضع (كل شيء أو لاشيء). .
وهذا الشعور هو شعور ب(كل) غامض وشعور ب(لاشيء) يبشر بإمكانية تضحية الإنسان في سبيل هذا الكل .
فالمتمرد يريد أن يكون كل شيء وأن يتوحد ذاتيا مع الخير الذي شعر به فجأة أو أن يكون لاشيء.
ويتطور الأمر إلى(الغل) الذي يمكن النظر إليه ك(تسمم ذاتي ) أو كإفراز مشؤوم لعجز مستديم ,يجري ضمن حيز مغلق .
والغل يتلذذ سلفا بآلام يتمنى أن يحس بها من هو موضوع حقده كأن يحضر أصحاب الفضيلة مشاهد الإعدام .
والتمرد لا يمكن أن يكون يهذا المعنى في المجتمعات البدائية (حيث تسود المساواة)أو في المجتمعات الماورائية فالمشكلة قد حلت هنا فقد أعطيت الأجوبة دفعة واحدة وهي خالدة ومقدسة .
والإنسان المتمرد هو الموجود قبل عالم القدسيات ...أو بعده .والمنهمك في المطالبة بوضع إنساني تكون الأجوبة إنسانية يكون كل تساؤل هو تمرد.
أما في عالم القدسيات فيكون كل كلام حمدا وشكرا.
لا يمكن أن يوجد بالنسبة للفكر البشري سوى عالمين: عالم القدسيات وعالم التمرد.(1)
نشأت العلّة في حركة التمرد العربي بداية من خلطها بين هذين العالمين وببنيتها وصولا لبدائلها وانتهاءا باستسلامها وتبعيتها لحركة وفعل الخارج .
وبشكل سريع قوّضت أسس تمردها حتى قبل أن يكتب لها أن تقطف أولى ثمار ونتاج حركتها .
ففي خلفية حركة التمرد يقبع الدافع القدسي-الديني كمحرك أساسي لها .
فهي في الجوهر تمردعلى السيّد,وليس تمردا فكريا وهي استبدال للسيد بسيد آخر يرفع المقدس كشعار له ويختبىء خلفه , فحين تحتج على هذا وجب عليك ان تواجه السيدين معا.
فالقضايا التي تبدأ ب البطالة والفقر والكبت والقمع المجتمعي وحقوق المرأة وحرية العقيدة وصولا للنظام الإقتصادي البديل والحلول المقدمة لردم الهوة بين الأغنياء والفقراء وتحقيق العدالة إلى الخيارات السياسية والإستراتيجية لا تجد لها أية أهمية في حمأة الصراع والإستعجال لتغيير السيد
وعلى الأرض يأخذ الأمر شكلا مريعا من التماهي مع ما يدّعى التمرد عليه ويصبح العنف القائم على إلغاء الآخر المختلف هو المآل .
يكون هناك استبداد , فيصبح هناك استبدادات.
وفي الحقيقة يحدث تماهيان الأول مع المستبد الداخلي , والثاني مع الطغيان العالمي المتفوق والمتقدم .
ولكن هل العنف صفة ملازمة للتمرد؟
إن وصول التوتر والحقد لمرحلة من التراكم يوصل لمقولة:كل شيء أولاشيء ,لا بد ان يتفجر ذلك التمدد بشكل عمودي عنفي ويبقى هو المنفذ الوحيد للإفلات من حالة التدمير الذاتي , وتوجيه العنف للخارج بشكل مدمر وعشوائي هو الطريق الوحيد لتجنب العدوانية التي تدين الذات.
"بالإضافة لإنهيارالإنتماء الإجتماعي والمواطنة ,فالسلطة في المجتمع المتخلف فرصة من اجل التسلط والإستغلال
وهكذا :فكل من تمكن من شيء من القوة سيسلك النهج نفسه ,والعنف على مختلف صوره لا بد أن يكون السائد حين تسنح الفرص."(2)
شاهدت محاضرة ل د.برهان غليون يقول فيها : سوريا هي الساحة الأخيرة في المعركة بين الشرق والغرب ويجب أن يربح أحد الطرفين .
وعن تجربته في (المجلس الوطني) يقول: نحن لسنا جاهزين للديموقراطية بل تسكننا الأنانيات ونحمل أمراضنا معنا ,
وبعد أن ينتقد زملائه في المجلس حيث كل مجموعة تتعامل مع دولة مختلفة يدافع عن طريقة تصرفه بالمال , ثم يقول بثقة يعد شهر أو شهرين سيسقط النظام.
وهو يتماهى بالسلطة كما أشرنا سابقا ويتماهى بالخارج القوي والمتقدم ويستند عليه :فهو ينظر للأمر كمعركة بين الشرق والغرب وهو قد أخذ سلفا موقعه في المعركة :مع الغرب .
وحين سأله أحدهم :هل تقول سيسقط النظام بعد شهر بناء على معلومات ووقائع؟
قال : لا أنا قلت شهر وربما ستة أشهر وربما سنة المهم هذا النظام سيسقط في النهاية.
ومالم يقله: اي ان الغرب سينتصر !؟
حين يتمرد العبد على السيد ,ثمة إنسان يتمرد على إنسان آخر ,على الأرض الباغية بعيدا عن سماء المبادىء فتكون النتيجة فقط:
قتل إنسان.
حين تمرد سبارتاكوس كان تمرد مصارعين مكونا من 70 شخصا انتهى بجيش جرار قوامه سبعون ألفا من العصاة حطموا خيرة الفيالق الرومانية ووصلوا لأسوار روما بالذات .
هذا التمرد لم يات بجديد على المجتمع الروماني بل وعد العبيد ب"حقوق متكافئة" , العاصي يطرح العبودية ويؤكد نفسه مساويا للسيد ,
إنه يريد أن يكون سيدا بدوره.
فجيش العبيد يحرر العبيد ويدخل فورا أسيادهم تحت نير عبوديتهم , بل إن هذا الجيش قد نظم معارك مصارعة بين مئات من المواطنين الرومانيين وأجلس العبيد على المدرجات وهم يهذون هياجا .
إن قتل البشر لا يؤدي إلا إلى المزيد من قتل المزيد منهم , ولتأمين انتصار مبدأ يجب القضاء على مبدأ .
وإن المدينة الفاضلة التي كان يحلم بها سبارتاكوس لن تقام إلا على أنقاض روما .
وهكذا حبن وصل جيشه إلى أسوار روما تجمد الجيش وارتد , كما لو كان يتراجع أمام المبادىء ,أمام النظام .
والحقيقة , بعد الإنتهاء من تدمير المدينة ,ماذا يقام محلها ماخلا هذه الرغبة المتوحشة في العدالة .
انسحب الجيش دون أن يحارب وقرر-بحركة غريبة- أن يعود إلى منبت تمردات العبيد ,إلى صقليه .
لكان هؤلاء المحرومين وقد أصبحوا وحيدين وعزّلا أمام المهام الكبرى التي كانت في انتظارهم , حينئذ بدا الإنكسار والإستشهاد.
وقبل المعركة الأخيرة صلب سبارتاكوس مواطنا رومانيا ليحيط رجاله علما بما ينتظرهم وخلال القتال حاول بشكل محموم ان يبلغ كراسوس قائد الجحافل الرومانية ,
إنه يريد أن يهلك ولكن في مبارزة فردية مع ذلك الذي يمثل -في تلك اللحظة- كل الأسياد .
إنه يقبل بالموت في أسمى مساواة , وهو لا يريد سوى ذلك الإعتراف الأخير بالمساواة .
ولكن يموت سبارتاكوس دون هذا الحلم وتحت ضربات الجنود المرتزقة ,العبيد مثله والذين يقضون على حريتهم وحريته .
أما مقابل المواطن الروماني المصلوب فسينتصب ستة آلاف صليب تثبت لجمهرة العبيد أن لا وجود للمساواة في عالم القوة .
.
قلما يذكر احد إله العصر الجديد ,التجارة والمصالح الإقتصادية والشركات , فهذه الأشياء مقدسة مصونة وليس لأحد الرغبة أو المقدرة لتهديم هياكلها .
ففي عالم يزداد فيه عجزالحكومات عن كبح الشركات وفي سوق عالمية خلت من القواعد والقيود صارت الحكومات تتفرج , وإن دور صنع السلام والحروب اصبح منوطا بشكل كلي بهذه الشركات .
فقد أصبح إبنا اقوى رجلين في الصين وتايوان ابن الرئيس الصيني وابن أغنى رجل في تايوان شريكين في مشاريع كبرى ,مشروع راسماله 4 بلايين دولار لبناء أكبر مصنع لرقائق الحاسوب
ولقد استمرت الحروب الأهلية في أنغولا وسيراليون سنوات عديدة حول الماس والنفط ولقد كان لتجار السلاح دورا كبيرا في إبقاء النزاع اليوغسلافي مشتعلا .
ولقد رأينا تخبط الحكومات , وازدياد ضائقة موارد الدولة المالية في وقت يزداد فيه الأغنياء غنى ,ويقوم هؤلاء بالحلول محل الدولة.
فمثلا انفقت شركة شل 52 مليون دولار على بناء المدارس والمستشفيات في نيجيريا في مناطق أهملتها الحكومة , بعد أن بلغ الإستياء حدا عمد فيه الناس لتفجير خطوط النفط وسرقته.
وتمثل قصة شيكيتا (حرب الموز الكبرى) سمتين رئيسيتين من النظام العالمي الجديد :رقص الحكومات على إيقاع الشركات , وحقيقة ثانية هي لعبة يعادل فيها مكسب الرابح خسارة الخاسر .
الحقيقة أن التمرد المشوب بالغل وفي مجتمعات متخلفة ماورائية على أنظمة مقلوبة على رأسها ,
قد أصبح يسير على رأسه هو أيضا ويرى الاشياء السوية متناقضة وغريبة ومشوهة ,
وهو لن يرى الأشياء سوية إلا إذا كانت مقلوبة ايضا .
ويصرخ هؤلاء عندما يرون شيئا مقلوبا , هاهي ذي الحقيقة , هذا هو الحق
.
أنهم ينسون الحاضر في سبيل المستقبل الغامض ,
ويقيمون ظلما (مؤقتا)من أجل عدالة موعودة وهمية .
هؤلاء الذين يأتون لإنقاذ الإنسان من آلامه وتحريره يسوغون لأنفسهم استخدام كل الأساليب القذرة والمدمرة و يتحولون إذا انتصروا لنقيض الفكرة التي جاؤوا باسمها
والمفارقة المرة هي أنهم أصبحوا عبيدا لأسياد غرباء .
رجل الدين الذي ياتي ليصلح اعوجاجا في فكر ديني ما ويسعى لنبذ الإنشقاق والطائفية , يصبح بدورة انشقاقا وطائفة جديدة .
والأنبياء الذين يأتون لتوحيد الأديان ولكي يوّحدوا المؤمنين ,يتحول الأمر لاحقا لدين جديد لنفي ومقاتلة بقية الأديان.
" أنا أتمرد إذن نحن موجودون " هكذا كان يقول العبد , ثم أضيف :نحن موجودن وحدنا .
لقد حاول التمرد أن يصنع الكينونة وذلك برفض قسم من الوجود باسم قسم آخر , وحينما يصل
إلى شعار (كل شيء أو لاشيء) يصل إلى إنكار كل كينونة وكل طبيعة بشرية أي ينكر ذاته .
يجب أن يضاف : علينا أن نحيا ونحيي لكي نخلق كينونتنا , بدلا من نقتل ونموت لخلق كينونة غيرنا.
إذا بقينا عالما يقترف مثل هذا التنافر في السلطة..
وإذا استمرت الهوة بالإتساع بين السادة الأثرياء والعبيد,وإذا لم يشهد الفكر الغيبي تمردا وثورة
فإن ما سنشهده هو حلول الإحتجاج محل السياسة أولا, والتمرد محل الإحتجاج ثانيا و وانزلاق التمرد للعنف وللقتل كما رأينا
في حركة عدمية لإفناء المجتمع والدولة معا .
وتصح مقولة:
"إذا لم تستعد الدولة الشعب فإن الشعب لن يستعيد الدولة ."(3)
(1)أندريه مالرو-الإنسان المتمرد.
(2)د.مصطفى حجازي -سيكولوجية الإنسان المقهور.
(3) نوريتا فوريس -السيطرة الصامتة.
إضافة تعليق جديد